التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ
٢٠
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
٢١
إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
٢٢
وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٣
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمعنى: يأيها الذين آمنوا حق الإِيمان، أطيعوا الله ورسوله فى كل أحوالكم، { وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } أى ولا تعرضوا عنه، فإن فى إعراضكم عنه خسارة عظيمة لكم فى دنياكم وآخرتكم.
قال الآلوسى: "وأعيد الضمير إليه - صلى الله عليه وسلم -، لأن المقصود طاعته، وذكر طاعة الله - تعالى - توطئة لطاعته، وهى مستلزمة لطاعة الله - تعالى -، لأنه مبلغ عنه، فكان الراجع إليه - صلى الله عليه وسلم - كالراجع إلى الله - تعالى -".
وقوله: { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } جملة حالية مسوقة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولى مطلقا، لا لتقييد النهى عنه بحال السماع.
أى أطيعوا الله ورسوله - أيها المؤمنون - ولا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته وقوله: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } تأكيد لما قبله، ونهى لهم عن التشبه بالضالين.
أى أطيعوا الله ورسوله فى كل أحوالكم عن إخلاص وإذعان، ولا تقصروا فى ذلك فى وقت الأوقات، وإياكم أن تتشبهوا بأولئك الكافرين والمنافقين الذين ادعوا السماع فقالوا سمعنا، والحال أنهم لم يسمعوا سماع تدبر واتعاظ، لأنهم لم يصدقوا ما سمعوه، ولم يتأثروا به. بل نبذوه وراء ظهورهم.
فالمنفى فى قوله - تعالى - { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، لكنه جئ به على سبيل الإِطلاق، للإِشعار بأنهم قد نزلوا من لم يسمع أصلا، بجعل سماعهم بمنزلة العدم، حيث إنه سماع لا وزن له، ولا فائدة لهم من ورائه، مع أنهم لو فتحوا آذانهم وقلوبهم للحق لاستفادوا، ولكنهم آثروا الغى على الرشد.
ثم وصف - سبحانه - الكفار والمنافقين وأشباههم وصفاً يحمل العقلاء على النفور منهم، فقال - تعالى -: { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }.
والدواب: جمع دابة وهى كل ما يدب على الأرض. قال - تعالى -:
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ.. } }. قال الجمل: "وإطلاق الدابة على الإِنسان لما ذكروه فى كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا، وفى المصباح: الدابة كل حيوان فى الأرض مميزا أو غير مميز".
وقد روى أن هذه الآيات نزلت فى نفر من بنى عبد الدار، كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فقتلوا جميعا يوم بدر.
وهذا لا يمنع أن الآية الكريمة يشمل حكمها جميع المشركين والمنافقين، إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
والمعنى: إن شر ما يدب على الأرض { عِندَ ٱللَّهِ } أى: فى حكمه وقضائه، وهم أولئك: { ٱلصُّمُّ } عن سماع الحق { ٱلْبُكْمُ } عن النطق به { ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أى لا يعلقون التمييز بينه وبين الباطل.
ووصفهم - سبحانه - بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون، لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس، بل استعملوها فيما يضر ويؤذى، فكان وجودها فيهم كعدمها.
وقدم الصمم على البكم، لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له، كما أن النطق به من فروع سماعه.
وقوله { ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } تحقيق لكمال سوء حالهم، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما فهم بعض الأمور... أما إذا كان بجانب صممه وبكمه فاقد العقل، فإنه فى هذه الحالة يكون قد بلغ الغاية فى سوء الحال..
قال صاحب المنار: وقوله: { ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أى: فقدوا فضيلة العقل الذى يميز بين الحق والباطل والخير والشر، إذ لو عقلوا لطلبوا، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا، وتذكروا وذكروا.. فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق صاروا كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى.. بل هم شر من ذلك لأنهم اعطيت لهم المشاعر والقوى فأفسدوها على أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله لأجله، فهم كما قال الشاعر:

خُلِقوا، وما خُلِقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رُزِقوا وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا

ولم يصفهم هنا بالعمى كما وصفهم فى آية الأعراف وآيتى البقرة، لأن المقام هنا مقام تعريض بالذين ردوا دعوة الإِسلام، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن".
وقوله - تعالى - { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ... } بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغى على الرشد، والضلالة على الهداية.
أى: ولو علم الله - تعالى - فى هؤلاء الصم البكم { خَيْراً } أى: استعدادا للإِيمان ورغبة فيما يصلح نفوسهم وقلوبهم { لأَسْمَعَهُمْ } سماع تفهم وتدبر، أى: لجعلهم سامعين للحق، ومستجيبين له، ولكنه - سبحانه - لم يعلم فيهم شيئا من ذلك، فحجب خيره عنهم بسبب سوء استعدادهم.
ولذا قال - تعالى - بعد ذلك: { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } أى: ولو أسمعهم سماع تفهم وتدبر، وهم على هذه الحالة العارية من كل خير لتولوا عما سمعوه من الحق { وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } عن قبوله جحودا وعنادا.
قال الفخر الرازى: قوله - تعالى -: { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } أى: أن كل ما كان حاصلا، فإنه يجب أن يعلمه الله، فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه فى نفسه بعدم علم الله بوجوده، وتقرير الكلام: لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهم، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا به، ولتولوا وهم معرضون.
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه، وحذرهم من الأقوال والأعمال التى تكون سبباً فى عذابهم، وذكّرهم بجانب من مننه عليهم، فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ...لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.