التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ
١١
وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ
١٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٣
أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤
-الأحقاف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى -: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } روايات منها: أن مشركى مكة حين رأوا أن أكثر المؤمنين من الفقراء، كعمار، وبلال، وعبد الله بن مسعود.. قالوا ذلك.
وسبب قولهم هذا، اعتقادهم الباطل، أنهم هم الذين لهم عند الله العظمة والجاه والسبق إلى كل مكرمة، لأنهم هم أصحاب المال والسلطان، أما أولئك الفقراء فلا خير فيهم، ولا سبق لهم إلى خير..
أى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا - على سبيل السخرية والاستخفاف بهم -، لو كان هذا الذى أنتم عليه من الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - حقا وخيرا، لما سبقتمونا إليه، ولما سبقنا إليه غيركم من المؤمنين لأننا نحن العظماء الأغنياء.. وأنتم الضعفاء الفقراء..
فهم - لانطماس بصائرهم وغرورهم - توهموا أنهم لغناهم وجاههم هم المستحقون للسبق إلى كل خير، وأن غيرهم من الفقراء لا يعقل ما يعقلونه، ولا يفهم ما يفهمونه.. ومن الآيات الكريمة التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ.. } }. وقوله - سبحانه -: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } تعجيب من غرروهم وعنادهم، ورميهم بما هو برئ منه.
و "إذ" ظرف لكلام محذوف دل عليه الكلام، أى: وإذا لم يهتدوا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه، ظهر عنادهم واستكبارهم وقالوا هذا القرآن كذب قديم من اخبار السابقين، نسبه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه.
وشبيه بهذا الآية. قوله - تعالى -:
{ { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً.. } }. ثم بين - سبحانه - أن هذا القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية التى سبقته فقال - تعالى -: { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً.. }.
أى: ومن قبل هذا القرآن الذى أنزلناه على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان كتاب موسى وهو التوراة { إِمَاماً } يهتدى به فى الدين { وَرَحْمَةً } من الله - تعالى - لمن آمن به.
وقوله: { وَمِن قَبْلِهِ } خبر مقدم، و { كِتَابُ مُوسَىٰ } مبتدأ مؤخر، وقوله: { إِمَاماً وَرَحْمَةً } حالان من { كِتَابُ مُوسَىٰ }.
والمقصود من هذه الجملة الكريمة، الرد على قولهم فى القرآن { هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } فكأنه - تعالى - يقول لهم: كيف تصفون القرآن بذلك، مع أنه قد سبقه كتاب موسى الذى تعرفونه، والذى وافق القرآن فى الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده، وفى غير ذلك من أصول الشرائع.
ثم مدح - سبحانه - هذا القرآن بقوله: { وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ }.
أى: وهذا القرآن الذى أنزلناه على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدق لكتاب موسى الذى هو إمام ورحمة، ومصدق لغيره من الكتب السماوية السابقة وأمين عليها، وقد أنزلناه بلسان عربى مبين، امتنانا منا على من بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم وهم العرب.
وقد اقتضت حكمتنا أن نجعل من وظيفة هذا الكتاب: الإِنذار للظالمين بسوء المصير إذا ما أصروا على ظلمهم، والبشارة للمحسنين بحسن عاقبتهم بسبب إيمانهم وإحسانهم.
فاسم الاشارة فى قوله: { وَهَـٰذَا } يعود للقرآن الكريم، وقوله مصدق صفة لكتاب.
وقوله { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } حال من الضمير فى "مصدق" الذى هو صفة للكتاب والضمير فى "لينذر" يعود إلى الكتاب، و "الذين ظلموا" مفعوله. أى: لينذر الكتاب الذين ظلموا، وقوله: { وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ } فى محل نصب عطفا على محل "لينذر".
وقال - سبحانه - فى صفة هذا الكتاب { مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً } ولم يقل: مصدق لكتاب موسى، للتنبية على أنه مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب السماوية السابقة.
والتعبير بقوله { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } فيه تكريم للعرب، وتذكير لهم بنعمة الله عليهم، حيث جعل القرآن الذى هو أجمع الكتب السماوية للهدايات والخيرات بلسانهم، وهذا يقتضى إيمانهم به، وحصرهم على اتباع إرشاداته.
وقوله - تعالى -: { لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ } بيان لوظيفة هذا الكتاب، وتحديد لمصير كل فريق، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من من حى عن بينه.
ثم فصل - سبحانه - ما أعده للمحسنين من جزيل الثواب فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ... } أى: قالوا ذلك بألسنتهم، وصدقت هذا القول قلوبهم { ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } بعد ذلك على صراط الله المستقيم، بأن فعلوا بإخلاص وطاعة كل ما أمرهم - سبحانه - بفعله، واجتنبوا بقوة كل ما أمرهم بإجتنابه، وقوله: { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } خبر "إن" وجئ بالفاء فى خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط.
أى: إن الذين قالوا ذلك، ثم استقاموا وثبتوا على طاعتنا فلا خوف عليهم من لحوق مكروه بهم، ولا هم يحزنون بسبب فوات محبوب لديهم، وإنما هم فى سعادة مستمرة، وفى سرور دائم، لا يعكره خوف من مستقبل مجهول، ولا حزن على أمر قد مضى.
{ أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بما ذكر من الإِيمان والاستقامة، هم { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } خلودا أبديا. { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى: يجزون هذا الجزاء الطيب بسب أعمالهم الصالحة، التى كانوا يعملونها فى الدنيا.
وبعد هذا الحديث عن حقيقة هذا الدين، وعن حسن عاقبة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، جاء الحديث عن وجوب الإِحسان إلى الوالدين وعما يترتب عليه هذا الإِحسان من ثواب عظيم، قال - تعالى -: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ... كَانُواْ يُوعَدُونَ }.