التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ
٥٩
-يونس

خواطر محمد متولي الشعراوي

إن تمتع الإنسان في الحياة بالمُلْك والمِلْك، فكل ذلك يحتاج إلى استبقاء الحياة بالرزق الذي يهبُنَا الحق سبحانه إيّاه، وكذلك استبقاء النوع بالتزواج بين الذكر والأنثى.
ولكن الرزق الذي يستبقي الحياة لا بُدَّ أن يكون حلالاً؛ لذلك حدَّد لنا الحق سبحانه وتعالى المحرَّمات فلا تقربها، وأنت عليك بالالتزام بما حدَّده الله، فلا تدخل أنت على ما حلّل الله لتحرِّمَه؛ لأن الحق سبحانه حدَّد لك من الطعام ما يستبقي حياتك ويعطيك وقوداً لحركة الحياة، فعاملْ نفسك كما تعامل الآلة التي تصنعها، فأنت تعطي كل آلة الوقود المناسب لها لتؤدي مهمتها، كذلك جعل الله سبحانه لك المواصفات التي تنفعك وتستفيد منها وتؤدي حركات الحياة بالطاقة التي يمدّك بها ما حَلَّله الله لك.
وكذلك حرَّم الله عليك ما يَضُرُّك.
وإياك أن تقول: ما دامت هذه الأشياء تضرّني فلماذا خلقها الله؛ لأن عليك أن تعرف أن هناك فارقاً بين رزق مباشر، ورزق غير مباشر، وكل ما في الكون هو رزق، ولكنه ينقسم إلى رزق مباشر تستفيد منه فوراً، وهناك رزق غير مباشر.
ومثال ذلك: النار، فأنت لا تأكل النار، لكنها تُنضِج لك الطعام.
إذن: فهناك شيء مخلوق لمهمة تساعد في إنتاج ما يفيدك.
والحق سبحانه قد حلّل لك - على سبيل المثال - لحم الضأن والماعز، والإبل والبقر وغيرها، وحرَّم عليك لحم الخنزير، فلا تسألْ: لماذا خلق الله الخنزيرَ؛ لأنه خَلقه لمهمةٍ أخرى، فهو يلملم قاذورات الوجود ويأكلها، فهذا رزق غير مباشر، فاتركه للمهمة التي أراده الله لها.
وبعض الناس قد حرَّم على نفسه أشياء حلَّلها الله تعالى، وهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم، ويظن البعض أنه حين يحلّل ما حرَّم الله أنه يوسِّع على نفسه، فيأمر الحق سبحانه رسول صلى الله عليه وسلم أن يقول:
{ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ .. } [يونس: 59].
أي: أخبِروني ما أنزل الله لكم من رزق، وهو كل ما تنتفعون به، إما مباشرةً، وإما بالوسائط، فكيف تتدخلون بالتحليل والتحريم، رغم أن الذي أنزل الرزق قد بيَّن لكم الحلال والحرام؟!
وكلمة { أَنزَلَ } تفيد أن الرزق كله قادم من أعلى، وكل ما ترونه حولكم هو رزق، تنتفعون به مباشرة، أو بشكل غير مباشر، فالمال الذي تُشترى به أغلب الأرزاق لا يأكله الإنسان، بل يشتري به ما يأكله.
وكلمة { أَنزَلَ } تعني: أوْجَدَ، وخلق مِنْ أعلى، وما دام كل شيء قد وُجد بمشيئة مَنْ هو أعلى من كل الوجود، فكل شيء لصالحك مباشرة أو بوسائط.
ولا تأخذ كلمة { أَنزَلَ } من جهة العلوّ الحسية، بل خُذها من جهة العلوِّ المعنوية، فالمطر - مثلاً - ينزل من أعلى حسيّاً، ويختلط بالأرض فيأخذ النبات غذاءه منها، والرزق بالمطر ومن الأرض مُقدَّر ممّن خَلَق، وهو الأعلى سبحانه.
وقد قال الحق سبحانه:
{ { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ .. } [الحديد: 25].
نعم، فقد أنزل الحق سبحانه منهجه على الرسل عليهم السلام لتصلح حياة الناس، وأنزل الحديد أيضاً، هذا الذي نستخرجه من الجبال ومن الأرض.
إذن: فالمراد هنا بالإنزال، أي: الإيجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها الإنسان.
وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق، وبيَّن الحلال والحرام، فلماذا تُدخِلون أنوفكم في الحلال والحرام، وتجعلون بعض الحلال حراماً، وبعض الحرام أو كُلَّ الحرام حلالاً؟ لماذا لا تتركون الجَعْل لمن خَلَق وهو سبحانه أدْرى بمصلحتكم؟
{ قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ .. } [يونس: 59].
أي: هل أعطاكم الله سبحانه تفويضاً في جَعْلِ الحلال حراماً، والحرام حلالاً؟ { أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59] أي: على الله تتعمدون الكذب.
وقد جاء الحق سبحانه بالحلال والحرام ليبيِّن لنا مدى قُبح السلوك في تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرَّم الله.
ويشير الحق سبحانه - في إجمال هذه الآية - إلى آيات أخرى فَصَّلت الحرام، وسبق أن تناولناها بخواطرنا، مثل قوله تعالى:
{ { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [المائدة: 103].
والبَحيرة - كما ذكرنا - هي الناقة التي أنجبتْ خمس بُطونٍ آخرها ذَكَر، وكانوا يشقُّون أذنها، ويعلنون أنها قامت بواجبها ويتركونها سائمة غير مملوكة، لا يركبها أحد، ولا يحمل عليها أحد أيَّ حِمْل، ولا يحلبها أحد، ولا يجزّ صوفها أحد، ثم يذبحها خُدَّام الآلهة التي كانوا يعبدونها، وسَمَّوها "بَحيرة"؛ لأنهم كانوا يشقون آذانها علامةً على أنها أدَّتْ مهمتها.
أما السائبة فهي غير المربوطة؛ لأن الربط يفيد الملكية، وكان الواحد منهم إذا شفي من مرض أو أراد شيئاً وَهَبَ أن يجعل ناقةً لخدَّام الأصنام، واسمها سائبة، وهي أيضاً لا تُركب، ولا تُحلب، ولا يُحمل عليها، ولا أحد يتعرَّض لها.
والوصيلة: هي الأنثى تلدها الناقة في بطن واحدة مع ذكر، فيقولون: "وَصَلَتْ أخاها"؛ فلا يذبحونه للأصنام من أجل أخته.
{ وَلاَ حَامٍ } والحام: هو الفَحْل الذي يحمي ظهر نفسه بإنجاب عشرة أبْطُن، فلا يركبه أحد بعد ذلك، ولا يُحمَل عليه، ويترك لخدَّام الأصنام.
هذه هي الأنعام المحلَّلة التي حرَّموها على أنفسهم، بينما يأكلها خُدَّام الأصنام، وفي ذكر عدم تحريم تلك الأنعام رأفة بهم.
وهناك أيضاً قول الحق سبحانه:
{ { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنعام: 143-144].
إذن: فقد حَرَّموا بعضاً مما أحلّ الله لهم، وقالوا ما أورده القرآن:
{ { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام: 136].
وأجمل الحق سبحانه كل ذلك في قوله الحق:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59].
وهكذا تدخَّلوا في تحريم بعض الحلال وحلَّلوا بعضاً من الحرام، وفي هذا تعدٍّ ما كان يجب أن يقترفوه؛ لأن الحق سبحانه هو خالقهم، وهو خالق أرزاقهم، وفي هذا كذب متعمَّد على الله سبحانه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ... }.