التفاسير

< >
عرض

هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٣٠
-يونس

خواطر محمد متولي الشعراوي

وقول الحق سبحانه: { هُنَالِكَ } يعني: في هذا الوقت، أو في هذا المكان. والزمان والمكان هما ظَرْفَا الحدث؛ لأن كل فعل يلزم له زمان ومكان، فإن كان الزمان هو الغالب، فيأتي ظرف الزمان، وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان.
وجاءت { هُنَالِكَ } أيضاً في قصة سيدنا زكريا عليه السلام، إذ يقول الحق سبحانه:
{ { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ .. } [آل عمران: 38].
أي: في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم - رضي الله عنها - قولةً أدَّت بها قضية اعتقادية إيمانية لكفيلها، وهو سيدنا زكريا عليه السلام وهو الذي يأتي لها بالطعام، وشاء لها الحق - سبحانه وتعالى - أن تعلِّمه هي. يقول سبحانه:
{ { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً .. } [آل عمران: 37].
والرزق ما به انتفع، وكان زكريا - عليه السلام - يكفلها بكل شيء تحتاجه، لكنه فوجىء بوجود رزق لم يَأت هو به؛ بدليل أنه قال:
{ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [آل عمران: 37].
وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأتِ به. وهذه هي قضية "من أين لك هذا"؟، وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحداً يتمتع بما لا تؤهله له حركته في الحياة، وبذلك يُكتشف مختلس الانتفاع بما يخص الغير دون أن يَعرف كافله، ولو أن كافله أصرَّ على معرفة من أين تأتي مصادر دخله؛ لَحَمى المجتمع من الفساد.
وانظر إلى جواب مريم عليها السلام على قول زكريا عليه السلام الذي ذكره رب العزة سبحانه:
{ { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا .. } [آل عمران: 37].
قالت مريم:
{ { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ .. } [آل عمران: 37].
ثم تعلَّل الجواب:
{ { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .. } [آل عمران: 37].
قالت ذلك، لأنه وجد عندها أشياء لا توجد في مثل هذا الوقت من السنة، فعجَبُ سيدنا زكريا عليه السلام - إذن - كان من أمرين اثنين: شيء لم يأت هو به، وشيء مخالف للفترة التي هو فيها، كأنْ وجد عندها عنباً في زمن غير أوانه، أو وجد برتقالاً في غير أوانه، وسؤاله كان دليل يقظة الكفيل، وإجابتها كانت قضية إيمانية عقدية
{ { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .. } [آل عمران: 37].
وما دام { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } - سبحانه وتعالى - ما طرح حسابك أنت للأشياء في ضوء هذه القضية.
ولكن هل غفل سيدنا زكريا - عليه السلام - عن قضية الإيمان بأن الله تعالى يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؟
فنقول: لا، لم يغفل عنها، ولكنها لم تكن في بؤرة شعوره حينئذ؛ فجاءت بها قولة السيدة مريم لتذكر بهذه القضية، وهنا تذكَّر زكريا نفسه، كرجل بلغ من الكبر عتياً، وامرأته عاقر، وما دام الله سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، فليس من الضروري أن يكون شاباً أو تكون زوجته صغيرة لينجب، فجاء الحق معبراً عن خاطر زكريا في قوله:
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ .. } [آل عمران: 38].
أي: في هذا الوقت أو ذلك المكان، أو في الاثنين معاً زماناً ومكاناً، وهنا جاءته الإجابة من ربه سبحانه وتعالى:
{ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9].
وقد جاء الحق سبحانه بهذه القضية ليمنع أيَّ ظانٍّ من أن يسيء الظن بعفة مريم عليها السلام؛ لأنها في موقف اللجوء فأنطقها الحق بقوله:
{ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .. } [آل عمران: 37].
وما دام الرزق بغير حساب وفي غير وقته وغير مكانه وبلا سبب وبغير علم كافلها، فعند ذلك تحقق اللجوء إلى الله بالقبول الحسن الذي دعت به امرأة عمران:
{ { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا .. } [آل عمران: 36-37].
ويطبقها زكريا عليه السلام على نفسه، ثم تتعرض هي لها، حين يبشِّرها الحق سبحانه بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام.
فهي ستلد من غير أن يمسسها ذكر، وهي تعلم أن الأسباب جارية في أنه لا يوجد تناسل إلا بوجود ذكر وأنثى، وشاء الحق سبحانه أن يقدِّر لها أن تلد دون هذه العملية، فجاء سبحانه بتلك المقدمة على لسانها
{ { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .. } [آل عمران: 37].
وحين تساءلت:
{ { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ .. } [آل عمران: 47].
جاءتها الإجابة بأن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، يقول سبحانه:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ .. } [آل عمران: 45].
فبيقظتها الإيمانية فطنت إلى أن هذا الطفل سينسب إلى أمه؛ فعرفت أن أباه ملغى؛ وأدركت أن هذا الولد لن يأتي نتيجة زواج ولو فيما بعد، وبذلك كان عليها أن تعود إلى القضية الإيمانية التي ذكرتها:
{ { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ .. } [يونس: 30].
أي: في ذلك الوقت تُختبر كل نفس، وترى هل الجزاء طيب أم لا؟ فإن كانت قد عملت الشر؛ فستجد الجزاء شَرّاً.
إذن: فالإنسان وقت النتائج يختبر نفسه بما كان منه.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ .. } [يونس: 30].
وكأنهم كانوا في الدنيا عند مولىً آخر غير الإله الحقّ سبحانه، والمولى غير الحق هو الشريك أو الشركاء الذين اتخذهم بعض الناس مَوالِيَ لهم، وهنا في اليوم الآخر يُردُّون إلى الإله الحق والمولى الحق سبحانه.
وكلمة "رُدُّوا إلى كذا" لا تدل على أنهم كانوا مع الضِّدِّ، وجاءوا له، بل تدل على أنهم كانوا معه أولاً، ثم ذهبوا إلى الضِّدِّ، ثم رُدُّوا إليه ثانياً، مثل قول الحق سبحانه عن موسى عليه السلام:
{ { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ .. } [القصص: 13].
فدلَّت على أنه كان مع أمه، ثم فارقها، ثم رُدَّ إليها.
وقول الحق سبحانه هنا: { وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ .. } [يونس: 30].
أي: أنهم كانوا مع الله أولاً، ثم أخذهم الشركاء، وفي هذا اليوم الآخر يرجعون لربهم سبحانه.
والإنسان يكون مع ربّه أولاً بالفطرة التكوينية المؤمنة، ثم يتجه به أبواه إلى المجوسية أو أيّ ديانة أخرى تحمل الشرك بالله تعالى، وهم في ظل تلك الديانات المشركة، كانوا عند مولىً وسيِّدٍ وآمِرٍ ومشرِّعٍ، لكنه مَوْلىً غير حق؛ لأن الحق هو الثابت الذي لا تدركه الأغيار.
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ .. } [يونس: 30].
أي: عرفت كل نفس ما فعلت، ويُعرف كل إنسان بفضيحته في جزئيات ذاته، وكذلك الفضيحة العامة لكل إنسان أشرك بالله سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [يونس: 30].
أي: أن الآلهة التي عبدوها لا تتعرف إلى أمكنتهم ومواقعهم، وأنهم في خطر؛ فتأخذ بأيديهم؛ لأن هذه الآلهة لا علم لها بهم، ولو أن هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله - سبحانه - على شيء من الحق؛ ووجدوهم في مأزق؛ لكان يجب أن يدافعوا عنهم، لكنهم لم يعرفوا أماكنهم { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ .. } [يونس: 30].
أي: ما كانوا يكذبونه كذباً متعمداً.
وبعد أن كشف - سبحانه - المسألة وما سوف يحدث في الآخرة، وخوَّفهم وبشَّع لهم ما سوف ينتظرهم من مصير إنْ ظلوا على الكفر؛ لعلَّهم يرتدعون، ويتذكرون ضرورة العودة إلى عبادة الإله الحق سبحانه، يأتي الحق سبحانه وتعالى بما يعيد إليهم رُشْدَ الإيمان في نفوسهم، فيقول:
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ... }.