التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١٣
قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١٥
-الجاثية

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { سَخَّرَ } من التسخير بمعنى التذليل والتيسير. يقال: سخر الله - تعالى - الإِبل للإِنسان، إذا ذللها له، جعلها منقادة لأمره.
أى: الله - تعالى - وحده، هو الذى بقدرته ورحمته { سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ } بأن جعلكم متمكنين من الانتفاع بخيراته، وبأن جعله على هذه الصفة التى تستطيعون منها استخراج ما فيه من خيرات.
وقوله: { لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ.. } بيان لبعض الأسباب التى من أجلها سخر الله - تعالى - البحر على هذه الصفة.
أى: جعل لكم البحر على هذه الصفة، لكى تتمكن السفن من الجرى فيه بأمره - تعالى - وقدرته، ولتطلبوا ما فيه من خيرات، تارة عن طريق استخراج ما فيه من كنوز، وتارة عن طريق التجارة فيها.. وكل ذلك بتيسير الله - تعالى - وفضله ورحمته بكم.
وقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } متعلق بمحذوف. أى: أعطاكم ما أعطاكم من النعم، وجعل البحر على صفة تتمكنون معها من الجرى فيه وأنتم فى سفنكم، ومن استخراج ما فيه من خيرات.. لعلكم بعد ذلك تشكرون الله - تعالى - على هذه النعم، وتستعملونها فيما خلقت من أجله.
وقوله - تعالى -: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ.. } تعميم بعد تخصيص.
أى: يسر لكم الانتفاع بما فى البحر من خيرات، ويسر لكم - أيضاً - الانتفاع بكل ما فى السماوات والأرض من نعم لا تعد ولا تحصى، وكلها منه - تعالى - وحده، لا من أحد سواه.
فقوله: { جَمِيعاً } حال من { وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }، أو تأكيد له. والضمير فى قوله - { مِّنْهُ } - يعود إلى الله - عز وجل -، والجار والمجرور حال من { مَا } أيضا، أى: جميعا كائنا منه - تعالى - لا من غيره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى { مِّنْهُ } فى قوله: { جَمِيعاً مِّنْهُ }؟ وما موقعها من الإِعراب؟
قلت: هى واقعة موقع الحال. والمعنى: أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده. يعنى أنه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم سخرها لخلقه، ويجوز أن يكون خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هى جميعا منه.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } المذكور من تسخير البحر وما فى السماوات والأرض لكم { لآيَاتٍ } ساطعات، وعلامات واضحات، ودلائل بينات، على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وفضله { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فى هذه النعم، ويحسنون شكرها.
وخص المتفكرين بالذكر، لأنهم هم الذين ينتفعون بما بين أيديهم من نعم، إذ بالتفكر السليم ينتقل العاقل من مرحلة الظن، إلى مرحلة اليقين، التى يجزم معها بأن المستحق للعبادة والحمد، إنما هو الله رب العالمين.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحض المؤمنين على التجاوز والصفح، عما يصدر من المشركين من كلمات بذيئة، ومن أفعال قبيحة، حتى يأتى الله بأمره... فقال - تعالى -: { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ }.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها وما روى عن ابن عباس أنها نزلت فى عمر بن الخطاب، شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة فهَّم أن يبطش به، فنزلت.
ومقول القول محذوف لأن الجواب دال عليه. والرجاء هنا: بمعنى الخوف. والمراد بأيام الله: وقائعه بأعدائه.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لأتباعك المؤمنين، على سبيل النصح والإِرشاد، قل لهم: اغفروا يغفروا للمشركين الذين لا يخافون من وقائع الله ونقمته بأعدائه، ولا يتوقعون أن هناك عذابا شديدا سينتظرهم، وأن هناك ثوابا عظيما سينتظر المؤمنين.
فالآية الكريمة توجيه حكيم للمؤمنين إلى التسامح والصبر على كيد أعدائهم، حتى يأتى الله - تعالى - بأمره، الذى فيه النصر للمؤمنين، والخسران للكافرين.
وقوله - سبحانه -: { لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } علة للأمر بالصفح والمغفرة، وهو متعلق بما قبله، والمراد بالقوم: المؤمنون الذين أمروا بالتسامح والعفو.. والتنكير فى لفظ { قَوْماً } للتعظيم.
أى: أمر الله المؤمنين بذلك، ليجزيهم يوم القيامة بما كسبوا فى الدنيا من الأعمال الصالحة، التى منها الصبر على أذى أعدائهم، والإِغضاء عنهم، واحتمال المكروه منهم.
قال صاحب الكشاف: قوله: { لِيَجْزِيَ قَوْماً } تعليل للأمر بالمغفرة أى إنما أمروا بأن يغفروا، لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة.
فإن قلت: قوله: { قَوْماً } ما وجه تنكيره، وإنما أراد الذين آمنوا وهم معارف؟
قلت: هو مدح لهم وثناء عليهم، كأنه قيل: ليجزى أيما قوم. أو قوما مخصوصين، لصبرهم وإغضائهم على أعدائهم من الكفار، وعلى ما كانوا يجرعونهم من الغصص.
ثم عقب - سبحانه - على ذلك بما يؤكد عدالة الجزاء، واحتمال كل نفس لما تعمله فقال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا }.
أى: من عمل عملا صالحا، فثواب هذا العمل يعود إلى نفسه، ومن عمل سيئا فعقاب هذا العمل يعود عليها - أيضا -.
{ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } يوم القيامة فترون ذلك رأى العين، وتشاهدون أن كل إنسان سوف يجازى على حسب عمله، إن خيرا فخير، وإن شراً فشر.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعم الله - سبحانه - على بنى إسرائيل، وعن موقفهم منها، وأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسك بالشريعة التى أنزلها الله - سبحانه - عليه.. فقال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ... وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }.