التفاسير

< >
عرض

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ
٩٨
-هود

خواطر محمد متولي الشعراوي

وكلمة "يقدم" هي من مادة "القاف" و"الدال" و"الميم". وعند استخدام هذه المادة في التعبير قولاً أو كتابة، فهي تدل على الإقبال بالمواجهة؛ فيقال: "قدم فلان" دليل إقباله عليك مواجهة. وإذا قيل: "أقبل فلان" فهذا يعني الإقبال بشيءٍ من العزم. و"قدم القوم يقدمهم" أي: أنهم يتقدمون في اتجاه واحد، ومن يقودهم يتقدمهم.
ويُفهم من هذا أن فرعون اتبعه الملأ، والقوم اتبعوا الملأ وفرعون، وما داموا قد اتَّبعوه في الأولى؛ فلا بد أن يتبعوه في الآخرة.
ويأتي القرآن بآيات ويُبيِّنها، مثل قول الحق سبحانه:
{ { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } [مريم: 68-70].
فالحق سبحانه ينزع من كل جماعة الأشد فتوة وسطوة، ويلقيه في النار، لأنه أعلم بمن يجب أن يَصْلَى السعير.
ويقول الحق سبحانه:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 71ـ72].
ولم يقل الحق سبحانه: "وإنْ منهم إلاّ واردُها".
وإنما قال:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا .. } [مريم: 71].
وبذلك عمَّم الخطاب للكل، أو أنه يستحضر الكفار ويترك المؤمنين بمعزل.
وهنا يقول الحق سبحانه عن قوم فرعون:
{ .. فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } [هود: 98].
وحين تكلم كتاب الله الكريم عن "الورود"، وهو الكتاب الذي نزل بلسان عربي مبين، نجد أن الورود يأتي بمعنى الذهاب إلى الماء دون شرب من الماء، قلت: "وردَ يردُ وروداً"، وإن أردت التعبير عن شرب الماء مع الورود، فقل: "وردَ يردُ وِرْداً" بدليل أن الحق سبحانه يقول هنا:
{ .. وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } [هود: 98].
أي: أنهم يشعرون بالبؤس لحظة أن يروا ماء جهنم ويشربون منه.
إذن: فكلمة "الوِرْد" تطلق على عملية الشرب من الماء، وقد تطلق على ذات الواردين مثل قوله:
{ { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } [مريم: 86].
وقد قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته:

فَلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقاً جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ الُمَتَخيّمِ

والشاعر هنا يصف الرَّكْب ساعة يرى المياه الزرقاء الخالية من أي شيء يعكرها أو يُكدِّرها، فوضع القوم عصا الترحال.
وكان الغالب قديماً أن يحمل كل من يسير عصاً في يده، مثل موسى عليه السلام حين قال:
{ { هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18].
ويقول الشاعر:

فألقتْ عصَاها واستقرَّ بها النَّوَى كمَا قَرَّ عيناً بالإياب المُسَافرُ

فساعة رأى الركب المياه زرقاء، فهذا يعني أنها مياه غير مكدَّرة.
ونحن نعلم أن المياه لا لون لها، ولكنها توصف بالزُّرْقة إن كانت خالية من الشوائب، شديدة الصفاء، فتنعكس عليها صورة السماء الزرقاء.
والشاعر يصف قومه ساعة أن وصلوا إلى الماء الصافي وتوقفوا وأقاموا في المكان.
وهكذا نجد أن الورود يعني الذهاب إلى الماء دون الشرب منه. والورد للماء يُفرح النفس أولاً، ثم يورده ويرويه ما يشربه منها، ومن يرد الماء لا شك أنه يعاني من ظمأ يريد أن يرويه، وحرارة كبد يريد أن يبردها.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ .. وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } [هود: 98].
وفي هذا تهكم شديد، لأنهم - قوم فرعون - ساعة يرون الماء يشعرون بقرب ري الظمأ وإبراد الحرارة، ولكنهم يشربون من ماء جهنم، فبئس ما يشربون، فهو يُطمعهم أولاً، ثم يؤيسهم بعد ذلك.
كما في قوله سبحانه:
{ { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ .. } [الكهف: 29].
فهم ساعة يسمعون كلمة "يغاثوا" يفهمون أن هناك فرجاً قادماً لهم، فإذا ما علموا أنه ماء كالمهل يشوي الوجوه، عانوا من مرارة التهكم.
ولله المثل الأعلى: فأنت قد تجد من يدعوك لأطايب الطعام، وبعد ذلك تغسل يديك، فيلح عليك من دعاك إلى تناول الحلوى، فتستشرف نفسك إلى تناول الحلوى، بينما يكون من دعاك قد أوصى الطباخ أن يخلط الحلوى بنبات "الشطة" فيلتهب جوفك؛ أليس في هذا تهكم شديد؟!
والحق سبحانه يبيِّن لهم أن الورد إنما جاء لترطيب الكبد، لكن أكبادكم ستشتعل بما تشربونه من هذا الماء، وكذلك الطعام الذي يأكله أهل النار.
والحق سبحانه يقول:
{ { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [الحاقة: 36].
وهكذا تصير النكبة نكبتين.
وبعض الناس قد فهم قول الحق سبحانه:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا .. } [مريم: 71].
بمعنى أنهم جميعاً سوف يَرِدون جهنم.
ولكن الحق سبحانه يقول أيضاً:
{ { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } [مريم: 70].
إذن: فالحق سبحانه يعطي لكل الناس صورة للنار، فإذا رأى المؤمنون النار وتسعُّرها، ولم يدخلوها، عرفوا كيف نجَّتهم كلمة الإيمان منها فيحمدون الله سبحانه وتعالى على النجاة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ... }.