التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٨
-هود

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه الآية تبدأ بخبر مؤكد في صيغة استفهام، حتى يأتي الإقرار من هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً، والإقرار سيد الأدلة.
والواحد من هؤلاء المفترين إذا سمع السؤال وأدار ذهنه في الظالمين، فلن يجد ظلماً أفدح ولا أسوأ من الذي يفتري على الله كذباً، ويقر بذلك.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي هذا الخبر في صيغة استفهام، ليأتي الإقرار اعترافاً بهذا الظلم الفظيع.
وهؤلاء المكذبون يُعرَضون على الله مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ .. } [هود: 18].
والعرض إظهار الشيء الخفي لنقف على حاله.
ومثال ذلك في حياتنا: هو الاستعراض العسكري حتى يبيِّن الجيش قوته أمام الخصوم، وحتى تُبلغ الدولة غيرها من الدول بحجم قوتها.
وكذلك نجد الضابط يستعرض فرقته ليقف على حال أفرادها، ويقيس درجة انضباط كل فرد فيها وحسن هندامه، وقدرة الجنود على طاعة الأوامر.
ومثال آخر من حياتنا: فنحن نجد مدير المدرسة يستعرض تلاميذها لحظة إعلان نتائج الامتحان، ويرى المدير والتلاميذ خزي المقصر منهم أو الذي لم يؤد واجبه بالتمام.
فما بالنا بالعرض على الله تعالى، حين يرى المكذبون حالهم من الخزي؟
ذلك أنهم سيفاجأون بوجود الله الذي أنكروه افتراءً؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ .. } [النور: 39].
فأيُّ خزي - إذن - سيشعرون به؟!
ويُظهر الحق سبحانه وتعالى ما كان مخفيّا منهم حين يعرض الكل على الله تعالى مصداقاً لقوله سبحانه:
{ { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً .. } [الكهف: 48].
وكذلك يُعرضون على النار؛ لأن الحق سبحانه هو القائل:
{ { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً .. } [غافر: 46].
وهكذا يظهر الخزي والخجل والمهانة على هؤلاء الذين افتروا على الله تعالى.
وهو سبحانه يعلم كل شيء أزلاً، ولكنه سبحانه شاء بذلك أن يكشف الناس أمام بعضهم البعض، وأمام أنفسهم، حتى إذا ما رأى إنسان في الجنة إنساناً في النار، فلا يستثير هذا المشهد شفقة المؤمن؛ لأنه يعلم أن جزاء المفتري هو النار.
ويا ليت الأمر يقتصر على هذا الخزي، بل هناك شهادة الأشهاد؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية:
{ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ .. } [هود: 18].
والأشهاد جمع له مفرد، هو مرة "شاهد"، مثل "صاحب" و"أصحاب"، ومرة يكون المفرد "شهيد" مثل "شريف" و"أشراف".
والأشهاد منهم الملائكة؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].
وكذلك الحق سبحانه:
{ { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الإنفطار: 10-12].
أو شهود من الأنبياء الذين بلغوهم منهج الله؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النساء: 41].
وأيضاً الشهيد على هؤلاء هو المؤمن من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيبلِّغها إلى غيره، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ .. } [البقرة: 143].
وكلمة "الشهادة" تعني: تسجيل ما فعلوا، وتسجل أيضاً أنهم بُلِّغوا المنهج وعاندوه وخرجوا عليه، فارتكبوا الجريمة التي تقتضي العقاب، لأن العقوبة لا تكون إلا بجريمة، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام.
ولذلك نجد القوانين التي تصدر من الدولة تحمل دائماً عبارة "يُعمل بالقانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية".
إذن: فعمل الأشهاد أن يعلنوا أن الذين أنكروا الرسالة والرسول قد بُلِّغوا المنهج، وبُلِّغوا أن إنكار هذا المنهج وإنكار هذا الرسول هو الجريمة الكبرى، وأن عقوبة هذا الإنكار هي الخلود في النار.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو العدل نفسه؛ لذلك فلا عقاب إلا بالتأكد من وقوع الجريمة، لذلك لا بد من شهادات متعددة، ولذلك يأتي الشاهد من الملائكة، وهو من جنس غير جنس المعروضين، ويأتي الشاهد من الأنبياء وهو من جنس البشر إلا أنه معصوم.
وكذلك يأتي الشاهد من الإخوة المؤمنين الذين يشهدون أنهم قد بُلِّغوا منهج الإيمان، ثم تأتي شهادة هي سيدة الشهادات كلها، وهي شهادة الأبعاض على الكل.
يقول الحق سبحانه:
{ { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت: 19-21].
فالجوارح تنطق لتقيم الحجة على أولئك المذنبين.
وسؤال المذنبين عن كيفية وقوع النطق لا لزوم له؛ لذلك نجد السؤال هنا "لمَ"؛ لأن الجوارح كانت هي أدوات المذنبين في ارتكاب الجرائم؛ لأن اليد هي التي امتدت لتسرق، واللسان هو الذي نطق قول الزور، والقلب هو الذي حقد، والساق هي التي مشت إلى المعصية.
والإنسان - كما نعلم - مركَّب من جوارح، وهذه الجوارح لها أجهزة تكوِّن الكل الإنساني، ومدير كل الجسم هو العقل، فهو الذي يأمر اليد لتمتد وتسرق، أو تمتد لتربت على اليتيم؛ والعين تأخذ أوامرها من العقل، فإما أن يأمرها بأن تنظر إلى جمال الكون، وتعتبر بما تراه من أحداث، أو يأمرها بأن تنظر إلى الحرام.
إذن: الجوارح خادمة مطيعة مُسخَّرة لذلك الإنسان وإرادته، لكن الأمر يختلف في الآخرة، حيث لا أمر لأحد إلا الله.
والحق سبحانه القائل:
{ { .. لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
فالجوارح تقول يوم القيامة لأصحابها: كنا نفعل ما تأمروننا به من المعاصي رغماً عنا؛ لأننا كنا مُسخَّرين لكم في الدنيا، والآن انحلَّتْ إرادتكم عنا فقلنا ما أجبرتمونا على فعله.
وهكذا تعترف الأشهاد، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ .. وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [هود: 18].
وما داموا قد كذبوا على ربهم، فالمكذوب عليه هو الله، ولا بد أن يطردهم من الرحمة، وهم قد ارتكبوا قمة الظلم وهو الشرك به والإلحاد وإنكار الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ... }.