التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ
٦١
-هود

خواطر محمد متولي الشعراوي

ونحن نلحظ أن الحق سبحانه يبيِّن لنا هنا أنه أرسل إلى ثمود واحداً منهم هو صالح عليه السلام.
وجاء الحق سبحانه بلفظ { أَخَاهُمْ } ليبين العلاقة التي بين صالح - عليه السلام - وقومه، فهو قد نشأ بينهم، وعرفوه وخبروه، فإذا ما جاءهم بدعوة - وقد لمسوا صدقه - فلا بد أن يؤمنوا بما جاء به من منهج.
وناداهم صالح عليه السلام: { يٰقَوْمِ }، وهي من القيام، يعني: يا من تقومون للأمور. والذي يقوم على الأمر عادة هم الرجال؛ لأن أمر النساء مستور - دائماً - في طي الرجال، فليس كل حكم من أحكام الدين يأتي فيه ذكر المرأة، بل نجد كثيراً من الأحكام تنزل للرجال، والنساء مطويات على الستر في ظل الرجال، والرجل يشقى ويكدح، والمرأة تدير حياة السُكْنى وتربية الأولاد.
ونحن نجد من النساء ومن الرجال من يتراضون عند الزواج على ألا تخرج المرأة للعمل.
إن للمرأة حق العمل إن احتاجت ولم تجد من يعولها، ولكن إن وجدت من يقوم عليها، فلماذا لا تلتفت إلى عمل لا يقل أهمية عن عمل الرجل، وهو رعاية الأسرة؟
وكذلك يجد من يقوم باسم الحرية بالهجوم على الحجاب، ونقول لمن يفعل ذلك: إذا كنت لم تنتقد التهتك في الملابس، ووَصَفْتَهُ بأنه "حرية"، فلماذا تتدخل في أمر الحجاب، ولا تعتبره "حرية" أيضاً.
ونعود إلى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ .. } [هود: 61] والعبادة تقتضي تلقي أوامر الإله المعبود بـ "افعل" و"لا تفعل" في كل حركة من حركات الحياة.
فكان أول شيء طلبه صالح من قومه ثمود { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } وأمر عبادة الله وحده مطلوب من كل أحد، ولا يسع أحداً مخالفته.
{ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ .. } [هود: 61].
تقرير واقع لا تستطيعون تغييره، فليس لكم إله آخر غير الله، مهما حاولتم ادعاء آلهة أخرى.
ويقول الحق سبحانه:
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا .. } [هود: 61].
والإنشاء هو الإيجاد ابتداء من غير واسطة شيء، ويقال: أنشأ، أي: أوجد وجوداً ابتداءً من غير الاستعانة بشيء آخر.
لذلك لا نقول لمن اخترع: إنه "أنشأ" لأنه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه؛ فقد يكون مستعيناً بمادة أخذها من الجبال، وبخبرة تجارب صنعها من سبقوه، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الذي ينشىء من عدم.
والوجود من العدم قسمان: قسم أوجدته باستعانة بموجود، وقسم أوجدته من عدم محض، وهذا الأخير هو الإنشاء ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه جلَّت مشيئته في الإنشاء، فهو ينشىء الإنسان من التقاء الزوج والزوجة، وإن أرجعت هذا الإنشاء إلى البداية الأولى في آدم عليه السلام، فستجد أن الحق سبحانه وتعالى قد خلقه من نفس مادة الأرض، والأرض مخلوق من مخلوقات الله.
فمنيُّ الزوج وبويضة الزوجة يتكونان من خلاصة الدم، الذي هو خلاصة الأغذية وهي تأتي من الأرض، فسواء رمزت لآدم بإنشائه من الأرض، أو أبقيتها في ذريته، فكل شيء مَردُّه إلى الأرض.
وقول الحق سبحانه:
{ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا .. } [هود: 61].
نجد فيه كلمة { ٱسْتَعْمَرَكُمْ } وساعة ترى الألف والسين والتاء فاعلم أنها للطلب، وهكذا يكون معنى كلمة "استعمر" هو طلب التعمير.
ومن الخطأ الشائع تسمية البلاد التي تحتل بلاداً أخرى: "دول الاستعمار".
أقول: إن ذلك خطأ، لأنهم لو كانوا دول استعمار، فهذا يعني أنهم يرغبون في عمارة الأرض، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يخربون في الأرض؛ ولذلك كان يجب أن تسمى "دول الاستخراب".
{ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي: طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلب أمرين اثنين: أن يبقي الناس الأمر الصالح على صلاحه، أو يزيدوه صلاحاً.
وكما ضربت المثل من قبل بتحسين وسائل وصول المياه إلى المنازل بعد اكتشاف نظرية الأواني المستطرقة، فقد كان الناس يشربون الماء من الترع، ثم تم اختراع كيفية تكرير المياه، ثم جاءت نظرية الأواني المستطرقة، فاستغلها الناس في بناء خزانات عالية، وتوصيل الماء بواسطة مواسير تدخل لكل بيت.
وهكذا تصل المياه النقية لكل منزل، وهكذا يزداد في الأمر الصالح صلاحاً.
وأيضاً إن استصلحنا الأرض البور، فنحن نزيد الأرض رقعة صالحة لإنتاج الغذاء لمقابلة الزيادة في عدد السكان.
وما دام عدد السكان في زيادة فلا بد من زيادة رقعة الأرض بالاستصلاح؛ لأن الأزمة التي نعاني منها الآن، هي نتيجة للغفلة التي مرت علينا، فزاد التكاثر عن الاستصلاح، وكان الواجب يقتضي أن نزيد من الاستصلاح بما يتناسب مع الزيادة في السكان.
وهكذا نفهم معنى استعمار الأرض.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أنه تجلَّى على الخَلْق بصفات من صفاته، فالقويُّ يعين الضعيف، والحق سبحانه له مطلق القوة، ويَهَبُ الخلق من حكمته حكمة، ومن قبضه قبضاً، ومن بسطه بسطاً، ومن غناه غنىً؛ ولكن الصفات الحسنى كلها ذاتية فيه وموهوبة منه لنا.
والدليل على ذلك أن القوي فينا يصير إلى ضعف، والغني منا قد يصيبه الفقر؛ حتى لا نفهم أن هذه الصفات ذاتية فينا، وأن الحق سبحانه وتعالى قد أعطانا من صفاته قدرة لنفعل.
ومن أعطاه الله تعالى قدرة ليفعل؛ عليه أن يلاحظ أنه انتفع بفعل من سبقه، فإن أكل اليوم تمراً - على سبيل المثال - فعليه أن يتذكر أن الذي زرع له النخلة هو من سبقه، فليزرع من يأكل البلح الآن نخلة لتفيده بعد سبع سنين - وهو الزمن اللازم لتطرح النخلة بلحاً - وليستفيد بها من يأتي من بعده.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لقومه "ثمود" في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ .. فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [هود: 61].
فإن استغفر الإنسان، فالحق سبحانه قريب من كل عبد يستغفر عن ذنوب لا تمثل حقوقاً للناس، والله سبحانه وتعالى يجيب لطالب المغفرة.
فماذا كان الرد من قوم ثمود؟
يقول الحق عز وجل ما جاء على ألسنتهم:
{ قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا ... }.