التفاسير

< >
عرض

الۤمۤصۤ
١
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٢
ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٣
وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ
٤
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٥
فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ
٦
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ
٧
وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٨
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ
٩
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة الأعراف من السور التى ابتدأت ببعض حروف التهجى { الۤمۤصۤ } ولم يسبقها فى النزول من هذا النوع من السور سوى ثلاثة وهى سور: (ن، ق، ص) ويبلغ عدد السور القرآنية التى ابتدئت بالحروف المقطعة تسعاً وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود من حروف التهجى التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال اختلافهم فى رأيين:
الرأى الأول: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى، وسفيان الثورى، وغيرهما من العلماء؛ فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال: "إن لكل كتاب سرّا، وإن سر هذا القرآن فواتح السور" وروى عن ابن عباس أنه قال: "عجزت العلماء عن إدراكها" وعن على - رضى الله عنه - أنه قال: "إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى" وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال: "سر الله فلا تطلبوه".
ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثل ذلك كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين. ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور. وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا.
أما الرأى الثانى: فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه، وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى:
1 - أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم:
"من قرأ حم السجدة، حفظ إلى أن يصبح" ، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها، كسورة "ص" وسورة "يس" إلخ.
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه. وأيضا فالتسمية بها أمر عارض لا يتنافى مع المراد منها فى ذاتها.
2 - وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
3 - وقيل إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله تعالى، وبعضها من صفاته، فمثلا: "ألم" أصلها أنا الله أعلم.
4 - وقيل إنها اسم الله الأعظم، إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال، والتى أوصلها الإِمام السيوطى في كتابه "الإِتقان"، إلى أكثر من عشرين قولا.
5 - ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى بعض سور القرآن على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن، فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك العارضين فى أن القرآن من عند الله: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو جنس ما تؤلفون منه كلامكم. ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، أو ادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونوكم فى ذلك.
ومما يشهد بصحة هذا الرأى أن الآيات التى تلى هذه الأحرف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكثيراً ما تبدأ هذه الآيات باسم الإِشارة صراحة، مثل قوله تعالى: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أو ضمنا مثل قوله - تعالى -: فى أول سورة الأعراف { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ } وأيضا فإن هذه السور تجعل هدفها الأول منذ بدئها إلى نهايتها اثبات الرسالة عن طريق هذا الكتاب المنزل.
هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء فى الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب "البرهان" للزركشى، وإلى كتاب "الإِتقان" للسيوطى.
ثم مدح - سبحانه - الكتاب الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ }.
المراد بالكتاب جملة القرآن الكريم، وقيل: المراد به هنا السورة. وحرج الصدر ضيقه وغمه، مأخوذ من الحرجة التى هى مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذى لا يجد السالك فيه طريقا يخرج منه.
والمعنى، هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين، فبلغ تعاليمه للناس. ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدوداً عنه، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
ولقد حكى لنا القرآن أن المشركين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر. أو مجنون، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند الله، فكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك.
قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } }. فالمقصود بقوله - تعالى -: { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } تقوية قلب النبى صلى الله عليه وسلم، وتثبيت فؤاده، وتسليته عما يتقوله المشركون من أكاذيب وأباطيل، وإفهام الداعى إلى الله فى كل زمان ومكان أن من الواجب عليه أن يكون قوى القلب فى تحمل مهمته، مطمئن البال على حسن عاقبته، لا يتأثر بالمخالفة، ولا يضيق صدره بالإِنكار.
وقد فسر صاحب الكشاف الحرج بالشك فقال: { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى شك منه كقوله:
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أى: لا تشك فى أنه منزل من الله، ولا تتحرج من تبليغه، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم. فكان ضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم.
وعلى أية حال فإن من فسر الحرج بالضيق راعى مدلول الكلمة الأصلى ومن فسره بالشك راعى الاستعمال المجازى ولذا قال الآلوسى:
قوله تعالى -: { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى: شك. وأصله الضيق، واستعماله فى الشك مجاز علاقته اللزوم، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر، كما أن المتيقن يعتريه انشرحه وانفساحه.
ولفظ { كِتَابٌ } يكون مبتدأ إذا جعلنا { الۤمۤصۤ } اسما للسورة، وإلا كان خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير: هذا كتاب. وتنكيره للتفخيم والتعظيم وجملة { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل عليه.
وإنما قيل: { أُنزِلَ } ولم يقل أنزله الله وأنزلناه، للإِيذان بأن المنزل مستغن عن التعريف لشرفه وغاية ظهوره.
ثم بين - سبحانه - العلة فى إنزال الكتاب فقال: { لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }.
الإِنذار: هو الإِعلام المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة.
أى: أنزلنا إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس، وتذكر به أهل الإِيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة، لأنهم هم المستعدون لذلك، وهم المنتفعون بإرشادك.
قال تعالى:
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقال تعالى: { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } وقال تعالى: { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } قال صاحب الكشاف: "فما محل ذكرى؟ قلت يحتمل الحركات الثلاث. النصب بإضمار فعلها. كأنه قيل: لتنذر به وتذكر تذكيرا، لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير، والرفع عطفا على كتاب، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف. والجر للعطف على محل لتنذر، أى: للإِنذار وللذكر".
ثم أمر القرآن الناس باتباع تعاليم الإِسلام التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فقال: { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }.
أى: اتبعوا أيها الناس ملة الإِسلام وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، لأن الذى أنزل عليكم هذه الشريعة هو ربكم الذى هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم والعليم بما فيه مصلحتكم وحذار من أن تتركوا شريعة الإِسلام التى تدعوكم إلى إفراد الله بالعبودية، وتتخذوا معه شركاء يزينون لكم الأباطيل، ويصرفونكم عن دينه القويم فالآية الكريمة كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين لحضهم على إفراد الله بالعبودية، ونهيهم عن اتباع أحد من الخلق فيما يتعلق بالأمور الدينية التى وضحتها الشريعة الإِسلامية.
وقوله - تعالى -: { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } معناه: تذكراً قليلا تتذكرون، أو زمناً قليلا تتذكرون فهو منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف زمان محذوف. وما مزيدة لتأكيد القلة.
ثم ساق لهم بعد ذلك على سبيل الإِنذار والتخويف جانبا من العذاب الذى نزل بمن سبقوهم بسبب ظلمهم وعنادهم فقال - تعالى -:
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }.
كم هنا خبرية بمعنى كثير. وهى فى محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها، و { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز.
والقرية تطلق على مكان اجتماع الناس. وبأسنا: أى عذابنا وعقابنا. وبياتا: أى ليلا ومنه البيت لأنه يبات فيه. يقال: بات يبيت بيتا وبياتا. وقائلون من القائلة وهى القيلولة وهى نوم نصف النهار. وقيل: هى الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم. ودعواهم، أى: دعاؤهم واستغاثتهم بربهم أو قولهم.
والمعنى: وكثيراً من القرى الظالمة أردنا إهلاكها، فنزل على بعضها عذابنا فى وقت نوم أهلها بالليل كما حصل لقوم لوط، ونزل على بعضها فى وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم شعيب، فما كان منهم عندما باغتهم العذاب فى وقت اطمئنانهم وراحتهم إلى أن اعترفوا بذنوبهم وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا فى الخلاص: إنا كنا ظالمين.
فهاتان الآيتان الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم، وتلك سنة الله التى لا تختلف فى أى زمان أو مكان. وأن الظالمين عندما يفاجأون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته، وكان الأجدر بهم أن يتوبوا من ذنوبهم عندما جاءتهم النذر، وقبل حلول العذاب.
ولذا قال ابن كثير: قال ابن جرير: فى هذه الآية الدلالة الواضحة فى صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:
"ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم" .
و { أَوْ } فى قوله: { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } للتنويع، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم نهاراً عند استراحتهم. وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب، لأنهما وقتا غفلة ودعة واستراحة، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع.
ومن العبر التى نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذى يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهى، ولا يأمن صفو الليالى، ورخاء الأيام، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء فإنه
{ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } وبعد أن بين القرآن ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى. عقبه ببيان ما سيحل بهم من عذاب أخروى، فقال:
{ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ }.
والمراد بالذين أرسل إليهم جميع الأمم التى بلغتها دعوة الرسل، يسأل كل فرد منها عن رسوله إليه وعن تبليغه لدعوة الله، ويسأل المرسلون عن التبليغ منهم وعن إجابة أقوامهم لهم، وقد ورد ذلك فى كثير من آيات القرآن. قال - تعالى -:
{ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } وقال تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } والمعنى: فلنسألن المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم، ولنسألن المرسلين عما أجيبوا به من أقوامهم وعن تبليغهم لرسالات الله، ولنقصن على الرسل والمرسل إليهم كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل، لأننا لا يغيب عنا شىء من أحوالهم.
وعطفت جملة { فَلَنَسْأَلَنَّ } على ما قبلها بالفاء، لأن هذا السؤال سيكون فى الآخرة، وما ذكر قبل ذلك من عقوبات هو آخر أمرهم فى الدنيا. فالآية الكريمة بيان لعذابهم الأخروى إثر بيان عذابهم الدنيوى.
وأكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد، لأن المخاطبين كانوا ينكرون البعث والجزاء.
فإن قيل: قد أخبر الله عنهم قبل ذلك أنهم قالوا عند نزول العذاب بهم { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } فلماذا يسألون يوم القيامة مع أنهم اعترفوا بظلمهم فى الدنيا؟
فالجواب: أنهم لما اعترفوا سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم، والمقصود من هذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم لكفرهم وعنادهم.
فإن قيل: فما فائدة سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا الأمانة ونصحوا للأمة؟
فالجواب من فوائده الرد على من أنكر من المشركين أن الرسل قد بلغوهم، فقد حكى القرآن أن بعضهم قال:
{ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } ومن فوائده - أيضاً - مضاعفة الثواب لهؤلاء الرسل الكرام حيث إنهم قد بذلوا قصارى جهدهم فى التبشير والإِنذار، ولم يصدر عنهم تقصير قط. فسؤال المرسل إليهم إنما هو سؤال توبيخ وإفضاح، وسؤال المرسلين إنما هو سؤال استشهاد بهم وإفصاح.
فإن قيل: هناك بعض الآيات تثبت أن المجرمين لن يسألوا يوم القيامة كما فى قوله تعالى:
{ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } وكما فى قوله تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } فكيف نجمع بين هذه الآيات الت تنفى السؤال والآيات التى تثبته كما فى قوله: { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ }؟
فالجواب، أن فى يوم القيامة مواقف متعددة، فقد يسألون فى موقف الحساب ولا يسألون فى موقف العقاب. أو أن المراد بالسؤال فى قوله: { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ } التوبيخ والتقريع. والمنفى فى قوله:
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } سؤال الاستعلام، أى أن المذنب لا يسأل يوم القيامة هل أذنبت أولا، لأن الله لا تخفى عليه خافية، وإنما يسأل: لم فعلت كذا؟ بعد أن يعرفه - سبحانه - بما فعله، ويؤيد هذا القول قوله - تعالى -: { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } أى: فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا.
قال بعض العلماء: "والذى يهمنا هنا، أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار، وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد، فليس فى السائل مظنة أن يجهل، ولا فى المسئول مظنة أن ينكر:، وهو تصوير لما يكون من شعور المكذبين بتكذيبهم، وشعور المرسلين بتبليغهم، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها وأعرض عنها فى الوقت الذى كان يجديه الإققال عليها والإِيمان بها، وهو نوع من زيادة الحسرة، وقطع الآمال فى النجاة بوضع يد المجرم على جسم جريمته، وهو فى الوقت نفسه نوع من زيادة الأمن و الطمأنينة للرسل فى القيام بدعوتهم وتبليغهم ما أمروا بتبليغه، ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله - تعالى -: { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ }.
ثم بين - سبحانه - مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال:
{ وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }.
الوزن: عمل يعرف به قدر الشىء، يقال: وزنته وزنا وزنة. وهو مبتدأ، ويومئذ متعلق بمحذوف خبره. والحق صفته، أى: والوزن الحق يوم القيامة.
ومعنى الآيتين الكريمتين: والوزن الحق ثابت فى ذلك اليوم الذى يسأل الله فيه الرسل والمرسل إليهم. ويخبرهم جميعا بما كان منهم فى الدنيا، فمن رجحت موازين أعماله بالإِيمان والعمل الصالح، فأولئك هم الفائزون بالثواب والنعيم، ومن خفت موازين أعماله بالكفر والمعاصى فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب.
قال تعالى:
{ وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } وقد اختلف العلماء فى كيفية الوزن فقال بعضهم: إن التى توزن هى صحائف الأعمال التى كتبت فيها الحسنات والسيئات تأكيداً للحجة وإظهاراً للنصفة، وقطعا للمعذرة. قال ابن عمر: "توزن صحائف أعمال العباد يوم القيامة".
وقيل: إن الوزن هنا كناية عن القضاء السوى، والعدل التام فى تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول: هذا الكلام فى وزن هذا وفى وزانه. أى يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن.
والذى نراه أن من الواجب علينا أن نؤمن بأن فى الآخرة وزنا للأعمال، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجرى فى ذلك اليوم الهائل الشديد، أما كيفية هذا الوزن فمرده إلى الله، لأنه شىء استأثر الله بعلمه، وعلينا أن نعفى أنفسنا من محاولة الكشف عن أمر غيبى لم يرد فى حقيقته خبر قاطع فى كتاب الله أو سنة رسوله.
قال الجمل فى حاشيته على الجلالين: "فإن قلت: أليس الله - تعالى - يعلم مقادير أعمال العباد، فما الحكمة فى وزنها؟ قلت فيه حكم: منها، إظهار العدل وأن الله - تعالى - لا يظلم عباده، ومنها: امتحان الخلق بالإِيمان بذلك فى الدنيا وإقامة الحجة عليهم فى العقبى. ومنها تعريف العباد بما لهم من خير أو شر وحسنة أو سيئة، ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه - سبحانه - أثبت أعمال العباد فى اللوح المحفوظ وفى صحائف الحفظة الموكلين ببنى آدم من غير جواز النسيان عليه".
وقوله - تعالى -: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن، وثقل الموازين المراد به رجحان الأعمال الحسنة على غيرها، كما أن خفة الموازين المراد بها رجحان الأعمال القبيحة على ما سواها.
وقوله - تعالى -: { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } متعلق بخسروا؛ أى: أن خسرانهم لأنفسهم فى الآخرة كان سببه جحودهم لآيات الله واستهزاءهم بها فى الدنيا.
ثم حكى القرآن جانباً من مظاهر نعم الله على خلقه فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي.... }.