التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ
٢٠
يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ
٢١
قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ
٢٢
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٣
قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
٢٤
قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٥
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٦
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد، وعزيمة خوارة، وعصيان لرسلهم. وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهى تحكى بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة، وملخص هذه القصة:
أن بنى إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى - عليه السلام - إلى بلاد الشام، عقب غرق فرعون أمام أعينهم. أوحى الله - تعالى - إلى موسى أن يختار من قومه اثنى عشر نقيبا، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التى كان يسكنها الكنعانيون حينئذ. ليتحسسوا أحوال سكانها، وليعرفوا شيئا من أخبارهم.
وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله:
{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } ولقد نفذ موسى - عليه السلام - ما أمره به ربه - سبحانه -، وكان مما قاله موسى للنقباء عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة: "لا تخبروا أحد سواى عما ترونه".
فلما دخل النقباء الأرض المقدسة، واطلعوا على أحوال سكانها. وجدوا منهم قوة عظيمة، وأجساما ضخمة.. فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له - وهو فى جماعة من بنى إسرائيل -: قد جئنا إلى الأرض التى بعثتنا إليها، فإذا هى فى الحقيقة تدر لبنا وعسلا، وهذا شىء من ثمارها، غير أن الساكنين فيها أقوياء، ومدينتهم حصينة. وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال. إلا اثنين منهم، فإنما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى - عليه السلام - وبقتال الكنعانيين معه. ولكن بنى إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة "وأصروا على عدم الجهاد، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا فى مصر أو فى هذه البرية.
وحاول موسى - عليه السلام - أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين؛ ولكنهم عموا وصموا.
وأوحى الله - تعالى - إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم.
هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت فى كتب التفسير والتاريخ. وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين - الذين ورد ذكرهم فى الآيات الكريمة - لا تقبلها العقول السليمة، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هى مما يستحى من ذكره كما قال ابن كثير.
هذا، وقوله - تعالى -: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق.
و (إذا) ظرف للزمن الماضى بمعنى وقت. وهو مفعول به لفعل ملاحظ فى الكلام، تقديره اذكر. وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات.
أى: واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإِرشاد: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. أى: تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة.
والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب.
قال أبو السعود: وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت، دون ما وقع فيه من حوادث، - مع أنها هى المقصودة، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا".
وفى قول موسى لهم - كما حكى القرآن عنه -: { يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } تلطف معهم فى الخطاب، وحمل لهم على شكر النعمة، واستعمالها فيما خلقت له لكى يزيدهم الله منها. وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التى تجعله منهم، يهمه ما يهمهم، ويسعده ما يسعدهم، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم.
وقوله - تعالى -: { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم.
أما النعمة الأولى: فهى جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون، واسحق، ويعقوب، ويوسف، - عليهم السلام -. وقد أرسل الله - تعالى - هؤلاء الأنبياء وغيرهم فى بنى إسرائيل، لكى يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، إلى نور الهداية والطاعة والإِيمان.
والتنكير فى قوله { أَنْبِيَآءَ } للتكثير والتعظيم. أى: تذكروا يا بنى إسرائيل نعم الله عليكم، وأحسنوا شكرها، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد.
قال صاحب الكشاف: "لم يبعث الله فى أمة ما بعث فى بنى إسرائيل من الأنبياء".
وأما النعمة الثانية: فهى جعلهم ملوكا. أى: جعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب.
أى: جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم، بعد أن كنتم لا تملكون شيئاً من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه.
قال الآلوسى: "أخرج البخارى عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوى إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال الرجل: فإن لي خادما. قال عبد الله: فأنت من الملوك".
واخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا" .
وهذه النعمة - أى: نعمة الحرية بعد الذل، والسعة بعد الضيق - من النعم العظمى التى لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة، التى تعاف الظلم، وتأبى الضيم، وتحسن الشكر لله - تعالى -.
قال صاحب الانتصاف: فإن قلت: فلماذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء، كما قال: { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً }؟ قلت: لأن النبوة مزية غير الملك. وآحاد الناس يشارك الملك فى كثير مما به صار الملك ملكا، ولا كذلك النبوة، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته فى مزيتها وخصوصيتها ونعتها، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك".
وأما النعمة الثالثة: فهى أنه - سبحانه -: آتاهم من ألوان الإِكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمى زمانهم. فقد فلق لهم البحر فساروا فى طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم. وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات، وفجر لهم من الحجر اثنتى عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم.. إلى غير ذلك من ألوان النعم التى حباهم الله - تعالى - بها، والتى كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
قال الآلوسى: و "أل" فى { ٱلْعَٱلَمِينَ } للعهد: والمراد عالمى زمانهم. أو للاستغراق والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل: وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبنى إسرائيل، فوجود خطاب فى الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم".
وبعد هذا التذكير بالنعم، وجه إليهم نداء ثانيا طلب منهم فيه دخول الأرض المقدسة فقال - كما حكى القرآن عنه: { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }.
ومعنى المقدسة: المطهرة المباركة بسبب أنها كانت موطنا لكثير من الأنبياء.
والمراد بها. بيت المقدس وقيل المراد بها: اريحاء وقيل: الطور وما حوله.
قال ابن جرير: وهى لا تخرج عن أن تكون من الأرض التى ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك".
ومعنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }: قدر لكم سكناها، ووعدكم إياها متى آمنتم به وأطعتم أنبياءه، أو معناه: فرض عليكم دخولها وأمركم به كما أمركم بأداء الصلاة والزكاة - وسنفصل القول فى هذه المسألة بعد تفسيرنا للآيات -.
ومفعول (كتب) محذوف. أى كتب لكم أن تدخلوها وفرض عليكم دخولها لإِنقاذكم من الأهوال التى نزلت بكم فى أرض مصر من فرعون وجنده.
وقد تعدى فعل (كتب) هنا باللام دون على، للإِشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لمنفعتهم ولعزتهم ورفعة شأنهم.
وفى تكرير النداء من موسى لهم بقوله: { يَاقَوْمِ } مبالغة فى حثهم على الامتثال لما يأمرهم به، وتنبيه إلى خطر ما يدعوهم إليه وعظم شأنه.
وقوله: { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فيه حض شديد لهم على الاستجابة لأمره، وإغراء لهم بالنصر والفوز، لأن الذى كتب لهم أن يدخلوها متى آمنوا وأطاعوا هو الله الذى لا معقب لحكمه.
قال الإِمام الرازى: فى قوله: { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فائدة عظيمة. وهى أن القوم كانوا جبارين إلا أن الله - تعالى - لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم، فإن كان مؤمنين مقرين بصدق موسى - عليه السلام - علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم، فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع".
وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحذير لهم من الجبن والإِحجام، بعد ترغيبهم الشديد فى الشجاعة والإِقدام.
وقوله (ترتدوا) من الارتداد وهو الرجوع إلى الخلف.
و (الأدبار) جمع دبر وهو الظهر.
وهذا التعبير استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه، يحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء، بدل أن يسير بوجهه إلى الأمام. وهذا التعبير يصور قبح الجبن والتخاذل حسا ومعنى.
وقوله (فتنقلبوا) من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشىء وهو مجزوم عطفا على فعل النهى وهو { وَلاَ تَرْتَدُّوا }.
والمعنى: أمضوا أيها القوم لأمر الله، وسيروا خلفى لقتال الأعداء ودخول الأرض المقدسة التى أمركم - سبحانه - بدخولها، ولا ترجعوا القهقرى منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم، ومبتعدين عن طاعتى وأمرى، فإن ذلك يؤدى بكم إلى الخسران فى الدنيا والآخرة، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التى أوجب الله عليكم دخولها.
قال ابن جرير: فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }. أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل: إن الله - تعالى - كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به، وفرض عليهم دخولها، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض الله عليهم من وجهين:
أحدهما: تضييع فرض الجهاد الذى كان الله فرضه عليهم.
والثانى: مخالفتهم أمر الله فى تركهم دخول الأرض المقدسة".
هذا، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة، وهى قوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحمل طابع التحذير الشديد، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق لهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات فى الجهاد، وذلك لأنه - عليه السلام - كان متوقعاً منهم الإِحجام عن القتال، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم فى مواطن كثيرة، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكى يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة.
ولكن بنى إسرائيل هم بنو إسرائيل، مهما قيل لهم من ألوان الترغيب والترهيب فإن همتهم الساقطة وعزيمتهم الخائرة، وطبيعتهم المنتكسة لم تتركهم فقد قالوا لنبيهم متذرعين بالمعاذير الكاذبة: { يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } وقوله: { جَبَّارِينَ } جمع جبار "والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثى. ويطلق فى اللغة على الطويل القوى العاتى الذى يجير غيره على ما يريد. مأخوذ من قولهم: مخلة جبارة أى: طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى.
أى: قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى - عليه السلام - إن الأرض التى وعدتنا بدخولها فيها قوم متغلبون على من يقاتلهم، ولا قدرة لنا على لقائهم وإنا لن ندخل هذه الأرض المقدسة التى أمرتنا بدخولها ما دام هؤلاء الجبارين فيها، فإن يخرجوا منها لأى سبب من الأسباب التى لا شأن لنا بها، فنحن على استعداد لدخولها فى راحة ويسر، وبلا أدنى تعب أو جهد.
ولا شك أن قولهم هذا الذى حكته الآية الكريمة عنهم ليدل على منتهى الجبن والضعف، لأنهم لا يريدون أن ينالوا نصرا باستخدام حواسهم البدنية أو العقلية، وإنما يريدون أن ينالوا ما يبغون بقوة الخوارق والآيات، وأمة هذا شأنها لا تستحق الحياة الكريمة، لأنها لم تقدم العمل الذى يؤهلها لتلك الحياة:
وفى ندائهم لنبيهم باسمه مجرداً { قَالُوا يَامُوسَىٰ } سوء أدب منهم معه، حيث استهانوا بمقام النبوة فنادوه باسمه حتى يكف عن دعوتهم إلى الجهاد. وفى قولهم { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } امتناع عن القتال بإصرار شديد، حيث أكدوا عدم دخولهم بحرف النفى (لن) وجعلوا غاية النفى أن يخرج الجبارون منها، مع أن خروجهم منها بدون قتال أمر مستبعد، وهم لا يريدون قتالا، بل يريدون دخولا من غير معاناة ومجاهدة.
ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكروا إحجام قومهم عن الجهاد، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال: { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
والمراد بالرجلين: يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وكانا من الاثنى عشر نقيباً.
وقد وصف الله - تعالى - هذين الرجلين بوصفين.
أولهما: قوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ } أى: من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفى وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه - تعالى - بل يخافون العدو.
وقيل المعنى: من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله - تعالى - ربط على قلبيهما بطاعته. فجعلهما يقولان ما قالا:
الوصف الثانى: فهو قوله: { أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا } فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين. أى: قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله - تعالى - ولا يخافون سواه، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإِيمان والتثبيت والثقة بوعده، والطاعة لأمره قالا لقومهما. ادخلوا عليهم الباب.
هذا، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال: ويجوز أن تكون الواو فى قوله: { يَخَافُونَ } - لبنى إسرائيل. والراجع إلى الموصول محذوف. والتقدير: قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم، - وهم الجبارون - وهما رجلان منهم "أنعم الله عليهما" بالإِيمان فآمنا، قالا لهم: إن العمالقة أجسام لا قلوب فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم، يشجعانهم على قتالهم. وقراءة من قرأ: (يخافون) - يضم الياء - شاهدة له. وكذلك. أنعم الله عليهما".
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وهو أن الرجلين من بنى إسرائيل، وأن قوله - تعالى - { مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا } صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله - تعالى - أى: يخافون الله ويخشون لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية، وهو الذى صدر به المفسرون تفسيرهم للآية، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه فى أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بنى إسرائيل على قتال قومه، بينما وردت الآثار فى بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثنى عشر نقيبا - كما سبق أن ذكرنا - وقوله - تعالى - { ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين.
أى: قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما: ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم، وباغتوهم بقتالكم إياهم، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم، وأدركتم الفوز، فإنه "ما غزى قوم فى عقر دارهم إلا ذلوا".
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: من أين علما أنهم غالبون؟ قلت: من جهة إخبار موسى بذلك. ومن جهة قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وقيل: من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله فى نصرة رسله، وما عهدوا من صنع الله لموسى فى قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة".
وقوله - تعالى -: { وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم، إن كانوا مؤمنين حقا، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله - تعالى - لعباده، وإلى توكل عليه وحده، وإلى عزيمة صادقة، ومباشرة للأسباب التى توصل إليه.
ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هذين الرجلين المؤمنين، لم تصادف من بني إسرائيل قلوبا واعية، ولا آذانا صاغية بل قابلوها بالتمرد والعناد وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام - نفيهم القاطع للإِقدام على دخول الأرض المقدسة ما دام الجبارون فيها فقالوا - كما حكى القرآن عنهم: { يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا }.
أى: قالوا غير عابئين بالنصيحة. بل معلنين العصيان والمخالفة: يا موسى إنا لن ندخل هذه الأرض التى أمرتنا بدخولها فى أى وقت من الأوقات، ما دام أولئك الجبارون يقيمون فيها، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم.
وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض فى هذه المرة بثلاث مؤكدات، هى: إن، ولن، وكلمة أبدا.
أى: لن ندخلها بأى حال من الأحوال ما دام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها.
ثم أضافوا إلى هذا القول الذى يدل على جبنهم وخورهم، سلاطة فى اللسان، وسوء أدب فى التعبير، وتطاولا على نبيهم فقالوا: { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }.
أى: إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه - سبحانه - ليس ربا لهم - فى زعمهم - إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض.
وقولهم: { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة.
أى: إنا ها هنا قاعدون فى مكاننا لن نبرجه، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن فى غنى عنه، ولا رغبة لنا فيه.
وإن هذا الوصف الذى وصفوا به أنفسهم، ليدل على الخسة وسقوط الهمة، لأن القعود فى وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدى بصاحبه إلى المذمة، والمذلة، قال - تعالى - ذمٍّا لأمثالهم:
{ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله - تعالى - حكاية عنهم: { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ } قالوا ذلك استهانة واستهزاء به - سبحانه - وبرسوله موسى وعدم مبالاة. وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم، وقسوة قلوبهم والمقابلة: { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }.
ولم يذكروا أخاه هارون ولا الرجلين اللذين قالا، كأنهم لم يجزموا بذهابهم، أو يعبأوا بقتالهم وأرادوا بالعقود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى - عليه السلام - بعد أن رأى من قومه ما رأى من عناد وجبن، لجأ إلى ربه يشكو إليه منهم، يلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم، فقال: { رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }.
أى: قال موسى باثا شكواه وحزنه إلى الله، ومعتذرا إليه من فسوق قومه وسفاهتهم وجبنهم: رب إنك تعلم أنى لا أملك لنصرة دينك أمر أحد ألزمه بطاعتك سوى أمر نفسى، وأمر أخى هارون، ولا ثقة لى فى غيرنا أن يطيعك فى العسر واليسر والمنشط والمكره.
ولم يذكر الرجلين اللذين قالا لقومهما فيما سبق { ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ } لعدم ثقتة الكاملة فى دخولهما معه أرض الجبارين، وفى وقوفهما بجانبه عند القتال إذا تخلى بقية القوم عنه فإن بعض الناس كثيرا ما يقدم على القتال مع الجيش الكبير، ولكنه قد يحجم إذا رأى أن عدد المجاهدين قليل. ومن هنا لم يذكر أنه يملك أمر هذين الرجلين كما يملك أمر نفسه وامر أخيه.
وصرح موسى - عليه السلام - بأنه يملك أمر أخيه هارون كما يملك أمر نفسه، لمؤازرته التامة له فى كفاحه ظلم فرعون، ولوقوفه إلى جانبه بعزيمة صادقة فى كل موطن من مواطن الشدة وليقينه بأنه مؤيد بروح من الله - تعالى.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت كأنه لم يثق بهما كل الوثوق، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحية من أحوال قومه، وتلونهم وقسوة قلوبهم فلم يذكر إلا النبى المعصوم الذى لا شبهة فى أمره. ويجوز أن يكون قال ذلك لفرط ضجره عندما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد ومن يؤاخينى على دينى.
هذا وقد ذكر النحويون وجوها من الإِعراب لقوله (وأخى) منها: أنه منصوب عطفا على قوله: (نفسى) أى: ولا أملك إلا أخى مع ملكى نفسى دون غيرهما.
وقوله - تعالى -: { فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } بيان لما يرجوه موسى من ربه - عز وجل - بعد أن خرج بنو إسرائيل عن طاعته.
والفاء هنا لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله. والفرق معناه الفصل بين شيئين.
والمعنى: قال موسى مخاطباً ربه: لقد علمت يا إلهى أنى لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسى وأمر أخى، أما قومى فقد خرجوا عن طاعتى وفسقوا عن أمرك وما دام هذا شأنهم فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل، بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون فإنك أنت الحكم العدل بين العباد.
وهذا الرجاء من موسى لربه فى معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله - تعالى - دعاءه فيهم، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال - تعالى -: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }.
وقوله: { يَتِيهُونَ } من التيه وهو الحيرة. يقال: تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق. ووقع فلان فى التيه أى: فى مواضع الحيرة.
وقوله: { فَلاَ تَأْسَ } أى: فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن. يقال: أسى - كتعب - أى: حزن. فهو اسين مثل حزين. وأسا على مصيبته - من باب عدا - أى: حزن قال امرؤ القيس:

وقوفا بها صحبى على مطيهميقولون لا تهلك أسى وتجمل

أى: يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر.
والمعنى: قال الله - تعالى - لنبيه موسى مجيبا لدعائه: يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة، يسيرون خلالها فى الصحراء تائيهن حيارى لا يستقيم لهم أمر، ولا يستقر لهم قرار، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة؛ فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خورجهم عن طاعتنا، وتمردهم على أوامرنا، وجبنهم عن قتال أعدائنا، وسوء أدبهم مع أنبيائنا.
قال الآلوسى: قوله: { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أى: لا يدخلونها ولا يملكونها. والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، وجوز أن يكون تحريم العبد والأول أظهر وقوله { أَرْبَعِينَ سَنَةً } متعلق بقوله: محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبداً، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقى - يجوز له دخولها - فقد روى أن موسى سار بمن بقى من بنى إسرائيل - بعد انقضاء هذه المدة - إلى الأرض المقدسة.
وقوله: { يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } استئناف لبيان كيفية حرمانهم. وقيل حال من ضمير { عَلَيْهِمْ } وقيل: الظرف متعلق بقوله: { يَتِيهُونَ } فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه".
وقال الفخرى الرازى: اختلف الناس فى أن موسى وهارون - عليهما السلام - هل بقيا فى التيه أو لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا فى التيه؛ لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء مجابة، لأن التيه كان عذاباً والأنبياء لا يُعذبون.
وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم فى ذلك التيه، إلا أن الله - تعالى - سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما. وإنهما قد ماتا فى التيه وبقى يوشع بن نون - وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته - وهو الذى فتح الأرض المقدسة - بعد انقضاء مدة التيه.
وقيل بل بقى موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة".
هذا ونرى من المناسب فى هذا المقام أن نتعرض بشىء من التفصيل للمسائل الآتية:
أولا: الرد على اليهود فى دعواهم أن الأرض المقدسة - فلسطين - ملك لهم مستندين إلى قوله - تعالى -: { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }.
ثانيا: الحكمة فى كون عقابهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض.
ثالثاً: ما يؤخذ من هذه الآيات من العبر والعظات.
وللإِجابة على المسألة الأولى نقول: للمفسرين أقوال فى المراد من الكتابة فى قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أشهرها قولان:
أولهما: أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }: أمركم بدخولها، وفرضه عليكم كما أمركم بالصلاة والزكاة فالكتب هنا مثله فى قوله - تعالى -
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } ): أى: فرض عليكم وهذا قول قتادة والسدى.
والثانى: أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قدرها لكم وقضى أن تكون مساكن لكم دون الجبارين. وهذا القضاء مشروط بالإِيمان، وطاعة الأنبياء، والجهاد فى سبيل نصرة الحق، فإذا لم يكونوا كذلك - وهم لم يكونوا كذلك فعلا - لم يتحقق لهم التمكين فى الأرض المقدسة، ولذا بعد أن أغراهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخولها، حذرهم من الجبن والعصيان فقال لهم: { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }.
قال الآلوسى: "وترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعاً".
وقال ابن عباس: كانت هبة من الله لهم ثم حرمها - سبحانه - عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم.
وقال الفخر الرازى: إن الوعد بقوله { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط".
والخلاصة أن الكتابة فى قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }: إما أن تكون تكليفية على معنى: أن الله - تعالى - كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة.
وإما أن تكون كتابة قدرية. أى: قضى وقدر - سبحانه - أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم. وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا، بل كفروا وعصوا فحرمها - سبحانه - عليهم.
وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم، بدليل قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل.
وللإِجابة على المسألة الثانية نقول: اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد، هانت عليهم نعمة الحرية. وضعف عندهم الشعور بالعزة. وأصبحت حياة الذلة مع العقود. أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عندما أمرهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها ما دام الجبارون فيها:
وقالوا: { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }.
فاقتضت حكمة الله - تعالى - أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود، بأن يحكم عليهم بالتيهان فى بقعة محدودة من الأرض، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذى استمرأ الذل والهوان.
قال ابن خلدون فى مقدمته.. ويظهر من مساق قوله - تعالى - { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } ومن مفهومه: أن حكمة ذلك التيه مقصودة، وهى فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر، وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ فى ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتى فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. فسبحان الحكيم العليم".
هذا ولصاحب المنار كلام حسن فى حكمة هذه العقوبة، نرى من المناسب إثباته هنا، فقد قال -رحمه الله - فى ختام تفسيره لهذه الآيات:
"إن الشعوب التى تنشأ فى مهد الاستبداد، والإِحساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها. وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية. والطبائع الخلقية، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر فى كل ما يألفونه، ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر.
أفسد ظلم فرعون فطرة بنى إسرائيل فى مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل. وقد أراهم الله - تعالى - من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى - عليه السلام - وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية. ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنون إليها.
وكان الله - تعالى - يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده - تعالى - لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته فى طبيعة الاجتماع البشرى، إذا هلك ذلك الجيل الذى نشأ فى الوثنية والعبودية. ونشأ بعده جيل جديد فى حرية البداوة، وعدل الشريعة، ونور الآيات الإِلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم.
وعلى هذه السنة العادلة أمر الله - تعالى - بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، فأبوا واستكبروا. فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوماً آخرين.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التى ضربها الله لنا، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها.
وللإِجابة على المسألة الثالثة - وهى ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر - نقول: إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم فى أسلوب الدعوة إلى الله - تعالى - فقد بدأت بتذكير بنى إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم، لتغرس فيهم الشعور بالعزة؛ ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به - سبحانه -.
كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدى إلى الخسران.
وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بنى إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم.. بما جعلهم أهلا العقوبات الرادعة وفى كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى، وتحذير لهم من السير على طريق آبائهم المعوجة، حتى لا يعرضوا أنفسهم للعقوبات التى حلت بأسلافهم.
قال الإِمام ابن جرير: عند تفسيره للآيات الكريمة: وهذا - أيضاً - من الله - تعالى تعريف - لنبيه صلى الله عليه وسلم يتمادى هؤلاء اليهود فى الغى، وبعدهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إثابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع آياته وآلائه عليهم، مسليا بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما ينزل به من مجادلاتهم فى ذات الله، يقول الله - له: لا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله، والبعد عن الحق، وما فيه من الحظ لهم فى الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم، وأوائلهم، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى - عليه السلام -.
وقال الإِمام ابن كثير: وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه فى ذلك الزمان. وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم. هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من الغرق له ولجنوده فى اليم وهم ينظرون. لتقر به أعينهم - وما بالعهد من قدم - ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هى بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار فى عدة أهلها وعددهم. وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل.
وقال -رحمه الله - قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة - رضى الله عنهم - يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم فى قتال قريش. فقد قالوا فأحسنوا.
لقد قال المقداد: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى؛ { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن نقول لك: "إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".
كذلك يؤخذ من هذه القصة أن معصية الله ورسله تؤدى إلى الخسران، فإن بنى إسرائيل لما جبنوا عن دخول الأرض المقدسة، وعصوا أمر نبيهم، عاقبهم الله بالتيه مدة أربعين سنة، صارت قصتهم عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين.
وبعد أن ساق - سبحانه - جوانب متعددة من أحوال أهل الكتاب وما جبلوا عليه من أخلاق سيئة، أتبع ذلك بقصة ابنى آدم، فقال - تعالى - :
{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ... }