التفاسير

< >
عرض

وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٤٨
وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ
٤٩
أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٥٠
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } معطوف على قوله قبل ذلك { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ } والمراد بالكتاب الأول: القرآن الكريم وأل فيه للعهد.
والمراد بالكتاب الثانى: جنس الكتب السماوية المتقدمة فيشمل التوراة والإِنجيل وأل فيه للجنس وقوله { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أى: رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية المحفوظة من التغيير، وأمينا وحاكما عليها؛ لأنه هو الذى يشهد لها بالصحة ويقرر أصول شرائعها.
قال ابن جرير: وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب. يقال: إذا رقب الرجل الشىء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه. فهو يهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن".
وقال صاحب الكشاف: وقرئ { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } - بفتح الميم - أى هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل كما قال - تعالى -:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } والذى هيمن عليه هو الله - عز وجل . أو الحفاظ فى كل بلد، لو حُرِّّف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد، ولاشمأزوا، رادين ومنكرين".
والمعنى: لقد أنزلنا التوراة على موسى، والإِنجيل على عيسى، وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الجامع لكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية من هدايات وقد أنزلناه ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل، وجعلناه { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ } أى: مؤيداً لما فى تلك الكتب التى تقدمته: من دعوة إلى عبادة الله وحده، وإلى التمسك بمكارم الأخلاق. وجعلناه كذلك "مهيمنا عليها" أى: أمينا ورقيبا وحاكما عليها.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أشار إلى سمو مكانة القرآن من بين الكتب السماوية بإشارات من أهمها:
أنه - سبحانه - لم يقل: وقفينا على آثارهم - أى على آثار الأنبياء السابقين - بمحمد صلى الله عليه وسلم وآتيناه القرآن. كما قال فى شأن عيسى ابن مريم
{ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } ) .. إلخ.
لم يقل ذلك فى شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفى شأن القرآن الكريم، وإنما قال: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } للإِشارة إلى معنى استقلاله وعدم تبعيته لغيره من الكتب التى سبقته، وللإِيذان بأن الشريعة التى هذا كتابها هى الشريعة الباقية الخالدة التى لا تقبل النسخ أو التغيير.
وأنه - سبحانه - لم يزد فى تعريف الكتاب الذى أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على تعريفه بلام العهد فقال: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } للإِشارة إلى كماله وتفوقه على سائر الكتب.
أى: أنه الكتاب الذى هو جدير بهذا الاسم، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه لأنه الفرد الكامل من بين الكتب فى هذا الوجود.
وأنه - سبحانه - قد وصفه بأنه قد أنزله ملتبسا بالحق والصدق، وأنه مؤيد ومقرر لما اشتملت عليه الكتب السماوية من الدعوة إلى الحق والخير، وأنه - فضلا عن كل ذلك - أمين على تلك الكتب، وحاكم عليها، فما أيده من أحكامها وأقوالها فهو حق، ومالم يؤيده منها فهو باطل.
قال ابن كثير: جعل الله هذا الكتاب العظيم الذى أنزله آخر الكتب وخاتمها، جعله أشملها وأعظمها وأكملها، لأنه - سبحانه - جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس فى غيره، فلهذا جعله شاهداً وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفل - سبحانه - بحفظه بنفسه فقال:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقوله: { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } أمر من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتلزم فى حكمه بين الناس الأحكام التى أنزلها - سبحانه - والفاء فى قوله: { فاحكم } للإِفصاح عن شرط مقدر.
أى: إذا كان شأن القرآن كما ذكرت لك يا محمد فاحكم بين هؤلاء اليهود وبين غيرهم من الناس بما أنزله الله من أحكام، فإن ما أنزله هو الحق الذى لا باطل معه، ولا تتبع فى حكمك أهواء هؤلاء اليهود وأشباههم لأن أتباعك لأهواهئهم يجعلك منحرفا ومائلا عما جاءك من الحق الذى لا مرية فيه ولا ريب. ولم يقل - سبحانه - "فاحكم بينهم به" بل ترك الضمير وعبر بالموصول فقال: { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } للتنبيه على علية ما فى حيز الصلة للحكم، لأن الموصول إذا كان فى ضمن حكم تكون الصلة هى علة الحكم.
أى: التزم فى حكمك بينهم بما يؤيده القرآن لأنه الكتاب الذى أنزله الله عليك.
قال بعض العلماء: "وهذا يفيد أن اليهود الذين عاشروا النبى صلى الله عليه وسلم ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص، أو ما لم يثبت أنهن نسخ والمعول عليه فى الحالين هو القرآن وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولقد روى أنه - عليه السلام - ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإِيمان به - عليه السلام.
والضمير فى قوله، { أهواءهم } يعود إلى أولئك اليهود الذين كانوا يتحاكمون إلى النبى صلى الله عليه وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق، وإنما بقصد الوصول إلى ما يسهل عليهم احتماله من أحكام.
قال الآلوسى: والنهى يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهى عنه. ولا يقال: كيف نهى صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهوائهم، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك. وقيل الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد سائر الحكام".
وقوله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } استئناف جىء به لحمل أهل الكتاب على الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم بما أنزل الله إليه من الحق.
والشرعة والشريعة بمعنى واحد. وهى فى الأصل الطريق الظاهر الموصل للماء. والمراد بها هنا ما اشتمل عليه الدين من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة. وسمى ما اشتمل عليه الدين من أحكام شريعة تشبيها بشريعة الماء. من حيث إن كلا منهما سبب الحياة. إذ أن الشريعة الدينية سبب فى حياة الأرواح حياة معنوية. كما أن الماء سبب فى حياة الأرواح حياة مادية.
والمنهاج: الطريق الواضح فى الدين، من نهج الأمر ينهج إذا وضح. والعطف باعتبار جمع الأوصاف.
قال بعضهم: هما كلمتان بمعنى واحد والتكرير للتأكيد.
وقيل: ليستا بمعنى واحد. فالشرعة ابتداء الطريق. والمنهاج الطريق المستقيم.
وقوله: { منكم } متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين "كل".
أى: لكل أمة من الأمم الحاضرة والماضية وضعنا شرعة ومنهاجاً خاصين بها، فالأمة التى كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى - عليهما السلام - كانت شرعتها ما فى التوراة من أحكام. والأمة التى كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد - عليهما الصلاة والسلام كانت شرعتها ما فى الإِنجيل. وأما هذه الأمة الإِسلامية فشريعتها ما فى القرآن من أحكام، لأنه مشتمل على ما جاء فى الكتب السابقة عليه من أصول الدين وكلياته التى لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وزاد عليها ما يناسب العصر الذى نزل فيه، والعصور التي تلت ذلك إلى يوم القيامة.
وأهل الكتاب إنما أمروا بأن يتحاكموا إلى كتبهم قبل نسخها بالقرآن الكريم، أما بعد نزوله ومجىء النبى صلى الله عليه وسلم خاتما للرسالات السماوية، فقد أصبح من الواجب عليهم الدخول فى الإِسلام، واتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم فى كل ما أمر به أو نهى عنه، وليس لأحد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إيمان مقبول إلا باتباعه وتصديقه فى جميع أقواله وأعماله.
والاختلاف فى الشرائع إنما يكون فيما يتعلق ببعض الأوامر والنواهى، وببعض وجوه الحلال والحرام، وبغير ذلك من فروع الشريعة، فقد يحرم الله شيئاً على قوم عقوبة لهم، ويحله لقوم آخرين تخفيفا عنهم، كما قال - تعالى -:
{ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } وكما قال - تعالى - حكاية عن عيسى - عليه السلام -: { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } أما ما يتعلق بأصول الشريعة، وجوهر الدين، وأساس العقيدة كالأمر بعبادة الله وحده. والتحلى بمكارم الأخلاق، فلا يتعلق به اختلاف فى أى شريعة من الشرائع، أو أى دين من الأديان.
وقد تكلم عن هذا المعنى الإمام ابن كثير فقال: قوله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة فى الأحكام المتفقة فى التوحيد. كما ثبت فى صحيح البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات - أمهاتهم شتى - ودينهم واحد" يعنى بذلك التوحيد الذى بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال - تعالى -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } وأما الشرائع فمختلفة فى الأوامر والنواهى فقد يكون الشىء فى هذه الشريعة حراماً ثم يحل فى الشريعة الأخرى. كما قال - تعالى - فى شأن شريعة عيسى: { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وبالعكس، قد يكون الشىء حلالا فى هذه الشريعة ثم يحرم فى شريعة أخرى، فيزداد فى الشدة فى هذه دون هذه، وذلك لما له - تعالى - فى ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة".
وقال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } الخطاب فيه - كما قال جماعة من المفسرين - للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب. واستدل بالآية من ذهب إلى أننا غير متعبدين بشرائع من قبلنا، لأن الخطاب يعم الأمم، واللام للاختصاص فيكون لكل أمة دين يخصها.
والتحقيق فى هذا المقام أننا متعبدون بأحكام الشرائع السابقة من حيث إنها أحكام شريعتنا لا من حيث إنها شريعة للأولين".
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته، وبالغ حكمته فقال: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم }.
ومفعول المشيئة هنا محذوف لدلالة الجزاء عليه.
وقوله: { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ } متعلق بمحذوف يستدعيه المقام.
والابتلاء: الاختبار والامتحان ليميز المطيع من المعاصى.
والمعنى: لو شاء الله - تعالى - أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وبشريعة واحدة لفعل، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك، وإنما شاء أن يجعلكم أمما متعددة ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة فى بعض فروعها ولكنها متحدة فى جوهرها وأصولها فيجازى من أطاعه بما يستحقه من ثواب؛ ويجازى من خالف أمره بما يستحقه من عذاب.
وقوله: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } حض منه - سبحانه - لعباده على الاجتهاد فى فعل الطاعات.
أى إذا كان الأمر كما وصفت لكم. فسارعوا إلى القيام بالأعمال الصالحة التى تسعدكم فى الدنيا والآخرة، وتنافسوا فى تحصيلها بكل عزيمة ونشاط لتنالوا رضا الله - تعالى - وجزيل مثوبته.
{ فَاسْتَبِقُوا } بمعنى فتسابقوا، ولتضمنه معنى السبق والابتدار تعدى بنفسه من غير إلى كما فى قوله - تعالى -
{ وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } أى: حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر.
وقوله { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات.
وقوله { فَيُنَبِّئُكُم } أى فيخبركم والمراد بالإِنباء والإِخبار هنا المجازاة على الأعمال، وإنما عبر عنها بالإِنباء لوقوعها موقع إزالة موقع إزالة الاختلاف التى هى وظيفة الأنبياء.
أى: إلى الله وحده مصيركم ومرجعكم، فيخبركم عند الحساب بما كنتم تختلفون فيه فى الدنيا، ويجازيكم بما تستحقون: فأما الذين آمنوا وعملوا الصلاحات فلهم منه - سبحانه - جزيل الثواب. وأما الذين طغوا وآثروا الحياة الدنيا فلهم من شديد العقاب.
ثم كرر - سبحانه - الأمر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين اليهود وغيرهم بما أنزله الله - تعالى - وحذره من مكرهم وكيدهم فقال: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ }.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قال كعب بن أسد وابن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه: فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وإنا إن اتبعناك اتبعك يهود ولم يخالفونا. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدق فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. فأنزل الله فيهم: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ }. إلى قوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }.
وقوله: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } فى محل نصب عطفا على الكتاب فى قوله: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ }.
وقوله: { أَن يَفْتِنُوكَ } بدل اشتمال من المفعول فى { وَٱحْذَرْهُمْ } كأنه قيل: واحذر فتنتهم كما تقول: أعجبنى زيد علمه.
والمراد بالفتنة هنا محاولة إضلاله وصرفه عن الحكم بما أنزل الله.
والمعنى: وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك ولو كان أقل قليل؛ بأن يصوروا لك الباطل فى صورة الحق، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذى يناسب شهواتهم:
وقد كرر - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه فى أحكامه بما أنزل الله، لتأكيد هذا الأمر فى مقام يستدعى التأكيد، لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلى الله عليه وسلم وإغراءه بالميل إلى الأحكام التى تتفق مع أهوائهم، ولأنه قد جاء فى الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد - سبحانه - أن ينفى هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعته القرآن هى الشريعة العامة الخالدة التى يجب أن يتحاكم إليها الناس فى كل زمان ومكان، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع.
وقوله - تعالى - { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } تيئيس لأولئك اليهود الذين حاولوا إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقضى لهم بما يرضيهم لكى يرضيهم لكى يتبعوه، ونهى له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه عن الاستجابة لأهواء هؤلاء ولو فى أقل القليل مما يتنافى مع الحق الذى أمره الله - تعالى - بالسير عليه فى القضاء بين الناس.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة كل من يعرض عن حكم الله - تعالى - فقال: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ }.
أى: فإن تولوا عن حكمك، وأعرضوا عنك بعد تحاكمهم إليك وأرادوا الحكم بغير ما أنزل الله. فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب بعض هذه الذنوب التى اقترفوها بتوليهم عن حكم الله، وإعراضهم عنك، وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغى والضلال، لأن الأمة التى لا تخضع لأحكام شرع الله، وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها الباطلة، لابد أن يصيبها العقاب الشديد بسبب ذلك.
وعبر - سبحانه - عما يصيبهم من عقاب بأنه بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب، للإِشارة بأن لهم ذنوبا كثيرة بعضها كاف لإنزال العقوبة الشديدة بهم.
وقوله: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ } اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله، ومتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مخالفيه ولا سيما اليهود.
أى: وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا، ومتمردون على أحكامنا، ومتبعون لخطوات الشيطان الذى استحوذ عليهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيته من أصحاب النفوس المريضة، بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بتوبيخ أولئك الذين يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره فقال: { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ }.
فالهمزة هنا للاستفهام الإِنكارى التوبيخى. والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام.
والمعنى: أينصرفون عن حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه فيبغون حكم الجاهلية مع أن ما أنزله الله إليك من قرآن فيه الأحكام العادلة التى ترضى كل ذى عقل سليم، ومنطق قويم.
وقدم - سبحانه - المفعول "أفحكم" لإِفادة التخصيص المفيد لتأكيد الأنكار والتعجيب من أحوال أولئك اليهود الذين يريدون حكم الجاهلية.
إذ أن التولى عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب.
والمراد بالجاهلية: الملة الجاهلية التى هى متابعة الهوى، والمداهنة فى الأحكام، فيكون ذلك توبيخا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب؛ يبغون حكم الملة الجاهلية. وعدم الأخذ بشريعة المساواة. فيكون ذلك - أيضاً - تعييراً لهم لاقتدائهم بأهل الجاهلية.
قال الآلوسى: فقد روى
"أن بنى النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بنى قريظة، طلب بعضهم من رسول الله أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال صلى الله عليه وسلم: القتلى سواء" - أى: متساوون - فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بحكمك، فنزلت هذه الآية".
وقوله - تعالى - { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } إنكار منه - سبحانه - لأن يكون هناك حكم أحسن من حكمه أو مساو له.
أى: لا أحد أحسن حكما من حكم الله - تعالى - عند قوم يوقنون بصحة دينه، ويذعنون لتكاليف شريعته، ويقرون بوحدانيته، ويتبعون أنبياءه ورسله.
فاللام فى قوله: { لقوم } بمعنى عند، وهى متعلقة بأحسن، ومفعول { يوقنون } محذوف أى لقوم يوقنون بحكمه وأن أعدل الأحكام. والجملة حالية متضمنة لمعنى الإِنكار السابق.
وخص - سبحانه - الموقنين بالذكر، لأنهم هم الذين يحسنون التدبر فيما شرعه الله من أحكام، وينتفعون بما اشتملت عليه من عدل ومساواة.
هذا، وقد شدد الإِمام ابن كثير النكير على الذى يرغبون عن حكم الله إلى أحكام من عند البشر، ووصف من يفعل ذلك بالكفر، وأفتى بوجوب مقاتلته حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فقال -رحمه الله -:
"ينكر - تعالى - على من خرج عن حكم الله - المشتمل على كل خير الناهى عن كل شر - وعدل عنه إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التى وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات.
مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكزخان" الذى وضع لهم "الباسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى. فصارت فى بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه فى قليل ولا كثير.
قال - تعالى - { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أى: ومن أعدل من الله فى حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن. وعلم أنه - سبحانه - أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه - تعالى - هو العالم بكل شىء، والقادر على كل شىء، والعادل فى كل شىء.
روى الطبرانى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أبغض الناس إلى الله - تعالى - من يبتغى فى الإِسلام سنة الجاهلين ومن طلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه" .
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد كشفت "باستفاضة" عن المسالك الخبيثة التى سلكها اليهود وأشباهم لكيد الإِسلام والمسلمين.
فأنت تراها فى مطلعها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النداء بعدم المبالاة بما يصدر عن أولئك الذين يسارعون فى الكفر من مكر وخداع ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التى تجعل كل عاقل ينفر من الاقتراب منهم، وخيرات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم أو الإِعراض عنهم إذا ما تحاكموا إليه.
ووبخت اليهود على إعراضهم عن الأحكام العادلة التى أنزلها الله - تعالى - ووصفت المعرضين عن حكمه سبحانه بالكفر تارة وبالظلم تارة وبالفسق تارة أخرى.
وبعد أن مدحت التوراة والإِنجيل، وبينت بعض ما اشتملا عليه من هدايات... عقبت ذلك ببيان منزلة القرآن الكريم وأنه الكتاب الجامع فى هدايته وفضله وتشريعاته لكل ما جاء فى الكتب السابقة.
ثم ختمت بتكرير الأمر للنبى صلى الله عليه وسلم بأن يلتزم فى أحكامه بما أنزله الله، وبتحذيره وتحذير أتباعه من خداع أعدائهم ومكرهم، وتتوعد كل من يرغب عن حكم الله إلى حكم غيره، بسوء العاقبة، وشديد العذاب.
وبعد هذا الحديث المستفيض عن الكتب السماوية: وعن وجوب الحكم بما أنزل الله، وعن المسالك الخبيثة التى استعملها اليهود ومن على شاكلتهم لكيد الدعوة الإِسلامية بعد كل ذلك وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين حذرهم فيه من موالاة أعدائهم فقال - تعالى -:
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ... }