التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
١٧
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ
١٨
فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
١٩
-محمد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وضمير الجمع فى قوله - تعالى -: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعود إلى هؤلاء الكافرين الذين يأكلون كما تأكل الأنعام، وذلك باعتبار أن المنافقين فرقة من الكافرين، إلا أنها تخفى هذا الكفر وتبطنه.
كما يحتمل أن يعود إلى كل من أظهر الإِسلام، باعتبار أن من بينهم قوما قالوا كلمة الإِسلام بأفواههم دون أن تصدقها قلوبهم.
وعلى كل حال فإن النفاق قد ظهر بالمدينة، بعد أن قويت شوكة المسلمين بها. وصاروا قوة يخشاها أعداؤهم، هذه القوة جعلت بعض الناس يتظاهرون بالإِسلام على كره وهم يضمرون له ولأتباعه العداوة والبغضاء... ويؤيدهم فى ذلك اليهود وغيرهم من الضالين.
أى: ومن هؤلاء الذين يناصبونك العداوة والبغضاء - أيها الرسول الكريم قوم يستمعون إليك بآذانهم لا بقلوبهم.
{ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } أى: من مجلسك الذى كانوا يستمعون إليك فيه، { قَالُواْ } على سبيل الاستهزاء والتهكم { لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } من أصحابك، الذين فقهوا كلامك وحفظوه.
{ مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى: ماذا كان يقول محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نفارق مجلسه.
فقوله: { آنِفاً } اسم فاعل، ولم يسمع له فعل ثلاثى، بل سمع ائتنف يأتنف واستأنف يستأنف بمعنى ابتدأ.
قال القرطبى: قوله: { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أى: ماذا قال الآن.. فآنفا يراد به الساعة التى هى أقرب الأوقات إليك، من قولك استأنفت الشئ إذا ابتدأت به ومنه قولهم: أمر أُنُف، وروضة أُنُف، أى: لم يرعها أحد.
وقال الآلوسى ما ملخصه: قوله: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ... } هم المنافقون، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ، كما أن جمعه باعتبار المعنى.
قال ابن جرير، كانوا يحضرون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم.
ومقصودهم بقولهم: { مَاذَا قَالَ آنِفاً } الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام.
و { آنِفاً } اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له ثلاثى، بل المسموع: استأنف وأتنف.
ثم بين - سبحانه - حالهم فقال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ }. أى: أولئك المنافقون الذين قالوا هذا القول القبيح، هم الذين طبع الله - تعالى - على قلوبهم بأن جعلها بسبب استحبابهم الضلالة على الهداية لا ينتفعون بنصح، ولا يستجيبون لخير، وهم الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم فصاروا لا يعقلون حقا، ولا يفقهون حديثا.
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه هؤلاء المنافقون من مكر وخداع، ومن خبث وسوء طوية. وترد عليهم بهذا الذم الشديد الذى يناسب جرمهم.
ثم يعقب - سبحانه - على ذلك ببيان حال المؤمنين الصادقين فيقول: { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }.
أى: هذا هو حال المنافقين، وهذا هو الحكم الذى يناسبهم، أما الذين اهتدوا إلى الحق، واستجابوا له، وخالطت بشاشته قلوبهم، فهم الذين زادهم الله - تعالى - هداية على هدايتهم. وزادهم علما وبصيرة وفقها فى الدين، ومنحهم بفضله وإحسانه خلق التقوى والخشية منه، والطاعة لأمره، وكافأهم على ذلك بما يستحقون من ثواب جزيل.
ثم تعود السورة الكريمة إلى توبيخ هؤلاء المنافقين على غفلتهم وانطماس بصائرهم، فتقول: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ }؟.
فالاستفهام للإِنكار والتعجب من حالهم، وقوله { أَن تَأْتِيَهُمْ } بدل اشتمال من الساعة، والأشراط جمع شَرَط - بالتحريك مع الفتح - وهو العلامة، وأصله الإِعلام عن الشئ.
يقال: أشرط فلان نفسه لكذا، إذا أعلمها له وأعدها، ومنه الشرطى - كتركى - والجمع شُرَط - بضم ففتح - سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، وتميزهم عن غيرهم.
وقوله: { فَأَنَّىٰ لَهُمْ } خبر مقدم و { ذِكْرَاهُمْ } مبتدأ مؤخر، والضمير فى قوله { جَآءَتْهُمْ } يعود إلى الساعة، والكلام على حذف مضاف قبل قوله { ذِكْرَاهُمْ } أى: فأنى لهم نفع ذكراهم؟
والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الجاهلون إلا الساعة، التى سيفاجئهم مجيؤها مفاجأة بدون مقدمات، والحق أن علاماتها قد ظهرت دون أن يرفعوا لها رأسا، ودون أن يعتبروا بها أو يتعظوا لاستيلاء الأهواء عليهم.
ولكنهم عندما تداهمهم الساعة بأهوالها، ويقفون للحساب. يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله.. ولكن إيمانهم فى ذلك الوقت لن ينفعهم، لأنه جاء فى غير محله الذى يقبل فيه، وتذكرهم واتعاظهم - أيضا - لن يفيدهم لأنه جاء بعد فوات الأوان.
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى -:
{ { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } }. وقوله - تعالى -: { { وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } }. وقوله - عز وجل -: { { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } }. قال الآلوسى: الظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا: علاماتها التى كانت واقعة إذ ذاك، وأخبروا أنها علامات لها، كبعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج أحمد والبخارى ومسلم والترمذى عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت أنا والساعة كهاتين - وأشار بالسبابة والوسطى" .
وأراد - صلى الله عليه وسلم - مزيد القرب بين مبعثه والساعة، فإن السبابة تقرب من الوسطى.
وأخرج أحمد عن بريدة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول:
"بعثت أنا والساعة جميعا. وإن كادت لتسبقنى" وهذا أبلغ فى إفادة القرب.
وعدوا منها انشقاق القمر الذى وقع له - صلى الله عليه وسلم - والدخان الذى وقع لأهل مكة، أما أشراطها مطلقا فكثيرة، ومنها ككون الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون فى البنيان.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يداوم على استغفاره وطاعته لله - تعالى - وأن يأمر اتباعه بالاقتداء به فى ذلك فقال: { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ }.
والفاء فى قوله: { فَٱعْلَمْ } للإِفصاح عن جواب شرط معلوم مما مر من آيات.
والتقدير: إذا تبين لك ما سقناه عن حال السعداء والأشقياء، فاعلم أنه لا إله إلا الله، واثبت على هذا العلم، واعمل بمقتضاه، واستمر على هذا العمل { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } أى: واستغفر الله - تعالى - من أن يقع منك ذنب، واعتصم بحبله لكى يعصمك من كل ما لا يرضيه. واستغفر - أيضا { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } بأن تدعو لهم بالرحمة والمغفرة { وَٱللَّهُ } - تعالى - بعد كل ذلك { يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أى: يعلم كل متقلب وكل إقامة لكم سواء أكانت فى بر أم فى بحر أم فى غيرهما.
والمقصود: أنه - تعالى - يعلم جميع أحوالكم ولا يخفى عليه شئ منها، والمتقلب: المتصرف، من التقلب وهو التصرف والانتقال من مكان إلى آخر. والمثوى: المسكن الذى يأوى إليه الإِنسان، ويقيم به.
قال الإِمام ابن كثير: وقوله: { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله، ولا يتأتى كونه آمرا بعلم ذلك، ولهذا عطف عليه بقوله: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ }.
وفى الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول:
"اللهم اغفر لى خطيئتى وجهلى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى. اللهم اغفر لى هزلى وجدى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى" .
وفى الصحيح أنه كان يقول فى آخر الصلاة: "اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت. وما أنت أعلم به منى، أنت إلهى لا إله إلا أنت" .
وفى الصحيح أنه قال: "يأيها الناس. توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" .
ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب المداومة على استغفار الله - تعالى - والتوبة إليه توبة صادقة نصوحا.
لأنه إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الذى غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - قد أمره - سبحانه - بالاستغفار، فأولى بغيره أن يواظب على ذلك، لأن الاستغفار بجانب أنه ذكر لله - تعالى - فهو - أيضا شكر له - سبحانه - على نعمه.
وقد توسع الإِمام الآلوسى فى الحديث عن معنى قوله - تعالى -: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ.. } فارجع إليه إن شئت.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال المنافقين عندما يدعون إلى القتال فى سبيل الله، وكيف أنهم يستولى عليهم الذعر والهلع عند مواجهة هذا التكليف، وكيف سيكون مصيرهم إذا ما استمروا على هذا النفاق. فقال - تعالى -: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ... عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }.