التفاسير

< >
عرض

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٥
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٦
-الأنعام

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

المعنى الإِجمالى للآية الأولى: أن هؤلاء الجاحدين لرسالات الله، لا تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على صدقك - يا محمد - فيما تبلغه عن ربك إلا تلقوها بالإِعراض، واستقبلوها بالنبذ والاستخفاف.
فالآية الكريمة، كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله - تعالى - وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله - تعالى - وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد. وامترائهم فى البعث، وإعراضهم عن أدلته.
و { مِّنْ } الأولى لاستغراق الجنس الذى يقع فى حيز النفى، كقولك: (ما آتانى من أحد) والثانية للتبعيض، أى: ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التى توجب النظر والتأمل والاعتبار، إلا أهملوه وأعرضوا عنه. لقسوة قلوبهم وعدم تدبرهم للعواقب.
وإضافة الآيات إلى اسم الرب - عز وجل - تدل على تفخيم شأنها، وعلى أن تكذيبهم لها إنما هو تكذيب لما عرفوا مصدره، كما يدل على شدة عنادهم وإيغالهم فى الكفر والجحود.
والآية الكريمة بأسلوبها المتضمن الحصر، وباشتمالها على كان وخبرها المفيد للدوام، والاستمرار، تفيد أن الإِعراض عن الحق دأبهم، وأنهم ليسوا على استعداد لتقبل الحق مهما اتضحت معالمه، وأسفرت حججه.
ثم بين - سبحانه - أنهم لم يكتفوا بالإِعراض عن الحق، بل تجاوزوا ذلك إلى التهكم بدعاته، والتطاول عليهم، وأنهم نتيجة لذلك المسلك الأثيم ستكون عاقبتهم خسرا فقال - تعالى -: { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }.
فالآية الكريمة كشفت بأسلوب مؤكد عن جانب من عتوهم وسفههم وسوء أدبهم، بعد أن كشفت سابقتها عن عنادهم ونأيهم عن الحق.
وقد بين الفخر الرازى مراحل تماديهم فى الباطل كما صورها القرآن فقال "اعلم أنه - تعالى - رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب:
فالمرتبة الأولى: كونهم معرضين عن التأمل فى الدلائل والتفكر والبينات.
والمرتبة الثانية: كونهم مكذبين بها، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشىء قد لا يكون مكذبا به، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له، فإذا صا مكذبا به فقد زاد على الإِعراض.
والمرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين بها، لأن المكذب بالشىء قد لا يبلغ تكذيبه إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى فى الإِنكار، فبين - سبحانه - أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب".
والمراد بالحق الذى كذبوا به: قيل إنه القرآن، وقيل إنه المعجزات، وقيل إنه الشرع الذى أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه الوعد الذى يرغبهم به تارة، والوعيد الذى يحذرهم بسببه تارة أخرى..
والذى نراه أن تكذيبهم قد شمل كل ذلك، لأنهم بعدم دخولهم فى الإِسلام قد صاروا مكذبين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والتعبير بقوله { لَمَّا جَآءَهُمْ } يفيد أن الحق قد وصل إليهم، وطرق قلوبهم وأسماعهم، ولكنهم عموا وصموا عنه.
والأنباء: جمع نبأ وهو ما يعظم من الأخبار، والمراد بها فى قوله - تعالى -: { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } الإِخبار عن العذاب الذى توعدهم الله به عند إصرارهم على كفرهم، ونظيره قوله - تعالى -:
{ { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } }. قال صاحب الكشاف: { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ } الشىء الذى { كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } وهو القرآن، أى أخباره وأحواله، بمعنى: سيعملون بأى شئ استهزءوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم فى الدنيا أو فى يوم القيامة أو عند ظهور الإِسلام وعلو كلمته.
ثم ساق القرآن لهم على سبيل النصيحة والإِرشاد أخبار من سبقوهم فى الكفر والبطر وبين لهم سوء عاقبتهم ليعتبروا ويتعظوا فقال - تعالى-:
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ }.
قال القرطبى: "القرن الأمة من الناس والجمع القرون. قال الشاعر:

إذا ذهب القرن الذى كنت فيهموخلفت فى قرن فأنت غريب

فالقرن كل عالم فى عصره، مأخوذ من الاقتران، أى عالم مقترن بعضهم إلى بعض، وفى الحديث الشريف: "خير الناس قرنى - يعنى أصحابى - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" فالقرن على هذا مدة من الزمان، قيل: ستون عاما، وقيل: سبعون، وقيل، ثمانون، وقيل مائة - وعليه أكثر أصحاب الحديث - أن القرن مائة سنة، واحتجوا بأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله ابن بشر: "تعيش قرنا" فعاش مائة.
والاستفهام الذى صدرت به الآية الكريمة لتوبيخ الكفار وتبكيتهم، وإنكار ما وقع منهم من إعراض واستهزاءن وهو داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه.
والتقدير: أعموا عن الحق وأعرضوا عن دلائله، ولم يروا بتدبر وتفكر كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا.
وجملة { أَهْلَكْنَا } سدت فسد مفعول رأى إن كانت بصرية، وسدت مسد مفعوليها إن كانت علمية، و { كَمْ } مفعول مقدم لأهلكنا، و { مِن قَبْلِهِم } على حذف المضاف، أى: من قبل زمنهم ووجودهم.
قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن يقال: مكناهم فى الأرض - أى القرون - ما لم نمكنهم، أى الكفار المحكى عنهم المستفهم عن حالهم، فعدل عن ذلك بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب، لما فى إيراد الفعلين بضميرى الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما، وكون المثبت عين المنفى، فقيل ما لم نمكن لكم.
و { مَا } في قوله { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذى، وهى حينئذ صفة لمصدر محذوف. والتقدير: مكناهم فى الأرض التمكين الذى لم نمكن لكم، والعائد محذوف: أى الذى لم نمكنه لكم. ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف. أى: مكناهم فى الأرض شيئاً لم نمكنه لكم.
وفى تعدية الأول وهو { مَّكَّنَّاهُمْ } بنفسه والثانى هو { نُمَكِّن لَّكُمْ } باللام إشارة إلى أن السابقين قد مكنوا بالفعل من وسائل العيش الرغيد ما لم يتيسر مثله لهؤلاء المنكرين لدعوة الإِسلام، وهذا أعظم فى باب القدرة على إهلاك هؤلاء الذين هم أعجز من سابقيهم.
هذا، وقد وصف الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم.
وصفهم - أولا - بأنهم كانوا أوسع سلطانا، وأكثر عمرانا، وأعظم استقراراً، كما يفيده قوله تعالى { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ }.
قال صاحب الكشاف: "والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة فى الأجسام، والسعة فى الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا".
ووصفهم - ثانيا - بأنهم كانوا أرغد عيشا، وأسعد حالا، وأهنأ بالا، يدل على ذلك قوله تعالى:
{ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } أى: أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها.
ووصفهم - ثالثا - بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التى يسيرون مجاريها كما يشاءون، فيبنون مساكنهم على ضفافها. ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجميلة، كما يرشد إليه قوله - تعالى -: { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } أى: صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم.
ولكن ماذا كانت عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التى لم تتيسر لأهل مكة؛ كانت عاقبتهم - كما أخبر القرآن عنهم - { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أى: فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك، إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم.
والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران:
أحدهما: أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد فى الأرض، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.
والمظهر الثانى: إهلاك الله - تعالى - لها عقابا على أوزارها.
وقوله - تعالى - فى ختام الآية { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } يدل على كمال قدرة الله، ونفاذ إرادته، وأن إهلالكه لتلك الأمم بسبب ذنوبها لم ينقص من ملكه شيئا، لأنه - سبحانه - كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى.
قال - تعالى -
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } ثم بين القرآن توغلهم فى الجحود والعناد، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته، وساق جانبا من أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال - تعالى -: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً... }.