التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣
إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٤
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام ابن كثير: أول هذه السورة نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة "تبوك" وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم فى ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادى بالناس { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ.... } فلما قفل أتبعه بعلى ابن أبى طالب، ليكون مبلغا عنه - صلى الله عليه وسلم - ليكونه عصبة له.
وقال محمد بن إسحاق:
"لما نزلت { بَرَآءَةٌ } على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان بعث أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال: لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى" .
ثم دعا على بن أبى طالب فقال له: أخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن فى الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو له إلى مدته.
فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "العضباء" حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك فى تلك السنة على منازلهم من الحج التى كانوا عليها فى الجاهلية.
حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن فى الناس بالذى أمره به رسول الله. صلى الله عليه وسلم. فقال: أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الفخر الرازى: روى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا الأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العهد إليهم.
هذه بعض الآثار التى ذكرها المفسرون فى هذا المقام.
وقوله - تعالى -: { بَرَآءَةٌ } مصدر بَرِئ "كتعب"، وأصل البراءة: التباعد عن الشئ والتخلص منه. تقول: برئت من هذا الشئ أبرأ براءة فأنا منه برئ، إذا أزلته عن نفسك، وقطعت الصلة بينك وبينه. ومنه قولهم: برئت من الدين أى تخلصت منه.
ولفظ { بَرَآءَةٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتنوين فيه للتفخيم و { مِّنَ } لابتداء الغاية، والعهد: العقد الموثق باليمين، والخطاب فى قوله { عَاهَدْتُمْ } للمسلمين.
والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين بسبب نقضهم لعهودهم وإصرارهم على باطلهم..
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟.
قلت: قد أذن الله فى معاهدة المشركين أولا، فاتفق المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله - تعالى - النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك فقيل لهم: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.
وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناسا منهم، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا فى الأرض أربعة أشهر آمنين.."
وقال بعض العلماء: والمعنى أن الله قطع ما بينه وبين المشركين من صلات فلا عهد ولا تعاهد ولا سلم ولا أمان، وتركهم تعمل فيهم سيوف المؤمنين حتى يقوموهم أو يبيدوهم. ولا يدخل فى هذا التبرى قطع رحمته العامة عنهم التى كتبها على نفسه من جهة أنه الخالق وأنهم المخلوقون.. فهو مع هذا التبرى لا يزال من هذه الجملة يرحمهم بمنح الحياة وموارد الرزق، والتمكين من العمل حسب تقديره العام وسنته الشاملة فى خلقه ولو أن التبرى كان على إطلاقه لما عاش كافر طرفة عين، ولما استطاع كافر أن يقف فى وجه مسلم.
فالآية تقرر حكما تكليفيا للمسلمين فى شأن معاملة المشركين...
واعتبار أن الآية تقرر حكما شرعيا والمشرع هوالله أضيف صدور البراءة إليه - سبحانه - وعطف عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى هذا المقام، لأنه هو المبلغ عنه، والمنفذ لما يبلغه..
ولما كان التعاهد بين المؤمنين وغيرهم تنفيذا لأمر الله به، وأصله حق لجماعتهم، وإنما يقوم الإِمام به نائبا عن الجماعة، أضيف - أى التعاهد - إلى جماعة المسلمين، فقيل: { عَاهَدْتُمْ }.. وكثيراً ما ينسب القرآن الأحكام العامة لجماعة المؤمنين..
ويؤخذ من تقرير البراءة من المشركين فى هذه الآية جواز نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه عهد متى رأى الإِمام مصلحة الأمة فى ذلك، كأن خيف منهم خيانة، أو نقضوا شيئا من شروط المعاهدة، أو وضعت المعاهدة على غير شرط احترامها الشرعى، وذلك كله أخذا من هذا المقام، ومن قوله - تعالى - فى سورة الأنفال:
{ { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } }. كما يؤخذ أن عقد المعاهدات إنما هو حقا للجماعة، يوافق عليه أصحاب الرأى والاختصاص فى موضوع المعاهدة، وما هو فى مصلحة الجماعة، ثم يباشرها الإِمام بعد ذلك نيابة عن الجماعة.
وقوله - تعالى - { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ... } بيان للمهلة التى منحها - سبحانه - للمشركين ليدبروا فيها أمرهم.
والسياحة فى الأصل: جريان الماء وانبساطه على موجب طبيعته، ثم استعملت فى الضرب فى الأرض والاتساع فى السير والتجوال. يقال: ساح فلان فى الأرض سيحا وسياحة وسيوحا إذا تنقل بين أرجائها كما يشاء.
والخطاب للمؤمنين على تقدير القول. أى: فقولوا أيها المؤمنون للمشركين سيحوا فى الأرض أربعة أشهر.
ويجوز أن يكون الخطاب للمشركين أنفسهم على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الحضور، لقصد تهيئة خطابهم بالوعيد المذكور بعد ذلك فى قوله - - سبحانه - { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ }.
والمقصود بالأمر فى قوله: { فَسِيحُواْ } الإِباحة والإِعلام بحصول الأمان لهم فى تلك المدة من أن يقتلوا أو يقاتلوا أو يعتدى عليهم...
والمعنى: قولوا أيها المسلمون للمشركين - بعد هذه البراءة منهم، سيحوا فى الأرض، أى: سيروا فيها مقبلين ومدبرين حيث شئتم وأنتم آمنون فى هذه المدة.
وفى التعبير بقوله { فَسِيحُواْ } من الدلالة على كمال التوسعة، ما ليس فى قوله { سيروا } أو ما يشبهه، لأن لفظ السياحة يدل على الاتساع فى السير والبعد عن المدن، وعن موضع العمارة.
والحكمة فى إعطائهم هذه المدة تمكينهم من النظر فى أمر أنفسهم حتى يختاروا ما فيه مصلحتهم، ويعلموا أنهم ليس أمامهم بعد هذه المدة إلا الإِسلام أو السيف، ولكى لا ينسب إلى المسلمين الغدر ونبذ العهد دون إعلام أو إنذار.
وهذا من سمو تعاليم الإِسلام. تلك التعاليم التى لم تبح لأتباعها أن يأخذوا أعدى أعدائهم على غرة، بل منحت هؤلاء الأعداء مهلة كافية يدبرون فيها أمر أنفسهم وهم آمنون من أن يتعرض لهم أحد من المسلمين بأذى.
ومتى كان ذلك؟ كان ذلك فى الوقت الذى نقض فيه المشركون عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وفى الوقت الذى أرجف فيه المرجفون أن المسلمين لن يعودوا من تبوك سالمين، بل إن الروم سيأخذونهم أسرى، وفى الوقت الذى كانت المجتمعات فيه يغزو بعضها بعضا بدون إنذار أو إعلام..
فإن قيل: وما الحكمة فى تقدير هذه المهلة بأربعة أشهر؟
فالجواب - كما يقول الجمل - اقتصر على الأربعة - هنا لقوة المسلمين إذ ذاك، بخلاف صلح الحديبية فإنه كان لمدة عشر سنين لضعف المسلمين إذا ذاك، والحاصل أن المقرر فى الفروع أنه إذا كان بالمسلمين ضعف جاز عقد الهدنة عشر سنين فأقل، وإذا لم يكن بهم ضعف لم تجز الزيادة على أربعة أشهر.
وقال بعض العلماء: ولعل الحكمة فى تقدير تلك المدة بأربعة أشهر، أنها هى المدة التى كانت تكفى - إذ ذاك بحسب ما يألفون - لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة فى الأرض، والتقلب فى شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه فى تكوين الرأى الأخير، وفيه فوق ذلك مسايرة للوضع الإلهى فى جعل الأشهر الحرم من شهور السنة أربعة.
على أنا نجد فى القرآن جعل الأربعة الأشهر أمدا فى غير هذا فمدة إيلاء الرجل من زوجه أربعة أشهر - وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.
ولعل ذلك - وراء ما يعلم الله - أنها المدة التى تكفى بحسب طبيعة الإِنسان لتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى النظر، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيه إلى ما يقصد فيه.
ويؤخذ من تقرير الهدنة للأعداء فى هذا المقام تقرر مبدأ الهدنة والصلح فى الإِسلام، طلبها العدو أم تقدم بها المسلمون، وأصل ذلك مع هدنة المشركين هذه قوله - تعالى - فى سورة الأنفال..
{ { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإِمام وأرباب الشورى المقررة فى قوله - تعالى - { وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } }. وقد اختلف المفسرون فى ابتداء هذه الأشهر الأربعة فقال مجاهد والسدى وغيرهما: كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر من السنة التاسعة ونهايتها فى العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة، وذلك لأن المشركين قد أعلموا بهذه المهلة يوم النحر من السنة التاسعة على لسان على بن أبى طالب - كما سبق أن بينا.
وقيل كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم النحر لعشر من ذى القعدة من السنة التاسعة ونهايتها فى اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من السنة العاشرة، وذلك لأن الحج فى تلك السنة كان فى ذلك الوقت بسبب النسئ الذى ابتدعه المشركون.
والرأى الأول أرجح وعليه الأكثرون، لأن معظم الآثار تؤيده. وكذلك اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فيمن تنطبق عليهم هذه المهلة، فقال مجاهد؛ هذا تأجيل للمشركين مطلقاً، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها، ومن كانت أكثر حط إليها، ومن كان عهده بغير أجل حد بها. ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك، ويؤسر، إلا أن يتوب ويؤمن.
وقال آخرون: كانت هذه الأربعة الأشهر مهلة لمن له عهد دون الأربعة الأشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت هذه المدة لقوله - تعالى - بعد ذلك: { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ }.
وهذا القول قد اختاره ابن جرير وغيره، فقد قال ابن جرير - بعد أن ذكر عدة اقوال فى ذلك:
"وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذى جعله الله إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم، ولم يظاهروا عليه، فإن الله - تعالى - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ }، ثم قال: وبعد ففى الأخبار المتظاهرة
"عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه حين بعث عليا ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادى به فيهم ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته" . وهو أوضح دليل على صحة ما قلنا.
وذلك أن الله لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل، فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل، أو كان له عهد إلى أجل غير محدود، فأما من كان أجل عهده محدودا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا، وبذلك بعث مناديه فى أهل الموسم من العرب.."
والذى يبدو لنا بعد مراجعة الأقوال المتعددة فى شأن من تنطبق عليهم هذه المهلة من المشركين - أن ما اختاره ابن جرير هو خير الأقوال وأقواها، لأن النصوص من الكتاب والسنة تؤيده.
ومن أراد معرفة هذه الأقوال بالتفصيل فليراجع ما كتبه المفسرون فى ذلك.
ثم بين - سبحانه - أن هذا الإِمهال للمشركين لن ينجيهم من إنزال العقوبة بهم متى استمروا على كفرهم فقال - تعالى -: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ }.
أى: واعلموا - أيها المشركون - أنكم بسياحتكم فى الأرض خلال تلك المهلة لن تعجزوا الله - تعالى - فى طلبكم، فأنتم حيثما كنتم تحت سلطانه وقدرته، واعلموا كذلك أنه - سبحانه - مذل للكافرين، فى الدنيا بالقتل والأسر، وفى الآخرة بالعذاب المهين.
فالآية الكريمة قد ذيلت بما يزلزل قلوب المشركين بالحقيقة الواقعة، وهى أن ذلك الإِمهال لهم، وتلك السياحة فى الأرض منهم، كل هذا لن يجعلهم فى مأمن من عقاب الله، ومن إنزال الهزيمة بهم، لأنهم فى قبضته.
ومها أعدوا خلال تلك المهلة من عدد وعدد لقتال المؤمنين، فإن ذلك لن ينفعهم، لأن سنته - سبحانه - قد اقتضت أن يجعل النصر والفوز للمؤمنين والخزى والسوء على الكافرين.
قال الفخر الرازى ما ملخصه، وقوله: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ }. المقصود منه: أنى أمهلتكم - أيها المشكرون - وأطلقت لكم السياحة فى الأرض - فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون الله بل هو الذى يعجزكم، لأنكم حيث كنتم فأنتم فى ملكه وتحت سلطانه.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الموعد الذى تعلن فيه هذه البراءة من المشركين حتى لا يكون لهم عذر بعد هذا الإِعلان فقال - تعالى -:
{ وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... }.
الأذان: الإِعلام تقول: آذنته بالشئ إذا أعلمته به. ومنه الأذان للصلاة أى الإِعلام بحلول وقتها. وهو بمعنى الإِيذان كما أن العطاء بمعنى الإِعطاء.
قال الجمل: وهو مرفوع بالابتداء. و { مِّنَ ٱللَّهِ } إما صفته أو متعلق به { إِلَى ٱلنَّاسِ } الخبر، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف. أى: وهذه، أى: الآيات الآتى ذكرها إعلام من الله ورسوله..
والمعنى: وهذه الآيات إيذان وإعلان من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم، بسبب إصرارهم على شركهم ونقضهم لمواثيقهم.
وأسند - سبحانه - الأذان إلى الله ورسوله، كما أسندت البراءة إليهما، إعلاء لشأنه وتأكيدا لأمره:
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإِعلام بما ثبت.
فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت: لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس "من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث".
واختير يوم الحج الأكبر لهذا الإِعلام، لأنه اليوم الذى يضم أكبر عدد من الناس يمكن أن يذاع الخبر عن طريقهم فى جميع أنحاء البلاد.
وأصح ما قيل فى يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر. وقيل: هو يوم عرفة، وقيل: هو جميع أيام الحج.
وقد رجح ابن جرير - بعد أن بسط الأقوال فى ذلك - أن المراد بيوم الحج الأكبر: يوم النحر فقال. وأولى الأقوال فى ذلك بالصحة عندنا: قول من قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، لتظاهر الأخبار عن جماعة من الصحابة أن علياً بما أرسله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين يوم النحر، هذا مع الأخبار التى ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم النحر:
"أتدرون أى يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر" .
وقال بعض العلماء: قال ابن القيم: والصواب أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر، لأنه ثبت فى الصحيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة. وفى سنن أبى داود بأصح إسناد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوم الحج الأكبر يوم النحر" ، وكذا قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوافدة والزيارة.. ويكون فيه ذبح القرابين، وحلق الرءوس، ورمى الجمار، ومعظم أفعال الحج.
وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التى ما كان ينادى به على بن أبى طالب والناس يوم الحج الأكبر ومن ذلك ما أخرجه الإِمام أحمد عن محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال: كنت مع على بن أبى طالب حين بعثه النبى - صلى الله عليه وسلم - ينادى، فكان إذا صحل ناديت - أى كان إذا بح صوته وتعب من كثرة النداء ناديت - قلت: بأى شئ كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ومن كانله عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعهده إلى مدته.
وسمى يوم النحر بالحج الأكبر، لأن العمرة كانت تسمى بالحج الأصغر ولأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج - كما قال ابن القيم.
هذا، وللعلماء أقوال فى إعراب لفظ { وَرَسُولِهِ } من قوله - تعالى - { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ }. وقد لخص الشيخ الجمل هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال: قوله { وَرَسُولُهُ } بالرفع باتفاق السبعة وقرئ شاذا بالجر على المجاورة. أو على أن الواو للقسم وقرئ شاذا أيضاً بالنصب على أنه مفعول معه، أو معطوف على لفظ الجلالة، وفى الرفع ثلاثة وجوه: أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أى: ورسوله برئ منهم، وإنما حذف للدلالة عليه. والثانى أنه معطوف على الضمير المستتر فى الخبر.. والثالث: أنه معطوف على محل اسم أن..."
ثم أردف - سبحانه - هذا الإعلام بالبراءة من عهود المشركين بترغيبهم فى الإِيمان وتحذيرهم من الكفر والعصيان فقال: { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
أى: فإن تبتم أيها المشركون من كفركم، ورجعتم إلى الإِيمان بالله وحده واتبعتم ما جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو أى المتاب والرجوع إلى الحق { خَيْرٌ لَّكُمْ } من التمادى فى الكفر والضلال: { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } وأعرضتم عن الإِيمان، وأبيتم إلا الإِقامة على باطلكم { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } أى: فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله، ولا إفلات لكم من أخذه وبطشه، لأنكم أينما كنتم فأنتم فى قبضته وتحت قدرته.
وقوله: { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } تذييل قصد به تأكيد زجرهم عن التولى والإِعراض عن الحق.
أى: وبشر - يا محمد - هؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم بالعذاب الأليم فى الآخرة بعد إنزال الخزى والمذلة بهم فى الدنيا.
ولفظ البشارة ورد هنا على سبيل الاستهزاء بهم، كما يقال: تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشتم.
وقوله - تعالى - بعد ذلك: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } استثناء من المشركين فى قوله: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }.
والمعنى: اعلموا. أيها المؤمنون أن الله ورسوله بريئان من عهود المشركين بسبب نقضهم لها، لكن الذين عاهدتموهم منهم ولم ينقضوا عهودهم، ولم ينقصوكم شيئاً من شروط العهد، ولم يعاونوا عليكم أحدا من الأعداء، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ولا تعاملوهم معاملة الناكثين.
فالآية الكريمة تدل على أن المراد بالمشركين الذين تبرأ الله ورسوله منهم وأعطوا مهلة الأربعة الأشهر، هم أولئك الذين عرفوا بنقض العهود.
أما الذين عاهدوا ووفوهم بعهودهم، فإن هؤلاء يجب إتمام عهدهم إلى مدتهم وفاء بوفاء، وكرامة بكرامة.
وعبر - سبحانه - بثم فى قوله: { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادى المدة وتطاولها.
وقراءة الجمهور { يَنقُصُوكُمْ } بالصاد المهملة، وعليها يجوز أن يتعدى لواحد فيكون شيئاً منصوباً على المصدرية أى: لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا، ويجوز أن يتعدى لاثنين فيكون شيئا مفعوله الثانى، أى: لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد بل أدوها بتمامها.
وقرأ عطاء بن السائب الكوفى وعكرمة وأبو زيد { ثُمَّ لَمْ يَنقُضُوكُمْ } بالضاد المعجمة وهى على حذف مضاف أى: ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وفى تنكير كلمة "شيئا" وكلمة "أحدا" دلالة على أن انتقاص المعاهدة ولو شيئا يسيرا، وأن معاونة الأعداء بأى وسيلة مهما قلت.. كل ذلك مبيح لنبذ العهد، لأن الخيانة الصغيرة كثيرا ما تؤدى إلى الخيانة الكبيرة.
قالوا: والمراد بهؤلاء الذين أمر المسلمون بإتمام عهدهم معهم: بنو ضمرة وبنو مدلج وهم من قبائل بنى بكر وكان قد بقى من عهدهم تسعة أشهر، ولم ينقضوا مواثيقهم.
وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال، والتنبيه على أن الوفاء بالعهد إلى نهايته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التى يحبها لعباده ويحبهم بسببها.
قال صاحب المنار: والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإِسلام ما دام العهد معقودا، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره.
فإن نقص شيئاً ما من شروط العهد، وأخل بغرض ما من إغراضه عد ناقضاً، لقوله - تعالى - { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً }، ولفظ شئ أعم الألفاظ وهو نكرة فى سياق النفى فيصدق بأدنى إخلال بالعهد.
ومن الضرورى أن من شروطه التى ينتقض بالإِخلال بها، عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا، وقد صرح بهذا للاهتمام به، وإلا فهو يدخل فى عموم ما قبله، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر، أى معاونته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به، كمباشرته للقتال بنفسه.
يقال: ظاهره إذا عاونه، وظاهره عليه إذا ساعده عليه، وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذى يعبر به عن القوة، ومنه بعير ظهير أى قوى.
وقال بعض العلماء: ويؤخذ من هذا أن الإِسلام يقرر فى حالة نبذ العهود لزوم إعلان العدو بذلك النبذ، على وجه يمكن العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته.
وفى ذلك يقول الكمال بن الهمام الفقيه الحنفى، وهو بصدد قوله، تعالى.
{ { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } أنه لا يكفى مجرد إعلانهم، بل لا بد من مضى مدة يتمكن فيها مَلِكُهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شئ من أطرافهم قبل مضى المدة.
وذلك كله أثر من آثار وجوب رعاية العهد والبعد عن النكث بكل ما يستطاع.
وبعد أن قررت السورة الكريمة براءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين، وأمرت بالوفاء لمن وفى بعهده منهم.. بعد كل ذلك أخذت فى بيان كيفية معاملة المشركين بعد انتهاء المهلة الممنوحة لهم فقال - تعالى -: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ.... }.