التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٨٧
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب المنار بدأ الله - هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك.
ثم جاء بهذا السياق الطويل فى بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، فكان أوفى وأتم ما ورد فى القرآن من ذلك، ولم يتخلله إلا قليل من الأحكام. وهاتان الآيتان وما بعدهما عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التى بدئت بها السورة.
وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها فى أول السورة وتجعل الآيات فى أهل الكتاب مفصلا بعضها ببعض فى باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات فى القرآن من حيث هو مثانى تتلى دائما للاهتداء بها، لا كتابا فنياً ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعانى فى باب معين.
على أن نظمه وترتيب آياته يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتنسيقه كما ترى فى مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما مباشرة.
ذلك أنه - تعالى - ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون فى الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كما تقربهم إلى الله - تعالى - وهى إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات. وقد أزال الله - تعالى - هذا الظن وقطع طريق تلك الرغبة بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ }.
هذا، وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعدة منها ما أخرجه الترمذى وابن جرير عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أنى إذا أكلت انتشرت للنساء، وأخذتنى شهوتى فحرمت على اللحم. فأنزل الله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ }. الآية.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال، كان: أناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء، فنزلت هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } وعن أبى قلابة قال: أراد أناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا، ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة. ثم قال:
"إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم فى الديار والصوامع، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا واستقيموا" قال: ونزلت فيهم: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ } الآية وعن أبى طلحة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية فى رهط من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح فى الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتى فهو منى، ومن لم يأخذ بسنتى فليس منى" .
وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإِيمان؛ لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه.
والمراد بقوله: { لاَ تُحَرِّمُواْ }: لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهدا بعدم تناولها أو الانتفاع بها.
فالنيه عن التحريم هنا ليس منصبا على الترك المجرد. فقد ترك الإِنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره. وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهدا بذلك.
والمراد بالطيبات: الأشياء المستلذة المستطابة المحللة التى تقوى بدن الإِنسان وتعينه على الجهاد فى سبيل الله، من طعام شهى، وشراب سائغ. وملبس جميل.
والمعنى: يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، لا تحرموا على أنفسكم شياً من الطيبات التى أحلها الله لكم، فإنه - سبحانه - ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شئون دينكم ودنياكم.
وقوله: { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } تأكيد للنهى السابق. والتعدى معناه: تجاوز الحدود التى شرعها الله - تعالى - عن طريق الإِسراف أو عن طريق التقتير. أو عن طريق الاعتداء على حق الغير أو عن طريق يخالف ما شرعه الله - تعالى -.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } فى موضع التعليل لما قبله.
أى: لا تحرموا - أيها المؤمنون - على أنفسكم ما أحله الله لكم من طيبات ولا تتجاوزوا حدوده بالإِسراف. أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم فإنه - سبحانه - لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته، وسنن فطرته. وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن نهى - سبحانه - عن تحريم الطيبات أمر بتناولها والتمتع بها فقال: { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }.
والأمر فى قوله { وَكُلُواْ } للإِباحة. وقيل إنه للندب. ويرى بعضهم أنه للوجوب لأن من الواجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله - تعالى - تركا مطلقاً لأن هذا الترك يكون من باب تحريم ما أحله الله.
أى: وكلوا - أيها المؤمنون - من الرزق الحلال الطيب الذى رزقكم الله إياه، وتفضل عليكم به { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون } بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه، وتلتزموا فى مأكلكم ومشربكم وملبسكم وسائر شئونكم حدود شريعته، وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالأكل هنا التمتع بألوان الطيبات التى أحلها الله، فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا، وكذلك يدخل فيه كل ما أباحه - سبحانه - من متعة طيبة تميل إليها النفوس وتشتهيها.
وعبر عن مطلق التمتع بما أحله الله بالأكل، لأنه أعظم أنواع المتع، وأهم ألوان منافع الإِنسان التى عليها قوام حياته.
وقد زكى - سبحانه - طلب التمتع بعطائه وخيره بأمور منها: أنه جعله مما رزقهم إياه، وأنه وصفه بكونه حلالا وليس محرما، وبكونه طيباً وليس خبيثاً.
والمأكول أو المشروب أو غيرهما متى كان كذلك اتجهت نفس المؤمن إليه بارتياح وطمأنينة واجتهدت فى الشكر لواهب النعم على ما أنعم وأعطى.
قال الآلوسى: قوله: { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً } أى: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله - تعالى - فحلالا مفعول به لكلوا. و { مِمَّا رَزَقَكُمُ } حال منه وقد كان فى الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا. والآية دليل لنا فى شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التوكيد وهو خلاف الظاهر فى مثل ذلك.
وقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون } استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن.
والآية ظاهرة فى أن أكل اللذائذ لا ينافى التقوى. وقد أكل النبى صلى الله عليه وسلم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى.
وقال القرطبى: قال علماؤنا: فى هذه الآية وما شابهها، والأحاديث الواردة فى معناها، رد على غلاة المتزهدين، وعلى كل أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه.
قال الطبرى: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شىء على نفسه مما أحل الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح. ولذلك رد النبى صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شىء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو فى فعل ما ندب عباده إليه وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون.
وقد جاء رجل إلى الحسن البصرى فقال له: إن لى جارا لا يأكل الفالوذج فقال له ولم؟ قال: يقول، لا يؤدى شكره. فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ قال: نعم. فقال الحسن: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه فى الماء البارد أكثر من نعمته عليه فى الفالوذج.
والخلاصة أن هاتين الآيتين تنهيان المؤمنين عن تحريم الطيبات التى أحلها الله لهم، وتأمرانهم بالتمتع بها بدون إسراف أو تقتير مع خشيتهم لله - تعالى - وشكره على ما وهبهم من نعم.
وذلك لأن ترك هذه الطيبات يؤدى إلى ضعف العقول والأجسام، والإِسلام يريد من أتباعه أن يكونوا أقوياء فى عقولهم وفى أجسامهم وفى سائر شئونهم، لأن المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف - كما جاء فى الحديث الشريف.
ولأن دين الإِسلام ليس دين رهبانية، وفى الحديث الشريف "إن الله لم يبعثنى بالرهبانية" وإنما دين الإِسلام دين عبادة وعمل، فهو لا يقطع العابد عن الحياة، ولكنه يأمره أن يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها.
وإن التفاصيل بين المؤمنين يكون باستقامة النفس، وسلامة العقبادة وكثرة إيصال النفع للناس. ولا يكون بالانقطاع عن الدنيا، وتحريم طيباتها التى أحلها الله - تعالى .
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تؤيد معنى هاتين الآيتين الكريمتين.
أما الآيات فمنها قوله - تعالى -
{ يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } ومنها قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وأما الأحاديث فمنها ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها - أى عدوها قليلة - فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فإنى أصلى الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.
فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد؛ وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى"
.
ورحم الله الحسن البصرى فقد قال: إن الله - تعالى - أدب عباده فأحسن أدبهم فقال - تعالى - { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } ما عاب قوما ما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه".
فعلى المؤمن أن يجتنب تحريم الطيبات التى أحلها الله له، وأن يتمتع بها بدون إسراف أو تقتير، وأن يداوم على شكر الله على نعمه وآلائه، وأن يجعل جانباً من هذه النعم للاحسان إلى الفقراء والمحتاجين.
قال الفخر الرازى: لم يقل - سبحانه - : وكلوا ما رزقكم الله، ولكن قال: { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } وكلمة "من" للتبعيض. فكأنه قال: اقتصروا فى الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك الإِسراف كما قال:
{ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } ثم بين - سبحانه - كفارة اليمين، وأمر المؤمنين بحفظ إيمانهم فلا يكثروا منها، فقال - تعالى -.
{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ... }