التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١١٧
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما استقصى فى شرح أحوال غزوة تبوك، وبين أحوال المتخلفين عنها، وأطال القول فى ذلك على الترتيب الذى لخصناه فيما سبق، عاد فى هذه الآية إلى شرح ما بقى من أحكامها، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجرى مجرى ترك الأولى، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة، فذكر - سبحانه - أنه تفضل عليهم، وتاب عليهم، فى تلك الزلات، فقال - تعالى -: { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ }.
وللعلماء أقوال فى المراد بالتوبة التى تابها الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى المهاجرين والأنصار: فمنهم من يرى أن المراد بها قبول توبتهم، وغفران ذنوبهم، والتجاوز عن زلاتهم التى حدثت منهم فى تلك الغزوة أو فى غيرها، وإلى هذا المعنى أشارة القرطبى بقوله:
قال ابن عباس: كانت التوبة على النبى - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه أذن للمنافقين فى القعود، بدليل قوله - سبحانه - قبل ذلك:
{ { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ... } }. وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه - أى: إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك.
ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها، والحض على تجديدها، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال: { تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } كقوله:
{ لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وكقوله: { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } }. وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبى والمهاجرين والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح..
ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا: دوامها لا أصلها، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله: لقد تاب الله على النبى.." أى: أدام توبته على النبى والمهاجرين والأنصار. وهذا جواب عما يقال: من أن النبى معصوم من الذنب، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا فى هذه القضية، بل اتبعوه من غير تلعثم، قلنا: المراد بالتوبة فى حق الجميع دوامها لا أصلها..".
ومنهم من يرى أن ذكر النبى هنا إنما هو من باب التشريف، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات. وقد وضح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال: قال أصحاب المعانى: المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار، إلا أنه جئ فى ذلك بالنبى - صلى الله عليه وسلم - تشريفا لهم، وتعظيما لقدرهم، وهذا كما قالوا فى ذكره - تعالى - فى قوله:
{ { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية أى: عفا - سبحانه - عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين..
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله - تعالى - على رسوله وعلى المؤمنين، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت فى هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية، وبمقتضى الاجتهاد فى أمور لم يبين الله - تعالى - حكمه فيها، فهى لا تنقص من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من منزلة أصحابه الصادقين فى إيمانهم.
والمعنى: لقد تقبل الله - تعالى - توبة النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص فى ساعة العسرة. أى فى وقت الشدة والضيق، وهو وقت غزوة تبوك، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت.
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة، كما كان الجيش الذى اشترك فيها يسمى بجيش العسرة، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها فى سنة مجدبة، وحر شديد، وفقر فى الزاد والماء والراحلة.
قال ابن كثير: قال مجاهد وغير واحد: نزلت هذه الآية فى غزة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها فى شدة من الأمر، فى سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر فى الزاد والماء.
وقال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك فى لهبان الحر - أى شدته - على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها تعب شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما.
وقال الحسن: كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحداً. يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يشرب عليها جرعة من الماء.. ومضوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - على صدقهم ويقينهم - رضى الله عنهم.
وقوله: { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } بيان لتناهى الشدة، وبلوغها الغاية القصوى.
أى: تاب - سبحانه - على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب.
وفى ذكر { فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار، مضوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد فى قوة إيمانهم وصدق يقينهم، ومضاء عزيمتهم، وشدة إخلاصهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وفى "كاد" ضمير الشأن و "قلوب" فاعل "يزيغ" والجملة فى موضع الخبر لكاد.. وهذا على قراءة "يزيع" بالياء، وهى قراءة حمزة، وحفص والأعمش. وأما على قراء "تزيغ" بالتاء، وهى قراءة الباقين. فيحتمل أن يكون "قلوب" اسم كاد "وتزيغ" خبرها، وهي ضمير يعود على اسمها.
وقوله: { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم. ولطفه بهم.
أى: ثم تاب عليهم - سبحانه - بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس. إنه بهم رءوف رحيم.
قال بعضهم: فإن قلت: قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار؟
قلت: إنه - سبحانه - ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى، تعظيما لشأنهم، وليعلموا أنه - تعالى - قد قبل توبتهم، وعفا عنهم، ثم أتبعه بقوله - سبحانه - { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تأكيدا لذلك. والرأفة عبارة عن السعى فى إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعى فى إيصال النفع.
وقال القرطبى: قوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ؛ وتلك سنة الحق - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم.
قال الشاعر:

منك أرجو ولست أعرف ربا يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد فى الأر ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجوع، وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لى سواك ربى ملاذ فتيقنت أننى بك أنجو

وكما تقبل الله - تعالى - توبة المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فى ساعة العسرة.. فقد تقبل توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن الاشتراك فى غزوة تبوك، فقال - تعالى -: { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ... }.