التفاسير

< >
عرض

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٧
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
٨
ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩
لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ
١٠
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلأيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١١
وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
١٢
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } الاستفهام فيه للانكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد. وهو إنكار للوقوع لا للواقع. أى؛ تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك فى المستقبل.
والمراد بالمشركين أولئك الذين نقضوا عهودهم، لأن البراءة إنما هى فى شأنهم.
والعهد: ما يتفق شخصان أو طائفتان من الناس على التزامه بينهما، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة العناية بالوفاء به سمى ميثاقا، لاشتقاقه من الوثاق - بفتح الواو - وهو الحبل أو القيد. وإن أكداه باليمين خاصة سمى يمينا.
وسمى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه فى يمين الآخر عند عقده.
والمعنى: لا ينبغى ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا يدينون لله بالعبودية، ولا لرسوله بالطاعة، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة. وعادتهم الغدر، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله.
قالوا: وفى توجيه الإِنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس فى توجيهه إلى ثبوته، لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده، فقد انتفى وجوده بالطريق البرهانى. وتكرير كلمة { عِندَ } للايذان بعدم الاعتداد بعهودهم عند كل من الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على حدة.
و { يَكُونُ } من الكون التام و { كَيْفَ } محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف. أو من الكون الناقص فيكون قوله { عَهْدٌ } اسمها، وقوله { كَيْفَ } خبرها وهو واجب التقديم، لأن الاستفهام له صدر الكلام.
وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ.. } استثناء من المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله.
والمراد بالمشركين الذين استثنوا هنا: أولئك الذين سبق الحديث عنهم فى قوله - تعالى - قبل ذلك
{ { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ.. } }. وهم - كما رجحه ابن جرير والخازن - بنو خزيمه وبنو مدلج وبنو ضمرة من قبائل بنى بكر، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين.
وأعيد ذكر استثنائهم هنا، لتأكيد هذا الحكم وتقريره.
والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم، فيكون الكلام على حذف مضاف.
أى: عند قرب المسجد الحرام.
والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام، لزيادة بيان اصحابها، وللإِشعار بسبب وجوب الوفاء بها.
والمعنى: لا ينبغى ولا يصح أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، لكن الذين عاهدتموهم - أيها المؤمنون - عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم { فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ }.
أى: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، فتكون { مَا } مصدرية منصوبة المحل على الظرفية.
ويصح أن تكون شرطية وعائدها محذوف فيكون المعنى: فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم، إذ لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال، وتبيين أن الوفاء بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التى يحبها لعباده، ويحبهم بسبب تمسكهم بها.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية: ان العهد المعتد به فى شريعة الإِسلام، هو عهد الأوفياء غير الناكثين، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته، وأن الالتزام بالعهود من تقوى الله التى يحبها لعباده.
وقوله - سبحانه - { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً... } لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمراعاة، وبيان لما يكون عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين.
وفائدة هذا التكرار للفظ { كَيْفَ }: التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التى تدعو المؤمنين إلى مجاهدتهم والإِغلاظ عليهم، والحذر منهم.
قال الآلوسى: وحذف الفعل بعد كيف هنا لكونه معلوماً من الآية السابقة، وللإِيذان بأن النفس مستحضرة له، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره.
وقد كثر الحذف للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده. ومن ذلك قول كعب الغنوى يرثى أخاه أبا المغوار:

وخبرتمانى أنما الموت بالقرى فكيف وماتا هضبة وقليب

يريد فكيف مات والحال ما ذكر.
والمراد هنا: كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً }.
وقوله: { يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } يظفروا بكم ويغلبوكم. يقال: ظهرت على فلان أى: غلبته ومنه قوله - تعالى -
{ { فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أى: غالبين.
وقوله: { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ } أى: لا يراعوا فى شأنكم. يقال: رقب فلان الشئ يرقبه إذا رعاه وحفظه.. ورقيب القوم حارسهم.
والإِل: يطلق على العهد، وعلى القرابة، وعلى الحلف.
قال ابن جرير - بعد أن ساق أقوالا فى معنى الإِل - وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال: والإِل: اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهى العهد والعقد، والحلف، والقرابة.. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل:

أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإِل وأعراق الرحم

أى قطعوا القرابة.
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى العهد قول القائل:

وجدناهم كاذبا إلهم وذو الإِل والعهد لا يكذب

وإذا كان الكلمة تشمل هذه المعانى الثلاثة، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها - جل ثناؤه - معانيها الثلاثة..
والذمة: كل أمر لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هى ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم.
والمعنى: بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، والحال المعهود منهم أنهم إن يظفروا بكم ويغلبوكم، لا يراعوا فى أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا حقا من الحقوق.
وقوله - تعالى - { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } زيادة بيان للأحوال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين.
أى: أن هؤلاء المشركين إن غلبوكم - أيها المؤمنون - فعلوا بكم الأفاعيل، وتفتنوا فى إيذائكم من غير أن يقيموا وزنا لما بينكم وبينهم من عهود ومواثيق، وقرابات وصلات.. أما إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أى: يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم، وهم فى الوقت نفسه { وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ } المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم، فهم كما وصفهم - سبحانه - فى آية أخرى:
{ { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } }. وتقييد الإرضاء بالأفواه، للإشعار بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق فى قلوبهم.
وقوله: { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } أى: خارجون عن حدود الحق، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة، إذ الفسق هو الخروج والانفصال. يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان إذا خرج عن حدود الشرع.
وإنما وصف أكرهم بالفسوق، لأن هؤلاء الاكثرين منهم، هم الناقضون لعهودهم، الخارجون على حدود ربهم، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا، ولم يظاهروا عليهم أحدا.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا فى نهاية الذم والقبح، لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا واسرفوا فى الإِيذاء، نابذين كل عهد وقراءة وعرف.. أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذى تنطق به ألسنتهم، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة.
أى أن الغدر ملازم لهم فى حالتى قوتهم وضعفهم، لأنهم فى حالة قوتهم { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً }. وفى حالة ضعفهم يخادعون ويداهنون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك السبب الأصيل الذى جعل الغدر ديدنهم، والحقد على المؤمنين دأبهم فقال: { ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
والمراد بالاشتراء هنا الاستبدال والاستيعاض.
والمراد بآيات الله: كل ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من آيات قرآنية، ومن تعاليم سامية تهدى إلى الخير والفلاح.
والمعنى؛ إن السبب الأصيل الذى حمل هؤلاء المشركين على الغدر، وعلى الفجور والطغيان عند القوة وعلى المداهنة والمخادعة عند الضعف. هو أنهم استبدلوا بآيات الله المتضمنة لكل خير وفلاح.. ثمنا قليلا. أى: عرضا حقيرا من أعراض الدنيا وزخارفها.
وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات. بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات. لأن كل ثمن يؤخذ فى مقابل آيات الله فهو قليل وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا وزينتها.
وقوله: { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } بيان لما ترتب على استبدالهم بآيات الله ثمنا قليلا.
والصد: المنع والحيلولة بين الشيء وغيره، ويستعمل لازما فيقال: صد فلان عن الشئ صدودا بمعنى أعرض عنه. ويستعمل متعديا فيقال: صده عنه إذا صرفه عن الشئ.
وهنا تصح إرادة المعنيين فيكون التقدير: أن هؤلاء المشركين قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التى جاء بها نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتفوا بهذا بل صرفوا غيرهم عنها، ومنعوه من الدخول فيها.
وقوله: { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تذليل قصد به بيان سوء عاقبتهم، وقبح أعمالهم.
أى: إنهم ساء وقبح عملهم الذى كانوا يعملونه من اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا، ومن صدودهم عن الحق وصدهم لغيرهم عنه.. وسيجازيهم الله على ذلك بما يستحقونه عن عقاب شديد.
ثم بين - سبحانه - أن عداوة هؤلاء المشركين ليست خاصة بالمؤمنين الذين يقيمون معهم، وإنما هى عداوة شاملة لكل مؤمن مهما تباعد عنهم فقال - تعالى -: { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ }.
أى: أن هؤلاء المشركين لا يراعون فى أمر مؤمن يقدرون على الفتك به عهدا يحرم الغدر، ولا قرابة تقتضى الود، ولا ذمة توجب الوفاء خشية الذم.. وإنما يبيتون الحقد والغدر والأذى لكل مؤمن، من غير أن يقيموا للعهود أو للفضائل وزنا.
وهذه الآية الكريمة أعم من قوله - تعالى -: قبل ذلك: { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } لأن هذه بينت أن عدوانهم على المؤمنين مقيد بظهورهم عليهم، أما التى معنا فقد بينت أن عدوانهم ليس مقيدا بشئ، فهم متى وجدوا الفرصة اهتبلوها فى الاعتداء على المؤمنين ولأن التى معنا بينت أن عداوتهم قد شملت كل مؤمن مهما كان موضعه. أما الآية السابقة فهى تخاطب المؤمنين الذين كان بينهم وبين المشركين الكثير من الحروب والدماء.
وقوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ } تذييل قصد به ذمهم والتحقير فى شأنهم.
أى: وأولئك المشركون الموصوفون بتلك الصفات السيئة هم المتجاوزون لحدود الله والخارجون على كل فضيلة ومكرمة.
وبعد أن وضحت السورة الكريمة طبيعة هؤلاء المشركين بالنسبة لكل مؤمن، وبينت الاسباب التى جعلتهم بمعزل عن الحق والخير.. شرعت فى بيان ما يجب أن يفعله المؤمنون معهم فى حالتى إيمانهم وكفرهم فقال تعالى.
{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ }.
أى: فان تابوا عن شركهم وما يتبعه من رذائل ومنكرات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، على الوجه الذى أمر الله به فهم فى هذه الحالة { فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وهذه الأخوة تجُبُّ ما قبلها من عداوات.
وقوله: { وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } جملة معترضة، جئ بها للحث والتحري على ما فصله - سبحانه - من أحكام المشركين، وعلى الالتزام بها.
هذا ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء المشركين إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة.. أما إن كانت الآخرى، أى إذا لم يتوبوا واصروا على عداوتهم، فقد بين سبحانه. ما يجب على المؤمنين نحوهم فى هذه الحالة فقال: { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ }.
أى: وإن نقضوا عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها.
وقوله: { نَّكَثُوۤاْ } من النكث بمعنى النقض والحل. يقال نكث فلان الحبل إذا نقض فتله وحل خيوطه ومنه قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } }. وقوله: { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } معطوف على ما قبله. أى: وعابوه وانتقضوه.
وقوله: { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ } أى: فقاتلوهم فهم أئمة الكفر، وحملة لوائه. فوضع - سبحانه - الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم.
وقيل: المراد بأئمة الكفر رؤساؤهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين، ويقودونهم لقتال النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وعطف. سبحانه - قوله { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } على ما قبله مع أن نقض العهد كاف فى إباحة قتالهم، لزيادة تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم.
وقوله: { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة صادقة، وقلوب ثابتة، لأنهم قوم لا أيمان ولا عهود لهم على الحقيقة، لأنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان.
وقرأ ابن عامر { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } - يكسر الهمزة. على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان. أى أنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم. أو المراد الإِيمان الشرعى. أى إنهم لا تصديق ولا دين لهم، ومن كان كذلك فلا وفاء له.
وقوله: { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ }.
أى: ليكن مقصدكم من مقاتلتهم - بعد أن وجد منهم ما وجد من إيذائكم الرجاء فى هدايتهم، والانتهاء عن كفرهم وخيانتهم.. واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق - ما يأتى:
1- أن ما ذكرته الآيات من كون المشركين، لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة، يقرر حقيقة واقعة، ومن الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين - وخاصة مسلمى بغداد. سنة 656. وما فعله الوثنيون الهنود مع مسلمى باكستان، وما فعله الشيوعيون. فى روسيا والصين وغيرها - مع المسلمين الذين كانوا يعيشون معهم.
2- أن هؤلاء المشركين متى تابوا عن كفرهم، وأقلعوا عن شركهم، واندمجوا فى جماعة المؤمنين.. صاروا إخوة لنا فى الدين.
وهذه الأخوة الدينية - كما يقول صاحب المنار - مما يحسدنا جيمع أهل الملل عليها فهى لا تزال أقوى فينا منها فيهم برا وتعاونا. وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية، واثرة المادية وغيرها، على ما منيت به شعوبنا من الضعف وإختلال النظام، وإختلاف الجنسيات والأحكام..
3- قال القرطبى: استدل بعض العلماء بهذه الآية { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } - على وجوب قتل كل من طعن فى الدين، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعى على صحة أصوله واستقامة فروعه.
وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبى - صلى الله عليه وسلم - عليه القتل. وممن قال بذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق والشافعى.
4- أخذ بعضهم من قوله - تعالى - { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أن الكافر لا يمين له على الحقيقة.
قال الفخر الرازى: وبه تمسك أبو حنيفة.رحمه الله . فى أن يمين الكافر لا يكون يميناً. وعند الشافعى.رحمه الله - يمينهم يمين. ومعنى الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه - سبحانه - وصفها بالنكث فى قوله { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم... } ولو لم يكن منعقداً لما صح وصفها بالنكث.
5- دل قوله تعالى { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } على أن قتال المؤمنين للمشركين لا يراد به سلب أموالهم ولا هتك أعراضهم.. وإنما المراد به الرجاء فى هدايتهم، والأمل فى انتهائهم عن الكفر وسوء الأخلاق.
قال صاحب الكشاف: قوله { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ }.
أى: ليكن غرضكم فى مقاتلتهم - بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم - أن تكون المقاتلة سببا فى انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعدوه على المسئ بالرحمة كلما عاد.
وبعد أن بينت السورة الكريمة الأسباب الموجبة لقتال المشركين: شرعت فى تحريض المؤمنين على مهاجتمهم ومقاتلتهم بأسلوب يثير الحمية فى النفوس، ويحمل على الأقدام وعدم المبالاة بهم..فقال تعالى:
{ { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً...عَلِيمٌ حَكِيمٌ } }.