التفاسير

< >
عرض

لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ
٤٤
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
٤٥
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: ليس من شأن المؤمنين الصادقين أن يستأذنوك - يا محمد - فى { أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } فى سبيل إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه.. وإنما الذى من شأنهم وعادتهم - كما أثبته واقعهم وتاريخهم - أن ينفروا خفافا وثقالا عندما يدعو الداعى إلى الجهاد، دون أن ينتظروا إذنا من أحد.
فهم لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، يسارعون إلى الجهاد بقلوب مشتاقة إليه، وبنفوس تتمنى الموت عن طريقه.
وهم فى ذلك ممتثلون لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -:
"من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه فى سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة - أى صيحة - وفزعا طار على متنه يبتغى القتل أو الموت فى مظانه" .
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } تحريض لهم على الاتصاف بهذه الصفة الكريمة، وهى صفة التقوى.
والمراد بالعلم هنا لازمه، وهو مجازاتهم بالثواب الجزيل على تقواهم.
أى: والله - تعالى - عليهم بهؤلاء الذين ملأت خشيته قلوبهم. وسيثيبهم على ذلك ثوابا يرضيهم.
هذا، وقد استنبط العلماء من هذه الآية أنه ينبغى على المؤمن أن يقوم بأداء الأعمال الحسنة، والأفعال الجميلة بدون تردد أو استئذان.
قال صاحب الانتصاف عند تفسيره لهذه الآية: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه فى أن يسدى له معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه فى أن يقدم إليه طعاما؛ فإن الاستئذان فى أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره. وصلوات الله وسلامه على خليله إبراهيم، فقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله - تعالى -: بهذه الخلة الجميلة، فقال:
{ { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ... } أى: ذهب على خفاء منهم، كيلا يشعروا به..
وقال صاحب المنار: وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغى الاستئذان فى أداء شئ من الواجبات، ولا فى الفضائل والفواضل من العادات، كقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف.
ويعجبنى قول بعض العلماء ما معناه: من قال لك أتأكل؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة مثلا؟ فقل له: لا فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك.
ثم بين سبحانه - الصفات التى يعرف بها المنافقون، بعد بيانه للصفات التى يعرف بها المؤمنون الصادقون فقال: { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ.. }.
أى: إنما يستأذنك - يا محمد - فى القعود عن الجهاد أولئك الذين من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بالله إيمانا كاملا، ولا يؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب إيمانا يقينيا.
قال الآلوسى: وتخصيص الإِيمان بهما - أى بالله واليوم الآخر - فى الموضعين للإِيذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإِيمان بهما وعدم الإِيمان بهما، فمن آمن بهما قاتل فى سبيل دينه، وهان عليه القتل فيه لما يرجوه فى اليوم الآخر من النعيم المقيم، ومن لم يؤمن كان بمعزل عن ذلك. على أن الإِيمان بهما مستلزم للإِيمان بسائر ما يجب الإِيمان به".
وقوله: { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } صفة ثالثة من صفاتهم الذميمة.
أى: أنهم بجانب عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، رسخ الريب فى قلوبهم فصاروا يشكون فى صحة ما جئت به - أيها الرسول الكريم -، ويقفون من تعاليمك وتوجيهاتك، موقف المكذب المرتاب لا موقف المصدق المذعن.
وأضاف الشك والارتياب إلى القلوب، لأنها محل المعرفة والإِيمان. وأوثرت صيغة الماضى - ارتابت، للدلالة على تحقق الريب وتوبيخهم. وأصل معنى التردد: الذهاب والمجئ. والمراد به هنا التحير على سبيل المجاز، لأن المتحير لا يستقر فى مكان، ولا يثبت على حال.
أى: فهم فى شكهم الذى حل بهم يتحيرون، فنراهم كما وصفهم - سبحانه - فى آية أخرى.
{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } }. أى: متحيرين بين الكفر وبين الإِيمان.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا السمات التى بها يتميز المؤمنون الصادقون عن غيرهم من الذين قالوا آمنا وما هم بمؤمنين.
ثم حكى - سبحانه - بعض المسالك الخبيثة التى كان يتبعها هؤلاء المنافقون لمحاربة الدعوة الإِسلامية، وكيف أنه - سبحانه - أحبط مكرهم فقال - تعالى -: { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ...وَهُمْ كَارِهُونَ }.