التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٩٠
إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ
٩١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٩٢
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: اعلم أن هذا النوع الثالث من الأحكام المذكورة فى هذا الموضع - فقد أمر الله المؤمنين بعدم تحريم الطيبات ثم بين حكم الأيمان المنعقدة.
ووجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه - تعالى - قال فيما تقدم:
{ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } إلى قوله: { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً } ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أنه - تعالى - بين أنهما غير داخلين فى المحلات بل فى المحرمات.
والخمر - بمعنى المصدر - هو الستر، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار. والخمر - بمعنى الاسم - ما يخمر العقل ويستره، ويمنعه من التقدير السليم:
قال القرطبى: والخمر مأخوذة من خمر، إذا ستر، ومن خمار المرأة لأنه يستر وجهها. وكل شىء غطى شيئاً فقد خمره. ومنه: خمروا آنيتكم أى: غطوها.
وقيل: إنما سميت الخمر خمراً، لأنها تركت حتى أدركت كما يقال: قد اختمر العجين، أى: بلغ إدراكه، وخمر الرأى، أى ترك حتى يتبين فيه الوجه.
وقيل: إنما سميت الخمر خمراً، لأنها تخالط العقل. من المخامرة وهى المخالطة . ومنه قولهم: دخلت فى خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أى: اختلطت بهم. فالمعانى الثالثة متقاربة، فالخمر تركت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته والأصل الستر".
والميسر: القمار - بكسر القاف - وهو فى الأصل مصدر ميمى من يسر كالموعد من وعد. وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة، لأن المال يجىء، للكاسب من غير جهد، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ، ثم أصبح علما على كل ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه.
قال القرطبى: الميسر: الجزور الذى كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضوع التجزئة. وكل شىء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور. ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك.
والمراد بالميسر ما يشمل كل كسب يجىء بطريق الحظ المبنى على المصادفة فاللعب بالنرد على مال يسمى قماراً، واللعب بالشطرنج على مال يسمى قماراً وهكذا ما يشبه ذلك من ألوان تمليك المال بالمخاطرة وبطريق الحظ المبنى على المصادفة.
وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل. فالعمل فى ذاته حرام، والكسب عن طريقه حرام.
والأنصاب: جمع نصب، وتطلق على الأصنام التى كانت تنصب للعبادة لها أو على الحجارة التى كانت تخصص للذبح عليها تقرباً للأصنام.
والأزلام: جمع زلم. وهى السهام التى كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت فسهم عليه واحد، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة. أو هى السهام التى كانوا يكتبون على أحدها: أمرنى ربى وعلى الآخر نهانى ربى، ويتركون الثالث غفلا من الكتابة فإذا أرادوا سفراً أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك، أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها، فإن خرج أمرنى ربى أقدموا على ما يرونه، وإن خرج نهانى ربى أمسكوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهى.
وقد نهى الله - تعالى - فى إوائل هذه السورة عن الاستقسام بالأزلام فقال
{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } وقوله: { رِجْسٌ } أى قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة لقذارته ونجاسته.
قال الفخر الرازى: والرجس فى اللغة كل ما استقذر من عمل. يقال: رجس الرجل رجسا إذا عمل عملا قبيحا: وأصله من الرجس - بفتح الراء - وهو شدة الصوت. يقال: سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد. فكأن الرجس هو العمل الذى يكون قوى الدرجة كامل الرتبة فى القبح".
وقد ذكرالمفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما جاء فى صحيح مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه قال: نزلت فى آيات من القرآن، وفيه قال. وأتيت على نفر من الأنصار فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر - قال فأتيتهم فى حش - أى بستان - فإذا رأس جزور مشوى عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم. قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار. قال. فأخذ رجل - من الأنصار - لحى جمل فضربنى به فجرح أنفى، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله - تعالى - { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ }.. الآيات.
ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من قبائل الأنصار. شربوا حتى ثملوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا، وجعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل هذا بى أخى فلان - وكانوا إخوة ليس فى قلوبهم ضغائن - والله لو كان بى رءوفاً رحيما ما فعل بى هذا، حتى وقعت فى قلوبهم الضغائن فأنزل الله: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ } إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }.
والمعنى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } إيمانا حقا. إنما تعاطى { ٱلْخَمْرُ } أى: الشراب الذى يخامر العقل ويخالطه ويمنعه من التفكير السليم { وَٱلْمَيْسِرُ } أى القمار الذى عن طريقه يكون تمليك المال بالحظ المبنى على المصادفة والمخاطرة { وَٱلأَنصَابُ } أى: الحجارة التى تذبح عليها الحيوانا تقربا للأصنام. { وَٱلأَزْلاَمُ } أى: السهام التى عن طريقها يطلب الشخص معرفة ما قسم له من خير أو شر. هذه الأنواع الأربعة { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } أى: مستقذرة تعافها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، لأنها من تزيين الشيطان الذى هو عدو للإِنسان، ولا يريد له إلا ما كان شيئًا قبيحاً.
قال - تعالى -:
{ ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ } والفاء فى قوله { فَٱجْتَنِبُوهُ } للإِفصاح، والضمير فيه يعود على الرجس الذى هو خبر عن تلك الأمور الأربعة وهى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
أى: إذا كان تعاطى هذه الأشياء الأربعة رجسا وقذر ينأى عنه العقلاء فاجتنبوه لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح والظفر فى دنياكم وآخرتكم.
والنداء بقوله: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } عام لجميع المؤمنين، وقد ناداهم - سبحانه - بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم حتى يستجيبوا لما نودوا من أجله، وهو اجتناب تلك الرذائل وتركها تركا تاماً.
وقوله: { رجس } خبر عن هذه الرذائل الأربعة. وصح الإِخبار به - مع أنه مفرد - عن متعدد هو هذه الأربعة، لأنه مصدر يستوى فيه القليل والكثير وشبيه بذلك قوله - تعالى -
{ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وقيل: لأنه خبر عن الخمر، وخبر المعطوفات عليها محذوف ثقة بالمذكور.
وقيل: لأن فى الكلام مضافا إلى تلك الأشياء، وهو خبر عنه. أى: إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس.
وقوله: { مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } فى محل رفع على أنه صفة لقوله: { رِجْسٌ } أى: رجس كائن من عمل الشيطان، لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله، إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث فالمراد من إضافة العمل إلى الشيطان المبالغة فى كمال قبح ذلك العمل.
وعبر بقوله: { فَٱجْتَنِبُوهُ } للمبالغة فى الأمر بترك هذه الرذائل، فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل، بل آمركم أيضاً بأن تكونوا أنتم فى جانب وهذه المنكرات فى جانب آخر. فالأمر هنا منصب على الترك وعلى كل ما يؤدى إلى اقتراف هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها. وغشيان مجالسها. إلخ.
ثم أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية فقال تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }.
أى: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ } بتزيينه المنكرات لكم { أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ } بأن يقطع ما بينكم من صلات، ويثير فى نفوسكم الأحقاد والضغائن بسبب تعاطيكم للخمر والميسر، وذلك لأن شارب الخمر إذا ما استولت الخمر على عقله أزالت رشده، وأفقدته وعيه، وتجعله قد يسىء إلى من أحسن إليه، ويعتدى على صديقه وجليسه. وذلك يورث أشد ألوان العداوة والبغضاء بين الناس.
ولأن متعاطى الميسر كثيراً ما يخسر ماله على مائدة الميسر. والمال كما نعلم شقيق الروح، فإذا ما خسره هذا المقامر صار عدوا لمن سلب ماله منه عند المقامرة، وأصبح يضمر له السوء. وقد يؤدى به الحال إلى قتله حتى يشفى غيظه منه، لأنه قد جعله فقيراً بائساً مجردا من أمواله بعد أن كان مالكها وفى ذلك ما فيه من تولد العداوة والبغضاء وإيقاد نار الفتن والشرور بين الناس.
فقوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِر } إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية.
أما مفاسدهما الدينية فقد أشار إليها سبحانه بقوله: { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ }.
أى: ويريد الشيطان أيضاً بسبب تعاطيكم للخمر والميسر - أن يصدكم أى يشغلكم ويمنعكم { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } أى: عن طاعته ومراقبته والتقرب إليه { وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ } التى هى الركن الثانى من أركان الإِسلام.
وذلك لأن شارب الخمر يمنعه ما حل به من نشوة كاذبة، ومن فقدان لرشده عن طاعة الله وعن أداء ما أوجبه عليه من صلاة وغيرها.
ولأن متعاطى الميسر بسبب استحلاله لكسب المال عن هذا الطريق الخبيث، ويسبب فقدانه للعاطفة الدينية السليمة صار لا يفكر فى القيام بما أوجبه الله عليه من عبادات.
ورحم الله الآلوسى، فقد قال عنده تفسيره لهذه الآية: ووجه صد الشيطان لهم عن ذكر الله وعن الصلاة بسبب تعاطيهم للخمر والميسر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس. والاستغراق فى الملاذ الجسمانية، تلهى عن ذكر الله - تعالى - وعن الصلاة.
وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا، انشرحت نفسه، وصده حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر، وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يخطر بقلبه غير ذلك.
وقد شاهدنا كثيراً ممن يلعب بالشطرنج يجرى بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن ذكر الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويحار لشناعته الفهم وتسود رقعة الأعمال.
وجمع - سبحانه - الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام فى الآية الأولى ثم أفردهما بالذكر فى هذه الآية، لأن الخطاب للمؤمنين، والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر، وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة فى القبح والمفسدة، أى أن مجىء الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر إنما هو لتقبيح تعاطيهما، وتأكيد حرمتهما، حتى لكأن متعاطى الخمر والميسر يفعل أفعال أهل الجاهلية، وأهل الشرك بالله - تعالى - وكأنه - كما يقول الزمخشرى - : لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله فى علم الغيب، وبين من شرب خمراً أو قامر.
وخص الصلاة بالذكر مع أنها لون من ألوان ذكر الله، تعظيما لشأنها، كما هو الحال فى ذكر الخاص بعد العام، وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإِيمان، لما أنها عماد الدين والفارق بين المسلم وبين الكافر.
والاستفهام فى قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } لإِنكار استمرارهم على الخمر والميسر بعد أن بين لهم ما بين من مضارهما الدنيوية والدينية ولحضهم على ترك تعاطيهما فورا، أى: انتهوا سريعاً عنهما فقد بينت لكم ما يدعو إلى ذلك.
ولقد لبى الصحابة - رضى الله عنهم - هذا الأمر فقالوا: "انتهينا يا رب؛ انتهينا يا رب" وألقوا ما عندهم من خمر فى طرقات المدينة.
ثم أكد - سبحانه - وجوب هذا الانتهاء بأن أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ }.
أى: اجتنبوا - أيها المؤمنون - هذه الرذائل وانتهوا عنها فقد بينت لكم مضارها، { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } فى جميع ما أمرا به ونهيا عنه { وَٱحْذَرُواْ } مخالفتهما، لأن مخالفة أوامرهما تؤدى إلى الحسرة والخسران.
وأمر - سبحانه - بطاعته وبطاعة رسوله مع أن طاعة رسوله طاعة له - سبحانه - لتأكيد الدعوة إلى هذه الطاعة، ولتكريم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعلت طاعته مجاورة لطاعة الله - تعالى -.
وقوله: { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } تأكيد للتحذير السابق وتنبيه إلى سوء عاقبة العاصين لأمر الله ورسوله.
وجواب الشرط محذوف والتقدير: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول - أيها المؤمنون - واحذروا مخالفة أمرهما، فإن توليتم وأعرضتم عن طاعتهما، فقد وقعتم فى الخطيئة وستعاقبون عليها عقابا شديدا، واعلموا أنه ليس على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سوى التبليغ الواضح البين عن الله - تعالى - أما الحساب والجزاء، والثواب والعقاب فمن الله وحده.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا من التأكيدات، وألوانا من التهديدات التى تدعو إلى اجتناب الخمر والميسر اجتنابا تاما وتركهما تركا لا عودة بعده إليهما.
وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى بقوله: أكد - سبحانه - تحريم الخمر والميسر بوجه من التأكيد.
منها: تصدير الجملة بإنما.
ومنها: قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم
"شارب الخمر كعابد الوثن" .
ومنها: أنه جعلهما رجسا كما قال - تعالى { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان، لا يأتى منه إلا الشر البحت.
ومنها: أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب.
ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً، كان الارتكاب خيبة وخسراناً.
ومنها: أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال - وهو وقوع التعادى والتباغض - وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.
ومنها: قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فهو من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم باقون على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا".
هذا ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1 - أن هذه الآيات الكريمة هى آخر ما نزل فى القرآن الكريم لتحريم الخمر تحريما قاطعاً لأن التعبير بالانتهاء والأمر به فيه إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم.
قال القرطبى: تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة. فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأن الخمر قوله - تعالى -
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أى: فى تجارتهم. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس. وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة فيما يشغلنا عن الصلاة وشربها بعض الناس فى غير أوقات الصلاة، حتى نزلت: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } الآية. فصارت حراماً عليهم حتى صار بعضهم يقول: ما حرم الله شيئًا أشد من الخمر".
وأخرج عبد بن حميد عن الربيع أنه قال: لما نزلت آية البقرة
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم يقدم فى تحريم الخمر" ، ثم نزلت آية فى سورة النساء: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم يقدم فى تحريم الخمر" ثم نزلت آية المائدة: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } فحرمت عند ذلك.
ولما سمع عمر قوله - تعالى - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال: انتهينا يا رب.
ولا شك فى أن تدرج القرآن فى تحريم الخمر يدل دلالة واضحة على رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين وتربية حكيمة حتى يقلعوا عما تعودوه بسهولة ويسر وذلك لأن شرب الخمر كان من العادات المتأصلة فى النفوس ويكفى للدلالة على حب العرب لها قول أنس بن مالك: حرمت الخمر ولم يكن للعرب عيش أعجب منها. وما حرم عليهم شىء أشد عليهم من الخمر".
ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يحبونه ويشتهونه، يمثل اسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأمر الله - تعالى - فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها فى الطرقات، بل وحطموا الأوانى التى كانت توضع فيها الخمر.
أخرج البخارى عن أنس قال: كنت ساقى القوم فى منزل أبى طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ - أى: نقيع البسر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادى
"ألا إن الخمر قد حرمت" .
قال: فقال لى أبو طلحة: أخرج فأهرقها. قال: فخرجت فهرقتها فجرت فى سكك المدينة.
وأخرج ابن جرير عن قتادة عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبى طلحة، وأبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبى دجانة حتى مالت رءوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعنا مناديا ينادى: إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضاً بعضنا، واغتسل بعضنا ثم خرجنا إلى المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } .. إلى قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }.
فقال رجل لقتادة: سمعته من أنس بن مالك؟ قال: نعم وقال رجل لأنس أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وحدثنى من لم يكذب: والله ما كنا نكذب، ولا ندرى ما الكذب.
وأخرج ابن جرير - أيضاً - عن أبى بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ }.. الآيات. فجئت إلى أصحابى فقرأتها عليهم، إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال: وبعض القوم شربته فى يده قد شرب بعضاً وبقي بعض الإِناء، فقال بالإِناء تحت شفته العليا، كما يفعل الحجام. ثم صبوا ما فى باطيتهم، فقالوا: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا".
وهكذا ترى أن قوة الإِيمان التى غرسها الإِسلام فى نفوس اتباعه عن طريق تعاليمه الحكيمة وتربيته السامية. قد تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع إلفا شديداً
2 - أن كلمة خمر اسم خامر العقل وغطاه من الأشربة المسكرة؛ سواء كانت من عصير العنب، أم من الشعير، أم من التمر، أم من غير ذلك وكلها سواء فى التحريم قل المشروب منها أو كثر، سكر شاربها أو لم يسكر، وأن على الشارب حد الشرب فى الجميع.
وبهذا القول قال جمهور العلماء: ومن أدلتهم النقلية ما أخرجه البخارى عن ابن عمر قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهى خمسة أشياء: "العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل".
وأخرج أيضاً عن عائشة قالت:
"سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم عن البتع - وهو نبيذ العسل - وكان أهل اليمن يشربونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما أسكر فهو حرام" .
وأخرج كذلك عن أنس قال: "حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد - يعنى بالمدينة - خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر".
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة فى أن ما أسكر من هذه الأشربة المأخوذة من التمر أو الحنطة أو الشعير أو العنب يسمى خمراً.
ومن أدلتهم العقلية أصل الاشتقاق اللغوى لكلمة خمر، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره.
ويرى الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعى، وسفيان الثورى، وابن أبى ليلى: أن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره كالشراب الذى من التمر والشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذاً.
ومن حججهم أن الخمر حرمت ولم يكن العرب يعرفون الخمر فى غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط. وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمراً: لأن اللغة لا تثبت من طريق القياس.
وقد ورد عن ابن عمر أنه قال: "حرمت الخمر وما بالمدينة منها شىء".
ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل على أن ابن عمر - وهو عربى - ما كان يرى أن اسم الخمر يتناول هذين.
ويقول الأحناف ومن وافقهم: إن الأحاديث التى استشهد بها الجمهور على أن الخمر اسم لكل مسكر من عصير العنب أو غيره هذه الأحاديث لبيان الحكم الشرعى، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة وهى الإِسكار فى القدر المسكر من هذه الأشياء.
وقد ابتنى على هذا الخلاف بين الجمهور والأحناف أحكام أخرى تتعلق بنجاسة هذه الأشياء، وبوجوب إقامة الحد على شاربها.. إلخ وتفصيل هذه الأحكام يرجع فيه إلى الكتب الفقه وأصوله.
هذا، وقد رجح المحققون من العلماء ما ذهب إليه الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم.
قال ابن العربى: وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما رواه الأئمة أن أنسا قال: "حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرها البسر والتمر".
واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يؤمئذ خمر عنب وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم - أى: أوانى الخمر - وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر - أى: وأقرهم رسول الله على لذلك.
وقال الآلوسى: وعندى أن الحق الذى لا ينبغى العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأى اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده فهو حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة. وفى الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال:
"كل شراب أسكر فهو حرام" .
وروى أبو داود: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر".
وصح عنه صلى الله عليه وسلم:
"ما أسكر كثيره فقليله حرام" والأحاديث متضافرة على ذلك.
ولعمرى إن اجتماع الفساق فى زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر، ورغبتهم فيها، فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير. وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والأكسير - ونحوهما، ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة، وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون.
3 - قال القرطبى ما ملخصه: "فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها.
وخالفهم فى ذلك - ربيعة والليث بن سعد والمزنى صاحب الشافعى. وبعض المتأخرين من البغدادين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وأن المحرم إنما هو شربها.
والصحيح ما عليه الجمهور لأن وصفها بأنها { رِجْسٌ } يدل على نجاستها فإن الرجس فى اللسان النجاسة.
وقوله: { فَٱجْتَنِبُوهُ } يقتضى الاجتناب المطلق الذى لا ينتفع معه بشىء بوجه من الوجوه وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة فى هذا الباب.
روى مسلم عن ابن عباس
"أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، - أى قربة خمر - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل علمت أن الله حرمها قال: لا. قال: فسارَّ رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال: إن الذى حرم شربها حرم بيعها" .
ثم قال القرطبى: وهذه الآيات تدل على أن كل لهو دعا قليله إلى كثيره، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، ووجب أن يكون حراماً مثله.
4 - هذه الآيات الكريمة تدل على تأكيد تحريم الخمر وما ذكر معها من رذائل، كما تدل على تحريم ما تؤدى إليه من مفاسد ومضار، وما يحيق بمرتكبها من سوء عاقبة.
وقد ساق ابن كثير عند تفسير لهذه الآيات جملة من الأحاديث فى هذا المعنى، ومن هذه الأحاديث ما رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنت الخمر على عشرة أوجه: لعنت الخمر بعينها، وشاربها، وساقيها وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها" .
وقال ابن وهب - قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى" .
وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب؛ تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: صديد أهل النار" .
هذا جانب من الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة، ومن الأحاديث التى وردت فى حرمة الخمر وفى سوء مصير شاربها.
وقد أتبع - سبحانه - ذلك ببيان حكم من شربها ومات قبل أن ينزل تحريمها فقال - تعالى -:
{ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ... }