التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ
١٧
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الجمل: وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، منهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعيرونهم بالشرك. وجعل على بن أبى طالب يوبخ العباس بسب قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقطيعة الرحم.
فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم. ونحن أفضل منكم. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة - أى نخدمها -، ونسقى الحجيج، ونفك العانى - أى الأسير - فنزلت هذه الأية.
وقال صاحب المنار: والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذى كان يقوله ويفخر به العباس وغيره من كبراء المشركين، لا أنها نزلت عندما قال ذلك القول لأجل الرد عليه فى أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة، بل نزلت فى ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم.
وقوله: { يَعْمُرُواْ } من العمارة التى هى نقيض الخراب. يقال: عمر فلان أرضه يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والاصلاح والزراعة.
والمراد بعمارة المساجد، هنا: ما يشمل إقامة العبادة فيها، وإصلاح بنائها وخدمتها، ونظافتها، واحترامها، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذى بنيت من أجله.
وقوله: { مَسَاجِدَ الله } قرأ أبو عمر وابن كثير { مسجد الله } بالإِفراد، فيكون المراد به المسجد الحرام: لأنه أشرف المساجد فى الأرض، ولأنه قلبه المساجد كلها.. فلا يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه.
وقرأ الجمهور { مَسَاجِدَ الله } بالجمع، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جمع مضاف فى سياق النفى فيعم سائر المساجد، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أولياً، لأن تعميره مناط افتخارهم، وأهم مقاصدهم. وهذه القراءة آكد فى النفى، لأن نفى الجمع يدل على النفى عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
قوله: { شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } حال من الواو فى قوله { يَعْمُرُواْ }.
وفائدة المجئ بهذه الجملة: الأشعار بأن كفرهم كفر صريح، وأنهم يعترفون به اعترافاً لا يملكون إنكاره، ولا يسعهم إلا إقراره.
والمعنى: لا ينبغى ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التى بنيت لعبادته وحده - سبحانه. وذلك لأن هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها السنتهم، وأيدتها أعمالهم.
فهم لا ينطقون بكلمة التوحيد، وإنما ينطقون بالكفر والاشراك. وهم لا يعملون أعمال المؤمنين، وإنما يعملون الأعمال القبيحة التى تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام عقب الطواف بالكعبة.
قال الفخر الرازى: وذكروا فى تفسير هذه الشهادة وجوها:
الأول - وهو الأصح: أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان، وتكذيب القرآن، وإنكار نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - وكل ذلك كفر؛ فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر فى نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة.
الثانى. قال السدى: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن يقول عابد الوثن أنا عابد الوثن.
الثالث: أنهم كانوا يطوفون عراة؛ وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام، وكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
ثم بين - سبحانه -: فى ختام الآية سوء عاقبتهم فقال { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ }:
أى: أولئك المشركون الشاهدون على أنفسهم بالكفر قد فسدت أعمالهم التى كانوا يفتخرون بها مثل العمارة والحجابة والسقاية لأنها مع الكفر لا قيمة لها، { وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم.
ثم بين. سبحانه. أن المؤمنين الصادقين هم الجديرون بعمارة مساجد الله، فقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ }.
أى: ليس المشركون أهلا لعمارة مساجد الله؛ وإنما الذين هم أهل لذلك المؤمنون الصادقون الذين آمنوا بالله إيماناً حقاً، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وآمنوا بما فرضه الله عليهم من فرائض فأدوها بالكيفية التى أرشدهم إليها نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فهم فى صلاتهم خاشعون؛ وللزكاة معطون بسخاء وإخلاص.
وهم بجانب ذلك لا يخشون أحداً إلا الله فى تبليغ ما كلفوا بتبليغه من أمور الدين؛ ولا يقصرون فى العمل بموجب أوامر الله ونواهيه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا ذكر الإِيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: لما عُلِم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإِيمان بالرسول. عليه الصلاة والسلام. لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإِقامة وغيرها عليهما مقترنين كأنهما شئ واحد.. انطوى تحت ذكر الإِيمان بالله. تعالى. الإِيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن قلت: كيف قال: { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها.
قلت: هي الخشية والتقوى فى أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف: وإذا اعترض أمران: أحدهما حق الله والآخر حق نفسه، آثر حق الله على حق نفسه.
وقوله - تعالى - { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } تذييل قصد به حسن عاقبة المؤمنين الصادقين.
أى: فسعى أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة من الإِيمان بالله واليوم الآخر.. أن يكونوا من المهتدين إلى الجنة وما أعد فيها من خير عميم، ورزق كبير.
قال الآلوسى: وإبراز اهتدائهم لذلك - مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة - فى معرض التوقع، لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين. وهم من هم. إذا كان أمرهم دائراً بين لعل وعسى فكيف يقطع المشركون، وهم بيت المخازى والقبائح. أنهم مهتدون؟!.
وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم، وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:
1- أن أعمال البر الصادرة عن المشركين. كإطعام الطعام، وإكرام الضيف.. إلخ. ولا وزن لهم عند الله، لاقترانها بالكفر والإِِشراك به - سبحانه -.
قال. تعالى.
{ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } }. 2- أن عمارة مساجد الله من حق المؤمنين وحدهم، أما المشركون فإنهم لا يصح منهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.
قال الجمل. لا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله بدخولها والقعود فيها. فإذا دخل الكافر المسجد بغير إذن من مسلم عُزِّر، وإن دخل بإذنه لم يعزر لكن لا بد من حاجة. فيشترط للجواز الإِذن والحاجة. ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإِذن أن النبى - صلى الله عليه وسلم - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سوارى المسجد وهو كافر.
3- التنويه بشأن بناء المساجد، والتعبد فيها، وإصلاحها، وخدمتها، وتنظيفها، والسعى إليها، واحترامها، وصيانتها عن كل ما يتنافى مع الغرض الذى بنيت من أجله، وقد وردت أحاديث كثيرة فى هذا المعنى، ومن ذلك: ما أخرجه الشيخان وغيرهما
"عن عثمان بن عفان. رضى الله عنه. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بنى لله مسجداً يبتغى به وجه الله بنى الله به بيتاً فى الجنة" .
وروى الشيخان. أيضاً. عن أبى هريرة رضى الله عنه. قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من غدا إلى المسجد أو راح - أى سار قبل الزوال أو بعده لعبادة الله فى المسجد - أعد الله له نزلا - أى مكاناً طيبا فى الجنة - كلما غدا أو راح" .
وروى الترمذى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإِيمان" قال الله. تعالى -: { { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ... } الآية.
وروى أبو داود والترمذى
"عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشراء والبيع فى المسجد، وأن تنشد فيه ضالة؛ أو ينشد فيه شعر. وروى مسلم فى صحيح عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر، إنما هى لذكر الله. تعالى. وقراءة القرآن" .
إلى غير ذلك من الأحاديث التى وردت بشأن المساجد.
ثم بين سبحانه. بعد ذلك أنه لا يصلح أن يسوى بين هؤلاء المشركين - لمجرد سقايتهم الحجاج وعمارتهم المسجد الحرام. وبين المؤمنين الصادقين المجاهدين فى سبيل الله لإِعلاء كلمته فقال - سبحانه -:
{ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ...عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } }.