التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ
٢٠
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
٢١
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ
٢٢
أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ
٢٣
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ
٢٤
-محمد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى ما ملخصه: لما بين الله حال المنافق والكافر، والمهتدى المؤمن عند استماع الآيات العلمية، من التوحيد والحشر وغيرهما.. أتبع ذلك ببيان حالهم فى الآيات العملية، فإن المؤمن كان ينتظر ورودها، ويطلب تنزيلها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول: هلا أمرت بشئ من العبادة.
والمنافق كان إذا نزلت الآية أو السورة وفيها تكليف كره ذلك.. فذكر - سبحانه - تباين حال الفريقين فى العلم والعمل. فالمنافق لا يفهم العلم ولا يريد العمل، والمؤمن يعلم ويحب العمل.
فقوله - تعالى -: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } حكاية لتطلع المؤمنين الصادقين إلى نزول القرآن، وتشوقهم إلى الاستماع إليه، والعمل بأحكامه.
أى: ويقول الذين آمنوا إيمانا حقا، لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله هلا نزلت سورة جديدة من هذا القرآن الكريم، الذى نحبه ونحب العمل بما فيه من هدايات وآداب وأحكام وجهاد فى سبيل الله - عز وجل -.
قوله: { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ.. } بيان لموقف المنافقين من الجهاد فى سبيل الله، وتصوير بديع لما انطوت عليه نفوسهم من جبن خالع.
والمراد بقوله { مُّحْكَمَةٌ }: أى: واضحة المعانى فيما سيقت له من الأمر بالجهاد فى سبيل الله، بحيث لا يوجد مجال لتأويل معناها على الوجه الذى سيقت له.
أى: هذا هو حال المؤمنين بالنسبة لحبهم للقرآن الكريم، أما حال المنافقين فإنك تراهم إذا ما أنزلت سورة فاصلة بينة تأمر أمرا صريحا بالقتال لإِعلاء كلمة الله تراهم ينظرون إليك كنظر من حضره الموت فصار بصره شاخصا لا يتحرك من شدة الخوف والفزع.
والمقصود أنهم يوجهون أبصارهم نحو النبى - صلى الله عليه وسلم - بحدة وهلع، لشدة كراهتهم للقتال معه، إذ فى هذا القتال عز للإِسلام، ونصر للمؤمنين، والمنافقون يبغضون ذلك.
فالآية الكريمة ترسم صورة خالدة بليغة لكل نفس لئيمة خوارة، مبتوتة عن الإِيمان، وعن الفطرة السليمة، متجردة عن الحياء الذى يستر مخازيها.
وقوله - تعالى - { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ } تهديد ووعيد لهم على جبنهم وخبث طويتهم.
وقوله { أَوْلَىٰ } يرى بعضهم أنه فعل ماض بمعنى قارب، وفاعله ضمير يعود إلى الموت، أى: قاربهم ما يهلكهم وهو الموت الذى يرتعدون منه..
ويرى آخرون أن قوله { أَوْلَىٰ } اسم تفضيل بمعنى أحق وأجدر، وأنه خبر لمبتدأ محذوف، واللام بمعنى الباء. أى: فالعقاب والهلاك أولى بهم وأحق وأجدر. ويكون قوله - تعالى - بعد ذلك { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف والخبر محذوف.
أى: طاعة وقول معروف منكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير لكم من هذا السلوك الذميم.
ويصح أن يكون قوله - سبحانه - { أَوْلَىٰ } مبتدأ. وقوله { لَهُمْ } متعلق به. والخبر قوله { طَاعَةٌ }. واللام فى { لَهُمْ } أيضا. بمعنى الباء.
ويكون المعنى: أولى بهؤلاء المنافقين من أن ينظروا إليك نظر المغشى عليه من الموت، الطاعة التامة لك، والقول المعروف أمامك، لأن ذلك يحملهم متى أخلصوا قلوبهم لله - تعالى - على الإِقلاع عن النفاق.
ولعل هذا القول الأخير هو أقرب الأقوال إلى سياق الآيات، لأن فيه إرشاداً لهم إلى ما يحميهم من تلك الأخلاق المرذولة التى على رأسها الخداع والجبن والخور.
وقوله: { فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } متعلق بما قبله.
أى: أولى لهم الطاعة والقول المعروف، وأولى لهم وأجدر بهم إذ جد الجد، ووجب القتال، أن يخلصوا لله - تعالى - نياتهم، فإنهم لو صدقوا الله فى إيمانهم، لكان صدقهم خيرا لهم، من تلك المسالك الخبيثة التى سلكوها مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشوكانى: قوله { فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ } عزم الأمر أى جد الأمر والقتال ووجب وفرض.
وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه على سبيل المجاز. وجواب { إِذَا } قيل هو { فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ } وقيل محذوف والتقدير: كرهوه أى: إذا جد الأمر ولزم القتال خالفوا وتخلفوا.
ثم بين - سبحانه - ما هو متوقع منهم، ووجه الخطاب إليهم على سبيل الالتفات ليكون أزجر لهم، فقال: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ }.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه، وهو أنهم كانوا يقولون: كيف نقاتل العرب وهم من ذوى أرحامنا وقبائلنا.
والاستفهام للتقرير المؤكد، وعسى للتوقع، وفى قوله { إِن تَوَلَّيْتُمْ } وجهان: أحدهما: أنه من الولاية، يعنى: فهل يتوقع منكم - أيها المنافقون - إن أخذتم الولاية وسار الناس بأمركم، إلا الإِفساد فى الأرض وقطع الأرحام؟
وثانيهما: أنه من التولى بمعنى الإِعراض وهذا أنسب - أى: إن كنتم تتركون القتال، وتقولون فيه الإِفساد وقطع الأرحام، لكون الكفار أقاربنا، فإن فى هذه الحالة لا يتوقع منكم إلا الإِفساد وقطع الأرحام كما كان حالكم فى الجاهلية.
وعلى كلا القولين فالمقصود من الآية توبيخهم على جبنهم وكراهتهم لما يأمرهم به النبى - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد فى سبيل الله - تعالى -، وتقريعهم على أعذارهم الباظلة، ببيان أنهم لو أعرضوا عن القتال وخالفوا تعاليم الإِسلام فلن يكون منهم إلا الإِفساد وقطع الأرحام، وكذلك سيكون حالهم لو تولوا أمور الناس، وكانوا حكاما لهم.
وقوله: { أَن تُفْسِدُواْ.. } خبر عسى، وقوله: { إِن تَوَلَّيْتُمْ.. } جملة معترضة، وجواب { إِن } محذوف لدلالة قوله: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ.. } عليه.
أى: ما يتوقع منكم إلا الإِفساد وقطع الأرحام، إن أعرضتم عن تعاليم الإِسلام، أو إن توليتم أمور الناس، فأحذروا أن يكون منكم هذا التولى الذى سيفضى بكم إلى سوء المصير، الذى بينه - سبحانه - فى قوله: { أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أى: طردهم من رحمته { فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } بأن جعلهم بسبب إعراضهم عن الحق - كالصم الذين لا يسمعون، وكالعمى الذين لا يبصرون، لأنهم حين عطلوا أسماعهم وأبصارهم عن التدبر والتفكر صاروا بمنزلة الفاقدين لتلك الحواس.
ثم ساق - سبحانه - ما يدعو إلى التعجيب من حالهم فقال: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ.. } والفاء للعطف على جملة محذوفة، والاستفهام للإِنكار والزجر. أى: أيعرضون عن كتاب الله - تعالى - فلا يتدبرونه مع أنه زاخر بالمواعظ والزواجر والأوامر والنواهى.
{ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }، أى، بل على قلوب هؤلاء المنافقين أقفالها التى حالت بينهم وبين التدبر والتفكر، والأقفال: جمع قفل - بضم فسكون - وهو الآلة التى تقفل بها الأبواب وما يشبهها، والمراد: التسجيل عليهم بأن قلوبهم مغلقة، لا يدخلها الإِيمان، ولا يخرج منها الكفر والنفاق.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها؟
قلت: أما التنكير ففيه وجهان: أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها فى ذلك. أو يراد على بعض القلوب وهى قلوب المنافقين. وأما إضافة الأقفال، فلأنه يريد الأقفال المختصة بها، وهى أقفال الكفر التى استغلقت فلا تنفتح.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } }. وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها، وجوب التدبر والتفكر فى آيات القرآن الكريم، والعمل بما فيها من هدايات وإرشادات، وأوامر ونواه، وآداب وأحكام، لأن عدم الامتثال لذلك يؤدى إلى قسوة القلوب وضلال النفوس، كما هو الحال فى المنافقين والكافرين.
ثم تواصل السورة حديثها عن المنافقين، فتفصح عن الأسباب التى حملتهم على هذا النفاق، وتصور أحوالهم السيئة عندما تتوفاهم الملائكة، وتهددهم بفضح رذائلهم، وهتك أسرارهم.. قال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ... وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }.