التفاسير

< >
عرض

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ
٥
-الرعد

خواطر محمد متولي الشعراوي

والعجب هو أن تُبدي دهشة من شيء لا تعرف سببه، وهذا التعجب لا يتأتَّى من الله؛ لأنه سبحانه يعلم كل شيء، فإذا صدر عجب من الله مثل قوله الحق: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ .. } [البقرة: 28].
فمعنى هذا أنه سبحانه يُنكِر أن يكفر الإنسان مع قيام الأدلة على الإيمان؛ لكن بعضاً من الناس - رغم ذلك - يكفر بالله.
وقول الحق سبحانه:
{ وَإِن تَعْجَبْ .. } [الرعد: 5].
هو خطاب مُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجّب من أنهم كانوا يُسمُّونه قبل أن يبعثه الله رسولاً بالصادق الأمين؛ وبعد ما جاءت الرسالة قالوا: إنه ساحر كذاب.
فكيف يكون صادقاً أميناً ببشريته وذاتيته؛ ثم إذا أمدّه الحق سبحانه بالمَدَد الرِّسَالي تتهمونه بالكذب؟ ألم يَكُنْ من الأجدر أنْ تقولوا إنه صار أكثر صِدْقاً؟ وهل من المُمْكن أن يكون صادقاً عندكم، ثم يكذب على الله؟
والتعجُّب أيضاً من أنهم أنكروا البعث من بعد الموت، رغم أنه سبحانه أوضح الأدلة على ذلك؛ ولكن المؤمنين وحدهم هم الذين استقبلوا أمر البَحْث بالتصديق؛ بمجرد أن أبلغهم به رسول الله مُبلِّغاً عن ربِّه.
ونجد الحقَّ سبحانه وتعالى قد احترم فُضُول العقل البشري، فأوضح سبحانه ذلك ونَصَبَ الأدلة عليه؛ وأبلغنا أنه لم يعجز عن الخَلْق الأول؛ لذلك لن يعجز عن البعث.
فقد جاء بنا سبحانه من عدم، وفي البعث سيأتي بنا من موجود، ومن الغباء إذنْ أن يتشكَّك أحد في البعث، والمُسْرِف على نفسه إنما يُنكِر البعث؛ لأنه لا يقدر على ضبْط النفس؛ ويظن أنه بإنكار البعث لن يَلْقَى المصير الأسود الذي سيلقاه في الآخرة.
ولذلك تجد المسرفين على أنفسهم يحاولون التشكيك في البعث ويأتي الحق سبحانه بتشكيكهم هذا في قَوْل الحق سبحانه:
{ { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ .. } [الجاثية: 24].
ولو أن الواحد منهم وضع مسألة البَعْث في يقينه لانصرف عن شهواته، بينما هو يريد أن ينطلق بالشهوات؛ ولذلك نجدهم يقولون:
{ { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ .. } [السجدة: 10].
وهم يقصدون بذلك أنهم بعد الموت سيصيرون تراباً، ويعودون إلى الأرض كعناصر وتراب تَذْروه الرياح، فكيف سيأتي بهم الله للبعث، ويُنشئهم من جديد؟
ويقول سبحانه:
{ { قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 78-79].
ومن الكافرين مَنْ قال: سنصير تراباً، ثم نختلط بالتربة، ويتم زراعة هذه التربة، فتمتزج عناصرنا بما تنبته الأرض من فواكه وخُضر وأشجار؛ ثم يأكل طفل من الثمرة التي تغذَّتْ بعناصرنا؛ فيصير بعضٌ مِنَّا في مكونات هذا الطفل؛ والقياس يُوضِّح أننا سوف نتناثر؛ فكيف يأتي بنا الله؟
كل ذلك بطبيعة الحال من وسوسة الشيطان ووحيه:
{ { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ .. } [الأنعام: 121].
وأقول: لنفترض أن إنساناً قد مرض؛ وأصابه هُزَال، وفقد ثلاثين كيلوجراماً من وزنه، وما نزل من هذا الوزن لا بُدَّ أنه قد ذهب إلى الأرض كعناصر اختلطتْ بها، ثم جاء طبيب قام بتشخيص الداء وكتب الدواء، وشاء الله لهذا المريض الشفاء واستردَّ وزنه، وعاد مرة أخرى لحالته الطبيعية؛ فهل الثلاثين كيلو جراماً التي استردَّها هي هي نفس الكمية بنوعيتها وخصوصيتها التي سبق أنْ فقدها؟ طبعاً لا.
وهكذا نفهم أن التكوين هو تكوين نسبيّ للعناصر، كذا من الحديد؛ كذا من الصوديوم؛ كذا من المغنسيوم؛ وهكذا.
إذن: فالجزاء في اليوم الآخر عملية عقلية لازمة، يقول الحق:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 28].
ما دام هناك أمر؛ وهناك نهي؛ وهناك منهج واضح يُبيِّن كل شيء. وإنْ كنت تعجبُ يا محمد من الكفار وما يثيرونه من أقضية، فَلَكَ أنْ تعجب لأنها أمور تستحق العجب.
والحق سبحانه حين يخاطب الخَلْق فهو يخاطبهم إمَّا في أمر يشكُّون فيه، أو في أمر لا يشكُّ فيه أحد.
والمَثَل من حياتنا - ولله المَثَلُ الأعلى - حين تخاطب أنت واحداً في أمر يَشُكُّ هو فيه؛ فأنت تحاول أن تؤكد هذا الأمر بكل الطرق، وهكذا وجدنا بعضاً من الناس ينكرون البعث والحساب؛ ووجدنا الحق سبحانه وتعالى يُذكِّرهم به عبر رسوله ويؤكده لهم.
وأيضاً خاطبهم الحق سبحانه فيما لم يَشكُّوا فيه؛ وهو الموت؛ وقال:
{ { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ .. } [آل عمران: 185].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"ما رأيت يقيناً أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت" .
فالموت يقين، ولكن لا أحد يحاول التفكير في أنه قادم، وسبحانه يقول: { { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } [المؤمنون: 15].
وهذا تأكيد لأمر يُجمع الناس على أنه واقع، لكنهم لغفلتهم عنه بَدَوْا كالمنكرين له، لذلك خاطبهم خطابَ المنكرين، ثم قال بعد ذلك:
{ { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 16].
ولم يَقُل: "ولتبعثون" لأن البعث مسألة لا تحتاج إلى تأكيد، وعدم التأكيد هنا آكد من التأكيد، لأن أمر الموت واضح جداً رغم الغفلة عنه، أما البعث فهو واقع لا محالة بحيث لا يحتاج إلى تأكيد.
والمثل من حياتنا - ولله المثل الأعلى - يذهب الإنسان إلى الطبيب؛ فيقول له الطبيب بعد الكشف عليه "اذهب فلن أكتب لك دواء". وهذا القول يعني أن هذا الإنسان في تمام الصحة؛ وكأن كتابة الدواء يحمل شبهة أن هناك مرضاً.
وكذلك الحق سبحانه يخاطب الخَلْق في الشيء الذي ينكرونه وعليه دليل واضح؛ فيأتي خطابه لهم بلا تأكيد؛ وهو يوضح بتلك الطريقة أنهم على غير حق في الإنكار، أما الشيء الذي يتأكدون منه وهم غافلون عنه؛ فهو يؤكده لهم؛ كي لا يغفلوا عنه.
وكذلك في القَسَم؛ فنجده سبحانه قد أقسم بالتين والزيتون؛ وأقسم بالقرآن الحكيم؛ وأقسم بغير ذلك، ونجده في مواقع أخرى يقول:
{ { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } [البلد: 1-3].
والعجيب أنه يأتي بجواب القسم، فيقول:
{ { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } [البلد: 4].
وقد يقول قائل: كيف يقول:
{ { لاَ أُقْسِمُ .. } [البلد: 1].
ثم يأتي بجواب القسم؟
وأقول: لقد جاء هنا بقوله:
{ { لاَ أُقْسِمُ .. } [البلد: 1].
وكأنه يُوضِّح ألاَّ حقَّ لكم في الإنكار؛ ولذلك ما كان يصحّ أنْ أقسم لكم، ولو كنت مُقْسِماً؛ لأقسمتُ بكذا وكذا وكذا.
وسبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ .. } [الرعد: 5].
وهو جَلَّ وعلا يُذكِّرهم بما كان يجب ألاَّ ينسوه؛ فقد خلقهم من تراب؛ وخلق التراب من عدم، وهو القائل:
{ { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق: 15].
إذن: فسبحانه يتعجب من أمر هؤلاء؛ ويزيد من العجب أنهم كذَّبوا محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن جرَّبوا فيه الصدق، ولمسوا منه الأمانة؛ وقالوا عنه ذلك من قبل أن يُبعث؛ وفوق ذلك أنكروا البعث مع قيام الدليل عليه.
ويصفهم الحق سبحانه:
{ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ .. } [الرعد: 5].
أي: أن هؤلاء المُكذِّبين لك يا محمد والمُنْكِرين للبعث لم يكفروا فقط بالله الذي أوجب التكليف العبادي؛ بل هم يكفرون بالربوبية التي تعطي المؤمن والكافر؛ والطائع والعاصي، وتأتمر بأمرها الأسباب لتستجيب لأيِّ مجتهد يتبع قوانين الاجتهاد، فيأخذ من عطاءات الربوبية؛ وهي عطاءات التشريف التي تضمن الرزق، بينما عطاءات الألوهية؛ هي تكليفاتٌ بالطاعة للأوامر التعبدية؛ الممثلة في "افعل" و"لا تفعل".
وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا بعد أنْ يبلغ الإنسان درجة النضج التي تؤهله؛ لأن ينجب مثيلاً له؛ وقد ترك الحق سبحانه كل إنسان يرتع في خير النعم التي أسبغها سبحانه على البشر، وكان على الإنسان أن يسعى إلى الإيمان فَوْر أن تصله الدعوة من الرسول المُبلِّغ عن الله؛ هذا الرسول المشهود له بالصدق والأمانة.
ولذلك نجد الحق سبحانه وهو يصف المنكرين للإيمان:
{ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ .. } [الرعد: 5].
ويضيف:
{ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } [الرعد: 5].
والغُّلّ: هو طَوْق الحديد الذي له طرف في كل يد لِيُقيدها؛ وطرف مُعلَّق في الرقبة لِيُقلل من مساحة حركة اليدين، ولمزيد من الإذلال.
وهم أصحاب النار؛ وكلمة "صاحب" تُطلق على مَنْ تعرفه معرفةً تروق كيانك وذاتك؛ فهناك مَنْ تصاحبه؛ وهناك مَنْ تصادقه؛ وهناك مَنْ تُؤاخيه؛ وهناك مَنْ تعرفه معرفة سطحية، ولا تقيم علاقة عميقة معه.
إن المعرفة مراتب، والصحبة تآلف وتجاذب بين اثنين؛ ومَنْ يصاحب النار فهو مَنْ تعشقه النار، ويعشق هو النار، ويجب كل منهما ملازمة الآخر؛ أَلاَ تقول النار لربها يوم القيامة:
{ { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ق: 30].
أي: أن العذاب نفسه يكون مَشُوقاً أنْ يصلَ إلى العاصي.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ ... }.