التفاسير

< >
عرض

وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٤
-الرعد

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه الآية جاءت بشيء من التفصيل لقول الحق سبحانه في أواخر سورة يوسف: { { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105].
وتلك آية تنضم إلى قوله تعالى:
{ { رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا .. } [الرعد: 2].
وتنضم إلى:
{ { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ .. } [الرعد: 2].
وتنضم إلى قوله سبحانه:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ .. } [الرعد: 3].
وحين نتأمل قول الحق سبحانه:
{ وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ .. } [الرعد: 4].
نجد أننا لا نستطيع أن نعرفها بأنها التي يعيش عليها أمثالنا؛ تلك هي الأرض، ولو أردنا تعريفها لأبهمناها، فهي أوضح من أن تُعَرّف.
وكلمة "قِطَع" تدلُّ أول ما تدلُّ على "كل" ينقسم إلى أجزاء، وهذا الكُلُّ هو جنس جامع للكلية؛ وفيه خصوصية تمييز قطع عن قطع.
وأنت تسمع كلام العلماء عن وجود مناطق من الأرض تُسمّى حزام القمح، ومناطق أخرى تُسمَّى حزام الموز؛ ومناطق حارة؛ وأخرى باردة.
وقول الحق سبحانه:
{ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ .. } [الرعد: 4].
هو قول يدل على الإعجاز؛ فعلى الرغم من أنها متجاورات إلا أن كلاً منها تناسب الطقس الذي توجد فيه؛ فزراعة الذرة تحتاج مناخاً مُعيناً؛ وكذلك زراعة الموز.
وهكذا تجد كل منطقة مناسبة لما تنتجه، فالأرض ليست عجينة واحدة استطراقية، لا بل هي تربة مناسبة للجو الذي توجد به.
ومن العجيب أن فيها الأسرار التي يحتاجها الإنسان؛ هذا السيد الذي تخدمه كل الكائنات، فليست الأرض سائلة في التماثل؛ بل تختلف بما يناسب الظروف، فهناك قطعة سبخة لا تنبت؛ وأخرى خصبة تنبت.
بل وتختلف الخصوبة من موقع إلى آخر؛ ومن قطعة إلى أخرى؛ فثمرة الجوافة من شجرة معينة في منطقة معينة تختلف عن ثمرة الجوافة من شجرة في منطقة أخرى؛ والقمح في منطقة معينة يختلف عن القمح في منطقة أخرى؛ ويقال لك "إنه قمح فلان".
ويحدث ذلك رغم أن الأرض تُسْقَى بماء واحد.
ويقول العلماء البعيدون عن منطق السماء: "إن السبب في الاختلاف هو عملية الاختيار والانتخاب". وكأنهم لا يعرفون أن الاختيار يتطلب مُخْتاراً، وأن يكون له عقل يُفكِّر به ليختار، وكذلك الانتخاب فهل البُذَيْرات تملك عقلاً تُفكِّر به وتختار؟ طبعاً لا.
ويقولون: إن النبات يتغذَّى بالخاصية الشعرية، ونعلم أن الأنابيب الشعرية التي نراها في المعامل تكون من الزجاج الرفيع؛ وإذا وضعناها في حوض ماء، فالماء يرتفع فيها على مستوى الإناء.
وإنْ صدَّقْنا العلماء في ذلك، فُكيف نصدِّقهم في أن شجرة ما تأخذ ماءً من الشجرة الأخرى؛ وتنتج كل منهما نفس الثمار؛ لكن ثمار شجرة تختلف عن الأخرى في الطَّعْم؟
ونقول: إن كل شجرة تأخذ من الأرض ما ينفعها؛ ولذلك تختلف النباتات، ويحدث كل ذلك بقدرة الذي قَدَّر فهدى.
وهكذا نرى الأرض قطعاً متجاورات؛ منها ما يصلح لزراعة تختلف عن زراعة الأرض الأخرى.
وقد يقول بعض من الملاحدة: إن هذا الاختلاف بسبب الطبيعة والبيئة.
وهؤلاء يتجاهلون أن الطبيعة في مجموعها هي الشمس التي تعطي الضوء والحرارة والإشعاع، والقمر أيضاً يعكس بعضاً من الضوء، والنجوم تهدي من يسير في الفَلاَة، وتيارات الهواء تتناوب ولها مسارات ومواعيد.
ورغم كل ذلك فهناك أرض خِصْبة تنتج، وأرض سبخة لا تنتج، وأرض حمراء؛ وأخرى سوداء، وثالثة رملية، وكلها متجاورة.
لا بد إذن من وجود فاعل مختار يأمر هذه أمراً مختلفاً عن تلك.
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية:
{ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ .. } [الرعد: 4].
وجاء الحق سبحانه هنا بالمُرفِّهاتِ أولاً؛ فتحدث عن الفاكهة؛ ثم تحدث عن الزرع الذي منه القُوت الأساسي، ونحن في حياتنا نفعل ذلك؛ فحين تدخل على مائدة أحد الكبار؛ تجد الفاكهة مُعدَّة على أطباق بجانب المائدة الرئيسية التي يُقدَّم عليها الطعام.
ويأتي الحق سبحانه بعد الأعناب والزَّرْع الذي منه القُوت الضروري بالنخيل، وهو الذي ينتج غذاء، وقد يكون التمر الذي ينتجه تَرَفاً يتناوله الإنسان بعد تناول الطعام الضروري.
وقول الحق سبحانه:
{ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ .. } [الرعد: 4].
يتطلب مِنَّا أن نعرف ما الصنوان؟ ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
"العم صِنْو أبيك" أي: أن الصِّنْو هو المِثْل.
وبهذا يكون معنى الصِّنْوان هو المِثْلان. ونرى ذلك واضحاً في النخيل؛ فنرى أحياناً أصلاً واحداً تخرج منه نخلتان؛ أو ثلاث نخلات؛ وأحياناً يخرج من الأصل الواحد أربع أو خمس نخلات.
ويُطلق لقب "الصنوان" على الأصل الواحد الذي يتفرع إلى نخلتين أو أكثر؛ فكلمة "صنوان" تصلح للمثنى وللجمع، ولكنها في حالة المثنى تُعامل في الإعراب كالمثنى؛ فيقال "أثمرتْ صنوان" و"رأيت صنوين" أما في حالة الجمع فيقال "رأيت صنواناً" و"مررْتُ بصنوان". والمفرد طبعاً هو "صِنْو".
ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ .. } [الرعد: 4].
ومن العجيب أن كل شجرة تأخذ عَبْر جذورها كمية من الماء والغذاء اللازم لإنتاج ثمارٍ ذات شكل وطَعْم مختلف.
وهذا ما جعلنا نقول من قَبْل: إن افتراضات العلماء المتخصصين في علوم النبات عن أن النباتات تتغذَّى بخاصية الأنابيب الشعرية هو افتراض غير دقيق.
فلو كان الأمر كذلك لأخذت الأنابيب الشعرية الخاصية بنبات المواد التي أخذتها الأنابيب الشعرية الخاصة بنبات آخر. والأمر ليس كذلك، فكل نبات يأخذ من الأرض ما يخصه فقط، ويترك ما عدا ذلك.
ذلك أن الثمار لكل نبات تختلف ولا تتشابه؛ بل إن الشجرة الواحدة تختلف ثمارها من واحدة إلى أخرى.
مثال هذا: هو شجرة المانجو أو النخلة المثمرة، ويمكنك أن تلاحظ نفسك، وسترى أنك تنتقي من ثمار المانجو القادمة من شجرة واحدة ما يعجبك، وترفض غيرها من الثمار، وسترى أنك تنتقي من ثمار البلح القادم من نخلة واحدة ما يروقُ لك؛ وترفض بعضاً من ثمار نفس النخلة.
وحين تذهب لشراء الفاكهة؛ فأنت تشتري حسب موقفك من الادخار؛ فإنْ كنتَ تحب الادخار فسوف تشتري الفاكهة التي من الدرجة الثانية؛ وإذا كنت تحب أن تستمتع بالطيب من تلك الفاكهة فسوف تشتري من الفاكهة المتميزة.
وأتحدى أنْ يقف واحد أمام قفص للفاكهة، وينتقي الثمار غير الجميلة الشكل والرَّوْنق، بل يحاول كل إنسان أن يأخذ الجميل والطيب من تلك الفاكهة، وحين يدفع ثمن ما اشترى سنجده يدفع النقود الورقية القديمة التي تُوجد في جيبه، وسيحتفظ لنفسه بالنقود الجديدة.
وهذا الموقف يغلب على مواقف أي إنسان، فهو مُقبِل دائماً على رَفْض أخذ السيء؛ وخائف دائماً على التفريط في الحَسَن.
والحق سبحانه يقول:
{ { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ .. } [الإسراء: 100].
وأنت لا تجد في الثمار تشابهاً، بل اختلافاً في الطَّعْم من نوع إلى نوع؛ كذلك تجد اختلافاً في طريقة تناولها؛ فلا أحد مِنَّا يأكل البلحة بكاملها، بل نأكل ثمرة البلحة بعد أن نُخرِج منها النواة؛ ونأكل ثمرة التين بأكملها، ونخرج ما في قلب حَبَّة المشمش من بذرة جامدة، ثم نأكل المشمشة من بعد ذلك.
فكل ثمرة لها نظام خاص؛ وليست مسألة ميكانيكية في عطاء الله لثمار متشابهة؛ بل هناك اختلاف، ويمتد هذا الاختلاف إلى أدقِّ التفاصيل؛ لدرجة أنك حين تتناول قِطْفاً من العنب تجد اختلافاً لبعض من حبَّات العنب عن غيرها.
ونحن لا نُفضِّل بعضاً من الفاكهة على البعض الآخر في الأُكُل فقط، بل نُفضِّل في الصنف الواحد بعضاً من ثماره عن البعض الآخر.
وحين تقرأ:
{ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ .. } [الرعد: 4].
فاعلم أنه لا يوجد شيء أو أمر مُفضّل على إطلاقه، وأمر آخر مفضول على إطلاقه، فما دُمْنَا نُفضِّل بعضه على البعض الآخر؛ فهذا يعني أن كلاً منهما مُفضَّل في ناحية، ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمثل الواضح أمامنا جميعاً أننا حين نجلس إلى مائدة عليها ديك رومي قد تجد يدك تتجه إلى طبق "المخلل" قبل أن تمتدّ يدك إلى الديك الرومي؛ لأن "نفسك" قد طلبتْه أولاً، فلا تَقُلْ: إن هناك شيئا مفضولاً عليه طوال الوقت، أو شيئاً مفضلاً كل الوقت.
وكذلك الناس؛ إياك أن تظن أن هناك إنساناً فاضلاً على إطلاقه؛ وآخر مفضولاً على إطلاقه؛ بل هناك إنسان فاضل في ناحية ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمَثَل: هو صاحب السيارة الفارهة؛ ثم ينفجر إطار سيارته؛ فيتمنى أن يرزقه الله بمَنْ يمرُّ عليه ليقوم بتغيير إطار السيارة؛ فيمرُّ عليه هذا الإنسان صاحب الملابس غير النظيفة بما عليها من شحوم؛ فيكون هذا الإنسان أفضل منه في قدرته على فَكِّ الإطار المنفجر بالإطار السليم الاحتياطي.
وهكذا نشر الله الفضل على الناس ليحتاج بعضهم لبعض؛ ولذلك أقول: حين تجد نفسك فاضلاً في ناحية إياك أنْ تقعَ في الغرور؛ واسأل نفسك: ما الذي يَفْضُل عليك فيه غيرك؟
وتذكر قول الحق سبحانه:
{ { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ .. } [الحجرات: 11].
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يُوزِّع الفضل بين الناس، ليحتاج كل منهم الآخر، وليتكامل المجتمع. وكذلك وَزَّع سبحانه الفضل في الأطعمة والفواكه والثمار، وانظر إلى نفسك لحظة أنْ تُقدَّم لك أصناف متعددة من الفاكهة؛ فقد تأخذ ثمرة من الجميز قبل أن تأخذ ثمرة من التفاح؛ فساعة طلبتْ نفسك ثمرة الجميز صارت في تقدير الموازين والتبادل هي الأفضل، وكل إنسان يمكن أن يجد ذلك فيما يَخصُّه أو يُحبه.
والحق سبحانه هو القائل:
{ { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد: 8].
ولذلك نجد الإنسان وهو يُلوِّن ويتفنَّن في صناعة الطعام، ويختلف إقبال الأفراد على الأطعمة المُنوَّعة، وقد تجد اثنين يُقبِلان على لحم الدجاج؛ لكن أحدهما يُفضِّل لحم الصدر؛ والآخر يُفَضِّل لحم "الوَرِك"، وتجد ثالثاً يُفضِّل لحم الحمام؛ وتجد رابعاً يفضل تناول السمك.
بل إنك تجد اختلافاً في طريقة تناول مَنْ يحبون السمك؛ فمنهم مَنْ يحب أكل رأس السمكة، ومنهم مَنْ يحب لحم السمكة نفسها، ولا أحد يملك معرفة السبب في اختلاف الأمزجة في الانجذاب إلى الألوان المختلفة من الأطعمة.
وحين تتأمل تلك المسائل قد يأتي إلى خاطرك قول الحق سبحانه:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ .. } [البقرة: 28].
والسؤال هنا من الله للتعجُّب؛ والتعجُّب عادة يكون من شيء خَفِي سببه، فهل يَخْفَى سبب على الله ليتعجب؟
طبعاً لا، فسبحانه مُنزَّه عن ذلك، وسبحانه يعلم سبب كفر الكافرين؛ لكنه ينكر عليهم أسباب الكفر.
والمثَلُ من حياتنا - ولله المَثَلُ الأعلى - فأنت تجد نفسك وأنت تنطق بكلمة "كيف تسُبّ أباك؟" لإنسان يوجه كلمات جارحة لوالده؛ فتتعجب لِتُنكِر ما فعله هذا الإنسان.
وكذلك القول: كيف تكفرون بالله؟ لأن الكفر شيء لا يتأتى من عاقل. وكان لنا شيخ هو فضيلة العالم أحمد الطويل؛ وكان يحدثنا عن شيخ له حين كان يقرأ قول الحق سبحانه:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ .. } [البقرة: 28].
كان يقول: إن الخطاب هنا عام لكل إنسان؛ لأن الحق بعدها يأتي بالقضية العامة:
{ { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ .. } [البقرة: 28].
وهذا القول للعموم. وكان شيخنا يحكي عن شيخه أنه حدَّثهم أن إنساناً كان مُسرِفاً على نفسه؛ ثم انصبَّتْ عليه الهداية مرة واحدة؛ ورآه كل مَنْ حوله وهو مُقْبِل على الله؛ فسألوه عن سبب الهداية، فقال:
كنت أجلس في بستان، ثم رَاقَ لي عنقود من العنب؛ فقطفتُ العنقود، وأخذتُ أتأمل فيه؛ فوجدت غِشاءً رقيقاً شفافاً - وهو قشرة حبة العنب - يشِفُّ عما تحته من لحم العنبة الممتلئ بالعصير.
وحين وضعتُ حبة العنب في فمي؛ صارت ماء رطباً، وأخذني العجب من احتفاظ حبة العنب ببرودتها ورطوبتها رغم حرارة جَوِّ شهر بؤونة؛ ثم وجدت بذرة الحبة ولها طَعْم المِسْك؛ فلما غمرني السرور من طَعْم وجمال العنب سمعت هاتفاً يهتف بي: "كيف تكفر بالله وهو خالق العنب؟" فهتفت: آن يا رب أن أُومن بك.
وكل مِنَّا له أن ينظر إلى شيء يعجبه؛ وسيجد الشيء كأنه يقول له: كيف تكفر بالله وهو خالقي؟ وهكذا سنجد كل إنسان وهو مُخاطب بهذه العبارة، لأنه ما من كائن إلا وله شيء يعجبه في الكون.
وهكذا نفهم معنى قول الحق سبحانه:
{ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ .. } [الرعد: 4].
ونجد أي شيء هو فاضل في وقت الحاجة إليه وطلبه؛ وكل شيء مَفْضُول عليه في وقت ما؛ وإنْ كان فاضلاً عند مَنْ يحتاجه. ونجد أن التفضيل هنا عند الأَكْل.
والأُكل هو ما يُؤكَل؛ لا الآن فقط إنما ما يؤكل الآن أو بعد ذلك وسبحانه القائل:
{ { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ .. } [البقرة: 265].
وسبحانه يقول أيضاً:
{ { أُكُلُهَا دَآئِمٌ .. } [الرعد: 35].
وكذلك قال:
{ { تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا .. } [إبراهيم: 25].
وهكذا نجد أن الأُكل مقصود به ما يُؤكل الآن، وما بعد الأكل أيضاً.
ويُذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 4].
وبعض الناس يظنون أن العقل يعني أنْ يمرحَ الإنسان في الأشياء، وأنه يعطي الإنسان الحرية المطلقة، ومثل هذا الظن خاطئ؛ لأن العقل جاء لِيُبصِّر الإنسانَ بعواقب كُلِّ فعل ونتائجه، فيقول للإنسان: "إياكَ أنْ يستهويك الأمر الفلاني لأن عاقبته وخيمة". ومن مادة العين والقاف واللام عقل. ويقال: عقلْتُ البعير.
ومن مهام العقل أنْ يُفرِز الأشياء، وأنْ يفكر فيها ليستخرج المطلوب، وأنْ يتدبر كل أمر، فعمليات العقل هي الاستقبال الإدراكي والبحث فيه لاستخلاص الحقائق والنتائج، وأن يتدبر الإنسان كل أمر كي يتجنب ما فيه من ضرر.
والمثل: هو ما توصَّل إليه بعضٌ من العلماء من اكتشاف لأدوية يستخدمونها لفترة ما، ثم يعلنون عن الاستغناء عنها؛ لأن آثارها الجانبية ضارة جداً؛ وهذا يعني أنهم لم يتدبروا الأمر جيداً؛ وخَطَوْا خطوات إلى ما ليس لهم به كامل العلم.
وقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 4].
نلحظ فيه توجيهاً بالتعاون بين العقول، لتبحث في آيات رَبِّ العقول؛ فلا يأخذ أحد قراراً بعقله فقط؛ بل يسمع أيّ مِنّا لرأي عقل ثانٍ وعقل ثالث ورابع؛ ليستطيع الإنسان تدبُّر ما يمكن أنْ يقع؛ ولتتكاتف العقول في استنباط الحقائق النافعة التي لا يتأتَّى منها ضرر فيما بعد؛ لأن من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ... }.