التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨٥
وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨٦
وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٧
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أى: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. ومدين اسم للقبيلة التى تنسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - وكانوا يسكنون فى المنطقة التى تسمى معان بين حدود الحجاز والشام، وهم أصحاب الأيكة - والأيكة: منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية معان، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا.
وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم فهو أخوهم فى النسب وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيب قال:
"ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، وقوة حجته" .
وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان فدعاهم إلى توحيد الله - تعالى - ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق.
وعن السدى وعكرمة: أن شعيبا أرسل إلى أمتين: أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة، وأنه لم يبعث نبى مرتين إلا شعيب - عليه السلام -.
ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة فأهل مدين هم أصحاب الأيكة أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة - أى السحابة -، وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر.
وبعد أن دعاهم إلى وحدانية الله شأن جميع الرسل فى بدء دعوتهم قال لهم: { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أى: قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتى توجب عليكم الإِيمان بى والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة لقوله: { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ }، ولأنه لا بد لمدعى النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه وإلا لم تصح دعواه، وكان متنبئا لا نبياً، غير أن معجزته لم تذكر فى القرآن كما لم تذكر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه.
ثم أخذ فى نهيهم عن أبرز المنكرات التى كانت متفشية فيهم فقال - كما حكى القرآن عنه -:
{ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } الكيل والميزان مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن به، كالعيش بمعنى ما يعاش به. أو المكيل والموزون.
أى: فأتموا الكيل والميزان للناس بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة.
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } أى: ولا تنقصوهم حقوقهم بتطفيف الكيل ونقص الوزن فيما يجرى بينكم وبينهم من معاملات.
يقال: بخسه حقه يبخسه إذا نقصه إياه. وظلمه فيه "وتبخسوا" تعدى إلى مفعولين أولهما الناس والثانى أشياءهم.
وفائدة التصريح بالنهى عن النقص بعد الأمر بالإِيفاء، تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده.
قال الآلوسى: وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه. وقد جاء عن ابن عباس أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم. قيل ويدخل فى ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه. وكثير ممن ينتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس، وليتهم قنعوا به بل جمعوا "حشفا وسوء كيلة" فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم نهاهم عن الافساد بوجه عام فقال: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أى: لا تفسدوا فى الأرض بما ترتكبون فيها من ظلم وبغى، وكفر وعصيان، بعد أن أصلح أمرها وأمر أهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون الذين يعدلون فى معاملاتهم ويلتزمون الحق فى كل تصرفاتهم.
ثم ختمت الآية بتلك الجملة الكريمة التى استجاش بها شعيب مشاعر الإِيمان فى نفوس قومه حيث قال لهم: { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }.
أى: ذلكم الذى آمركم به وأنهاكم عنه خير لكم فى الحال والمآل فبادروا إلى الاستجابة لى إن كنتم مصدقين قولى، ومنتفعين بالهدايات التى جئت بها إليكم من ربكم.
فاسم الإِشارة { ذٰلِكُمْ } يعود إلى ما ذكر من الأمر بالوفاء فى الكيل والميزان والنهى عن بخس الناس أشياءهم وعن الافساد فى الأرض.
ثم انتقل شعيب إلى نهيهم عن رذائل أخرى كانوا متلبسين بها فقال: { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } توعدون: من التوعد بمعنى التخويف والتهديد. أى: ولا تقعدوا بكل طريق من الطرق المسلوكة تهددون من آمن بى بالقتل، وتخيفونه بأنواع الأذى، وتلصقون بى وأنا نبيكم التهم التى أنا برىء منها، بأن تقولوا لمن يريد الإِيمان برسالتى: إن شعيبا كذاب وإنه يريد أن يفتنكم عن دينكم.
وقوله: { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى: وتصرفون عن دين الله وطاعته من آمن به، وتطلبون لطريقه العوج بإلقاء الشبه أو بوصفها بما ينقصها، مع أنها هى الطريق المستقيم الذى هو أبعد ما يكون من شائبه الاعوجاج.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: صراط الحق واحد
{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فكيف قيل: بكل صراط؟ قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع فى شىء منها أوعدوه وصدوه فإن قلت: إلام يرجع الضمير فى { آمَنَ بِهِ }؟ قلا: إلى كل صراط، والتقدير: توعدون من آمن به وتصدون عنه. فوضع الظاهر الذى هو سبيل الله موضع الضمير زيادة فى تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدون عنه.
وقوله: توعدون. وتصدون، وتبغون هذه الجمل أحوال، أى: لا تقعدوا موعدين وصادين، وباغين، ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب، ثم ذكرهم شعيب بنعم الله عليهم فقال: { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } أى: اذكروا ذلك الزمن الذى كنتم فيه قليلى العدد فكثركم الله بأن جعلكم موفورى العدد، وكنتم فى قلة من الأموال فأفاضها الله بين أيديكم، فمن الواجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم، وأن تفردوه بالعبادة والطاعة ثم اتبع هذا التذكير بالنعم بالتخويف من عواقب الافساد فقال: { وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } أى: انظروا نظر تأمل واعتبار كيف كانت عاقبة المفسدين من الأمم الخالية، والقرون الماضية، كقوم لوط وقوم صالح، فسترون أنهم قد دمروا تدميراً بسبب إفسادهم فى الأرض، وتكذيبهم لرسلهم
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُوۤاْ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ } لأن سيركم على طريقهم سيؤدى بكم إلى الدمار.
ثم نصحهم بأن يأخذوا أنفسهم بشىء من العدل وسعة الصدر، وأن يتركوا أتباعه أحراراً فى عقيدتهم حتى يحكم الله بين الفريقين، فقال: { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }.
أى: إن كان بعضكم قد آمن بما أرسلنى الله به إليكم من التوحيد وحسن الأخلاق، وبعضكم لم يؤمن بما أرسلت به بل اصر على شركه وعناده، فتربصوا وانتظروا حتى يحكم الله بيننا وبينكم بحكمه العادل، الذى يتجلى فى نصرة المؤمنين، وإهلاك الظالمين، وهو - سبحانه - خير الحاكمين.
قال صاحب الكشاف: "وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله:
{ فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } أو هو عظة للمؤمنين وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا للفريقين. أى: ليصبر المؤمنون على أذى الكفار، وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب".
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حكت لنا جانبا من الحجج الناصعة، والنصائح الحكيمة، والتوجيهات الرشيدة التى وجهها شعيب - خطيب الأنبياء إلى قومه.
وارجع البصر - أيها القارئ الكريم - فى هذه النصائح ترى شعيبا - عليه السلام - يأمر قومه بوحدانية الله لأنها أساس العقيدة وركن الدين الأعظم، ثم يتبع ذلك بمعالجة الجرائم التى كانت متفشية فيهم، فيأمرهم بإيفائهم الكيل والميزان، وينهاهم عن بخس الناس أشياءهم وعن الإِفساد فى الأرض، وعن القعود فى الطرقات لتخويف الناس وتهديدهم، وعن محاولة صرفهم عن طريق الحق، بإلقاء الشبهات، وإشاعة الأباطيل. مستعملا فى وعظه التذكير بنعم الله تارة. وبنقمه من المكذبين تارة أخرى.
ولقد كان من المنتظر أن يتقبل قوم شعيب هذه المواعظ تقبلا حسنا، وأن يصدقوه فيما يبلغه عن ربه، ولكن المستكبرين منهم عموا وصموا عن الحق، واستمع إلى القرآن وهو يحكى موقفهم فيقول: { قَالَ ٱلْمَلأُ... }.