التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٤٧
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤٨
إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٩
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ... } المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير. خرجوا يالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة، بعث خفاف الكناتى - وكان صديقا لأبى جهل - بهدايا إليه مع ابن له، فلما أتاه قال: إن أبى ينعمك صباحا ويقول لك: إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معى من قرايتى فعلت.
فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا. إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة. وإن كنا إنما نقاتل الناس، فوالله إن بنا على الناس لقوة.
والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف فيها القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم. وحتى تسمع العرب - بمخرجنا فتهابنا آخر الآبد -.
قال المفسرون: فوردوا بدرا، وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
وقوله { بَطَراً } مصدر بطر - كفرح - ومعناه كما يقول الراغب: دهش يعترى الإِنسان من سوء احتمال النعمة، وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها.
أى أن البطر ضرب من التكبر والغرور واتخاذ نعم الله - تعالى - وسيلة إلى ما لا يرضيه وهو مفعول لأجله، أو حال، أى: حال كونهم بطرين.
وقوله { وَرِئَآءَ } مصدر رأى ومعناه: القول أو الفعل الذى لا يقصد معه الإِخلاص، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء.
والمعنى: كونوا أيها المؤمنون - ثابتين عند لقاء الأعداء، ومكثرين من ذكر الله وطاعته. وصابرين فى كل المواطن.. واحذروا أن تتشبهوا بأولئك المشركين الذين خرجوا من مكة { بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ } أى خرجوا غرورا وفخرا وتظاهرا بالشجاعة والحمية.. حتى ينالوا الثناء منهم..
وقوله: { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } معطوف على { بَطَراً } والسبيل: الطريق الذى فيه سهولة. والمراد بسبيل الله: دينه. لأنه يوصل الناس إلى الخير والفلاح.
أى: خرجوا بطرين بما أوتوا من نعم ومرائين بها الناس، وصادين إياهم عن دين الإِسلام الذى باتباعه يصلون إلى السعادة والنجاح.
وعبر عن بطرهم وريائهم بصيغة الاسم الدال على التمكن والثبوت، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث، للإِشعار بأنهم كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والرياء، وأن هذه الصفات دأبهم وديدنهم، أما الصد عن سبيل الله فلم يحصل منهم إلا بعد أن دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الإِسلام.
وقوله: { وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } تذييل قصد به التحذير من الاتصاف بهذه الصفات الذميمة، لأنه - سبحانه - محيط بكل صغيرة وكبيرة وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فعلى المؤمنين أن يخصلوا لله - تعالى - أعمالهم.
وقوله: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ.. } تذكير للمؤمنين بما خدع به الشيطان الكافرين من وعود كاذبة، وأمانى باطلة.
والمراد بهذا التذكير: حضهم على المداومة على طاعة الله وشكره، حيث إنه - سبحانه - لم يجعلهم كأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان.
والمعنى: احذروا - أيها المؤمنون - أن تتشبهوا بأولئك الذين خرجوا من ديارهم بطرا ومفاخرة.. واذكروا وقت أن { زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } فى معاداتكم، بأن وسوس لهم بأنهم على الحق وانتم على الباطل، وحسن لهم ما جبلوا عليه من غرور ومراءاة، وأوهمهم بأن النصر سيكون لهم عند لقائكم، بأن قال لهم { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } أى: لن يغلبكم أحد من الناس، لا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا غيرهم من قبائل العرب، وأنى مجير ومعين وناصر لكم، إذ المراد بالجار هنا: الذى يجير غيره. أى: يؤمنه مما يخاف ويخشى.
قال الآلوسى: أى: ألقى فى روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم، وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات - تجعله مجيرا لهم، وحافظا إياهم عن السوء حتى قالوا: اللهم انصر اهدى الفئتين، وأفضل الدينين.
فالقول مجاز عن الوسوسة. والإِسناد فى قوله { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } من قبيل الاسناد إلى السبب الداعى. و { لَّكُمْ } خبر { لاَ } أو صفة { غَالِبَ } والخبر محذوف. أى: لا غالب كائنا لكم موجود. و { ٱلْيَوْمَ } معمول الخبر. و { مِنَ ٱلنَّاسِ } حال من ضمير الخبر..."
وقوله: { فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } بيان لما فعله الشيطان وقاله بعد أن رأى ما رأى من قوة لا طافة له بها..
وقوله: { تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ } أى: تقاربتا بحيث صارت كل فئة ترى الأخرى رؤية واضحة.
ومنهم من جعل { تَرَآءَتِ } بمعنى التقت وقوله { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } أى: ولى هاربا ورجع القهقرى. وأبطل كيده وذهب ما مناهم به من النصرة والعون يقال: نكص عن الأمر نكوصا ونكصا أى: تراجع عنه وأحجم. والعقب: مؤخر القدم.
والمعنى: لقد حرض الشيطان جنوده من الكافرين على حربكم - أيها المؤمنون -، ومناهم بالنصر عليكم... ولكنه حينما تراءت الفئتان: فئتكم وفئته، ورأى ما أمدكم الله به من الملائكة، ولى مدبرا وقال للكافرين: { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ } أى: من عهدكم وجواركم ونصرتكم، { إِنَّيۤ أَرَىٰ } من الملائكة النازلة لتأييد المؤمنين مالا ترونه أنتم { إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ } أن يعذبنى قبل يوم القيامة، أو إنى أخاف الله أن يصيبنى بمكروه من قبل ملائكته.
وقوله: { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } يحتمل أنه من كلام إبليس الذى حكاه الله - تعالى عنه، ويحتمل أنه جملة مستأنفة من كلامه عز وجل.
أى: والله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره.
هذا، وهناك قولان فى كيفية تزيين الشيطان للمشركين:
أحدهما: أن هذا التزيين لم يكن حسيا، وإنما كان معنويا عن طريق الوسوسة دون أن يتحول الشيطان إلى صورة إنسان.
وعليه يكون قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ... } مجازا عن الوسوسة. وقوله { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } استعارة لبطلان كيده، شبه بطلان كيده بعد وسوسته بمن رجع القهقرى عما يخافه.
وثانيهما: أن هذا التزيين كان حسيا بمعنى أن الشيطان تمثل لهم فى صورة إنسان، وقال لهم ما قال مما حكاه الله - تعالى - عنه.
وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين فى تفسير الآية فقال: واذكر { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } التى عملوها فى معاداة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أى: بطل كيده حين نزلت جنود الله.
وكذا عن الحسن -رحمه الله - قال: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم.
وقيل: لما اجتمعت قريش على السير - لحرب المسلمين فى بدر - ذكرت الذى بينها وبين كنانة من الحرب، فكاد ذلك يثنيهم عن حرب المسلمين، فتمثل لهم إبليس فى صورة سراقة ابن مالك بن جعشم الشاعر الكنانى - وكان من أشرفهم - فى جند من الشياطين معه راية وقال: لا غالب لكم اليوم وإنى مجيركم من بنى كنانة. فلما رأى الملائكة تنزل، نكص.
وقيل: كانت يده فى يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذلنا فى هذه الحال؟ فقال: إنى أرى ما لا ترون، ودفع صدر الحارث وانطلق وانهزموا.
فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتنى هزيمتكم. فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.
وفى الحديث - الذى أخرجه مالك فى الموطأ -
"وما رئى إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه فى يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة. إلا مارئى يوم بدر" .
وقد ذكر ابن جرير وابن كثير روايات أخرى تتفق فى جملتها مع ما ذكره صاحب الكشاف، وإن كانت تختلف عنها فى التفصيل، ومن ذلك قول ابن جرير:
"وكان تزيينه ذلك لهم كما حدثنى المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنى معاوية عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر فى جند من الشياطين معه رايته فى صورة رجل من بنى مدلج، فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب، فرمى بها فى وجوه المشركين، فولوا الأدبار.
وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه - وكانت يده فى يد رجل من المشركين - انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته.
فقال الرجل: يا سراقة تزعم أنك لنا جار؟ قال: { إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } وذلك حين رأى الملائكة.
ثم قال: وحدثنا أحمد بن الفرج، قال: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، قال: حدثنا مالك، عن ابراهيم بن أبى عبلة، عن طلحة بن عبد ابن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"مارئى إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحر من يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة أى: يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب" .
وقد سار - ابن جرير وابن كثير - فى تفسيرهما للآية على أن التزيين من الشيطان كان حسيا.
فابن جرير يقول. بعد أن ذكر بضع روايات فى تفسير الآية: فتأويل: وإن الله لسميع عليم فى هذه الأحوال، وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم. ايها المؤمنون لحربكم وقتالكم، وحسن ذلك لهم، وحثهم عليكم وقال لا غالب لكم اليوم، من بنى آدم، فاطمئنوا وابشروا وإنى جار لكم من كنانة أن تأتيكم من ورائكم... واجعلوا جدكم وبأسكم على محمد وأصحابه { فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ } يقول: فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين، وجنود الشيطان من الكافرين، ونظر بعضهم إلى بعض { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } أى: رجع القهقرى على قفاه هاربا.. وقال للمشركين { إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } يعنى أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددا للمؤمنين، والمشركون لا يرونهم.
وابن كثير يقول: وقوله - تعالى - { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } الآية.
أى: حسن لهم لعنه الله - ما جاءوا له، وما هموا به، وذلك أنه تبدى لهم فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بنى مدلج.. ثم قال: فلما رأى إبليس الملائكة { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } وقال إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون، وهو فى صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحض أصحابه ويقول لهم: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه.."
ومن هذا يتضح أن هذين الإِمامين الجليلين يسيران فى تفسيرهما للآية الكريمة، على أن التزيين كان حسياً، ويهملان القول بغير ذلك وممن تابعهما فى هذا الإِمام القرطبى، فقد ذكر بعض الروايات التى وردت فى معنى الآية، والتى صرحت بأن الشيطان قد تمثل للمشركين فى صورة إنسان، وبنى تفسيره للآية على ذلك..
وقد خالف صاحب المنار هؤلاء الأئمة، فرجح القول الأول وهو أن التزيين لم يكن حسياً، أى أن ما قاله الشيطان لهم من قبيل الوسوسة، وأنه لم يتمثل لهم فى صورة إنسان.
فقد قال -رحمه الله - قوله: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ... } أى: واذكر ايها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه فى هواجسهم لا غالب لكم اليوم من الناس.
{ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْه } أى: فلما قرب كل من الفريقين من الآخر. نكص، أى: رجع القهقرى.. والمراد أنه كف عن تزيينه لهم، وتغريره إياهم، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشئ، وتركها بحال من ينكص، عن ويوليه دبره، ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم، وتركه إياهم وشأنهم، وهو { وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ } أى: تبرأ منهم وخاف عليهم، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة.
ثم قال - بعد أن ضعف الروايات التى أوردها ابن جرير وابن كثير - والمختار عندنا فى تفسير الآية أن الشيطان القى فى قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبهم..
والخلاصة: أننا بمراجعتنا لأقوال المفسرين فى كيفية تزيين الشيطان للمشركين، تراهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
(أ) قسم منهم ذكر القولين السابقين فى كيفية التزيين دون أن يرجح أحدهما على الآخر، وممن فعل ذلك الزمخشرى، والفخر الرازى والآلوسى.
(ب) وقسم منهم سار فى تفسيره على أن التزيين كان حسياً، بمعنى أن الشيطان تمثل للمشركين فى صورة إنسان وقال لهم ما قال، وأهمل القول بأن التزيين لم يكن حسياً، وممن فعل ذلك ابن جرير، وابن كثير، والقرطبى.
(جـ) وقسم منهم رجح أن التزيين لم يكن حسياً، بل كان عن طريق الوسوسة، وأن الشيطان ما تمثل للمشركين فى صورة إنسان، وقد سار فى هذا الاتجاه صاحب المنار مشككا فى صحة ما سواه.
والذى نراه بعد هذا العرض لأقوال المفسرين: أن الآية الكريمة صريحة فى أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم، وأنه قد قال لهم - ما حكاه القرآن عنه: { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } وأنه حين تراءى الجمعان كذب فعلهُ قوله، فقد { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } وقال للمشركين الذين وعدهم ومناهم بالنصر { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.
ومن العسير علينا بعد ذلك أن نحدد تحديداً قاطعاً كيفية هذا التزيين والقول والنكوص: أهو حسى أم غير حسى؛ لأن التحديد القاطع لا بد أن يستند إلى نص صريح فى دلالته على المعنى المراد، وصحيح فى نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا النص غير موجود، لأن الحديث الذى أخرجه الإِمام مالك فى موطئه - والذى سبق أن ذكرناه - قال عنه ابن كثير وابن حجر إنه حديث مرسل، وزيادة على ذلك ففى بعض رجاله من هو ضعيف الحديث كابن الماجشون، ولأن الروايات التى رويت فى تمثيل الشيطان بصورة سراقة قد جاء معظمها عن ابن عباس، وابن عباس - كما يقول صاحب المنار - كان سنه يوم بدر خمس سنين. فروايته لأخبارها منقطعة.
إذا فنحن نؤمن بما أثبته القرآن من أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم، وأنه قد قال لهم ما قاله - مما حكاه القرآن عنه -، وأنه قد نكص على عقبيه .. إلا أننا لا نستطيع أن نحدد كيفية ذلك.
ويعجبنى فى هذا المقام قول بعض الكاتبين عند تفسيره لهذه الآية: "وفى هذا الحادث نص قرآنى يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم، وشجعهم على الخروج.. وأنه بعد ذلك { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ.. } فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم.
ولكننا لا نعلم الكيفية التى زين لهم بها أعمالهم والتى قال لهم بها: لا غالب لكم اليوم من الناس.. والتى نكص بها كذلك.
الكيفية فقط هى التى لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب، ولا سبيل لنا إلى الجزم بشئ من أمره إلا بنص قرآنى أو حديث نبوى صحيح، والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث.
فإلى هنا ينتهى اجتهادنا، ولا نميل إلى المنهج الذى تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده فى محاولة تأويل كل أمر غيبى من هذا القبيل تأويلا معينا ينفى الحركة الحسية عن هذه العوالم، وذلك كقول الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية.
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ... } واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه فى هواجسهم: لا غالب لكم اليوم من الناس.. الخ ما ذكره الشيخ رشيد فى تفسيره الآية.
هذا، وقوله - تعالى - بعد ذلك: { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } بيان لصنفين آخرين من أعداء المسلمين بعد بيان العدو الرئيسى وهم المشركون الذين خرجوا بطرا ورئاء الناس لمحاربة الإِسلام وقد شجعهم الشيطان على ذلك. قال الفخر الرازى: أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج - كانوا يظهرون الإِسلام ويخفون الكفر ولم يخرج منهم أحد إلى بدر سوى عبد الله بن أبى - وأما الذين فى قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا ولم يهاجروا.
ثم إن قريشا لما خرجوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أولئك: نخرج مع قومنا فإن كان محمد فى كثرة خرجنا إليه، وإن كان فى قلة أقمنا فى قومنا..
وعامل الاعراب فى "إذ" فيه وجهان: الأول: التقدير، والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون.
والثانى: اذكروا إذ يقول المنافقون.."
وقوله: { غَرَّ } أى: خدع، من الغرور وهو كل ما يغر الإِنسان من مال وجاه وشهرة وشيطان.
أى: اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن قال المنافقون والذين فى قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم: أى خدعهم، لأنكم أقدمتم على قتال قوم يفوقونكم عدة وعددا، وهذا القتال - فى زعمهم - لون من إلقاء النفس إلى التهلكة، لأنهم قوم لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة، فهم لخراب بواطنهم من العقيدة السليمة، لا يعرفون أثرها فى الإِقدام من أجل نصرة الحق ولا يقدرون ما عليه أصحابها من صلة طيبة بالله - عز وجل - الذى بيده النصر والهزيمة.
وما داموا قد فقدوا تلك المعرفة، وهذا التقدير، فلا تستبعدوا منهم - أيها المؤمنون - أن يقولوا هذا القول عنكم، فذلك مبلغهم من العلم، وتلك موازينهم فى قياس الأمور...
والحق، أن الإِنسان عندما يتدبر ما قاله المنافقون والذين فى قلوبهم مرض فى حق المؤمنين عندما أقدموا على حرب أعدائهم فى بدر..
أقول: عندما يتدبر ذلك ليرى أن هذا القول دأب كل المنافقين والذين فى قلوبهم مرض فى كل زمان ومكان.
إننا فى عصرنا الحاضر رأينا كثيرين من أصحاب العقيدة السليمة، والنفوس النقية، والقلوب المضحية بكل شئ فى سبيل نصرة الحق.. رأينا هؤلاء يبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه ويهاجمون الطغاة والمبطلين والفجار، ليمكنوا لدين الله فى الأرض، حتى ولو أدت بهم هذه المهاجمة إلى بذل أرواحهم.
ورأينا فى مقابل هؤلاء الصادقين أقواما - ممن آثروا شهوات الدنيا على كل شئ - لا يكتفون بالصمت وهم يشاهدون أصحاب العقيدة السليمة يصارعون الطغاة.
بل هم - بسبب خلو نفوسهم من المثل العليا - يلقون باللوم على هؤلاء المؤمنين، ويقولون ما حكاه القرآن من أقوال فى أشباههم السابقين من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم.
إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن، ولا يزنونها بميزان الإِيمان.
إن المؤمن يرى التضحية فى سبيل الحق مؤدية إلى إحدى الحسنين النصر أو الشهادة.
أما هؤلاء المنافقون والذين فى قلوبهم مرض، فلا يرون الحياة إلا متعة وشهوة وغنيمة
{ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } }. وقوله - تعالى - { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } حض للمؤمنين على التمسك بما يدعوهم إليه إيمانهم من استقامة وقوة..
أى: ومن يكل أمره إلى الله، ويثق به - ينصره - سبحانه - على أعدائه، فإنه - عز وجل - عزيز لا يغلبه شئ، حكيم فيما يدبر من أمر خلقه.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد صورت تصويرا بديعا ما عليه الكافرون وأشباههم من بطر ومفاخرة وصد عن سبيل الله.. ومن طاعة للشيطان أوردتهم المهالك. وحكت ما قالوه من أقوال تدل على جبنهم وجهلهم وانطماس بصيرتهم.
ونهت المؤمنين عن التشبه بهم، لأن البطر والمفاخرة والبغى، واتباع الشيطان: كل ذلك يؤدى إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة.
ولقد كان أبو جهل قمة فى البغى والمراءاة عندما قال - بعد أن نصحه الناصحون بالرجوع عن الحرب فقد نجت العير: "لا لن نرجع حتى نرد بدراً، فتقيم ثلاثا، ننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدا".
وعندما بلغت مقالة أبى جهل أبا سفيان قال: "واقوماه!! هذا عمل عمرو ابن هشام "يعنى أبا جهل" كره أن يرجع؛ لأنه ترأس على الناس فبغى، والبغى منقصة وشؤم. إن أصاب محمد النفير ذللنا".
وصدقت فراسة أبى سفيان، فقد أصاب محمد - صلى الله عليه وسلم - النفير وتسربل المشركون بالذل والهوان فى بدر بسبب بطرهم وريائهم وصدهم عن سبيل الله واتباعهم لخطوات الشيطان.
فاللهم نسألك أن توفقنا إلى ما يرضيك، وأن تجنبنا البطر والرياء وسوء الأخلاق. وبعد هذا البيان لأحوال الكافرين فى حياتهم؛ انتقل القرآن لبيان أحوالهم عند مماتهم. فقال - تعالى -: { وَلَوْ تَرَىٰ...لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }.