التفاسير

< >
عرض

وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ
٣٣
-إبراهيم

خواطر محمد متولي الشعراوي

والشمس آية نهارية؛ والقمر آية ليلية، والماء الذي نشربه له علاقة بالشمس والتي تُبخِّره من مياه البحار؛ ونروي به أيضاً الأرض التي تنتج لنا الثمار؛ أما البحار فحساب كُلِّ ما يجري فيها يتم حسب التقويم القمري.
وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك وهو النبي الأمي؟
طبعاً لم يكن ليعلم، بل أنزل الحق سبحانه عليه القرآن؛ يضمُّ حقائق الكون كلها.
وقول الحق سبحانه عن الشمس والقمر "دائبين" من الدَّأب، والدُّؤوب هو مرور الشيء في عمل رتيب، ونقول "فلان دَءُوب على المذاكرة" أي: أنه يبذل جَهْداً مُنظّماً رتيباً لتحصيل مواده الدراسية، ولا يبُدد وقته.
وكذلك الشمس والقمر اللذان أقام الحق سبحانه لهما نظاماً دقيقاً.
وعلى سبيل المثال نحن نحسب اليوم بأوله من الليل ثم النهار؛ ونقسم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة؛ ولذلك قال الحق سبحانه:
{ { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن: 5].
وقال أيضاً:
{ { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً .. } [الأنعام: 96].
أي: أنك أيها الإنسان ستجعل من ظهور واختفاء أيٍّ منهما حساباً.
وقد جعلهما الحق سبحانه على دقة في الحركة تُيسِّر علينا أن نحسبَ بهما الزمن، فلا اصطدامَ بينهما، ولكلِّ منهما فَلَك خاص وحركة محسوبة بدقة فلا يصطدمان. ولا يُشْبِهان بطبيعة الحال الساعات التي نستخدمها وتحتاج إلى ضبط.
وكلما ارتقينا في صناعة نجد اختراعاتنا فيها تُقرِّبنا من عُمْق الإيمان بالخالق الأعلى.
وفي نفس الآية يقول الحق سبحانه:
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } [إبراهيم: 33].
وبما أن الشمس آية نهارية؛ والقمر آية ليلية، والنهار يسبق الليل في الوجود بالنسبة لنا. كان مُقْتضى الكلام أن يقول: سخر لكم النهار والليل.
ولكن الحق سبحانه أراد أن يُعلمنا أن القمر وهو الآية الليلية؛ ويسطع في الليل؛ والليل مخلوق للسكون؛ لكن هذا السكون ليس سبباً لوجود الإنسان على الأرض؛ بل السبب هو أن يتحرك الإنسان ويستعمر الأرض ويكِدّ ويكدح فيها.
لذلك جعل استهلال الشمس أولاً والقمر يستمد ضَوْءَه منها؛ ثم جاء بخبر الليل وخبر النهار، فكأن الله قد اكتنفَ هذه الآية بنوريْن.
النور الأول: من الشمس. والنور الثاني: من القمر، كي يعلَم الإنسانُ أن حياته مُغلفة تغليفاً يتيح له الحركة على الأرض، فلا تظننّ أيها الإنسانُ أن الأصل هو النوم! ذلك أنه سبحانه قد خلق النوم لترتاح؛ ثم تصحو لتكدح.
ونلحظ أن كلمة "التسخير" تأتي للأشياء الجوهرية، وتأتي للمُسخَّرات أيضاً، فالحيوان مُسخَّر لنا، وكذلك النبات والسماء مُسخَّرة بما فيها لنا، أما الليل والنهار فهما نتيجتان لجواهر؛ هما الشمس والقمر؛ والليل والنهار مُسبَّبان عن شيئين مُباشرين هما: الشمس والقمر.
والتسخير - كما نعلم - هو منع الاختيار. وإذا ما سَخَّر الحق سبحانه شيئاً فلنعلم أنه مُنضبط ولا يتأتّى فيه اختلال، ولكن الكائن غير المُسخّر هو الذي يتأتى فيه الاختلال؛ ذلك أنه قد يسير على جَادَّة الصواب، أو قد يُخطيء.
وفي مسألة التسخير والاختيار تَعِب الفلاسفة في دراستها؛ وذهبت المذاهب الفلسفية - وخصوصاً في ألمانيا - إلى مذهبين اثنين ظاهرهما التعارض؛ ولكنهما يسيرانِ إلى غايةٍ واحدة وهي تبريرُ الإلحاد.
وكان من المقبول أن يكونَ مذهبٌ يُبرر الإلحاد، وأنْ يبررَ الآخرُ الإيمانَ، ولكن شاء فلاسفة المذهبين أنْ يُبرروا الإلحاد.
وقال فلاسفة أحد المذهبين: أنتم تقولون إن الكون تُديره قوة قادرة حكيمة؛ وأن كُلّ ما فيه منضبط بتصرفات محسوبة ودقيقة.
ولكن الواقع يقول: إن هناك بعضاً من المخالفات التي نراها في الكائنات، والمثل هو تلك الشذوذات التي في الإنسان - على سبيل المثال - فهناك القصير أكثر من اللازم؛ وهناك الطويل أكثر من اللازم؛ وهناك مَنْ يولد بعين واحدة؛ وهناك مَنْ يولد بذراع عاجز؛ ولو أن القوة التي تدير الكون حكيمة لَمَا ظهرتْ أمثال تلك الشذوذات.
ونرد على صاحب تلك النظرية قائلين: وإذا لم يكُنْ هناك إله، أتستطيع أن تقول لنا الحكمة من وراء وجود تلك الشذوذات؟ فأنت تدفع الحكمة عن الخالق الذي نؤمن به؛ فهل تستطيع أنت إثباتَ الحكمة لغيره؟ طبعاً لن يستطيع أنْ يردَّ عليك؛ لأن كلامه مردود.
ثم نأتي للمدرسة المقابلة التي تقول: إن النظام الموجود بالكون يدل على أنه لا يوجد له خالق؛ فهو نظام ثابت آليّ؛ ولا يوجد إله قادر على أن يقلب آلية هذا الكون.
وهكذا كانت هاتان المدرستان مختلفتين؛ ومتعارضتين؛ ولكنهما يؤديان إلى الإلحاد.
ونرد على المدرستين قائلين: يا من تأخذ ثبات النظام دليلاً على وجود إله؛ فهذا الثبات موجود في الكون الأعلى. ويا من تأخذ الشذوذ دليلاً على وجود خالق؛ فهو موجود في الكائنات الأدنى؛ ولو حدث الشذوذ في الكائنات الأعلى لَفسدتِ السماوات والأرض.
وقد شاء الحق سبحانه أن يوجد الشذوذ لوجه في الأفراد؛ فواحد يكون شاذاً؛ والباقي الغالب يكون سليماً.
وهكذا يكون الشذوذ في الأفراد غيرَ مانع لقضية وجود خالق أعلى، وإذا أردت ثبات النظام فانظر إلى الكون الأعلى؛ كي تعلم أنه لا يوجد للإنسان مَدْخل في هذا الأمر.
وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد سخّر لنا الليل والنهار؛ وهما من الأعراض الناتجة عن تسخير الشمس والقمر؛ وكلاً من الشمس والقمر دائبين، يمشي كل منهما في حركته مشياً لا تنقطع فيه رتابة العادة. ونضبط أوقاتنا على هذا النظام الرتيب الدقيق، فنحدد - على سبيل المثال - أوائل الفصول ومواسم الزراعة؛ ومواقيت الصلاة.
وإذا نظرتَ إلى أيِّ اختلال قد ينشأ من بعض الظواهر؛ فاعلم أن ذلك قد نشأ من تدخُّل الإنسان المُخْتار المُسْتخلفَ في الأرض؛ والمثال هو مشكلة ثُقْب طبقة الأوزون الموجودة في الغلاف الجوي، والتي قد نشأت من تجاربنا التي نلهث فيها من أجل تحسين حياتنا على الأرض.
ولكننا ننظر إلى التجربة بأفْق محدود، ونفصل النظرة الجزئية عن النظرة الكلية المطلوب منا أنْ ننظرَ بها لكُل ما يحيط بنا في الكون؛ فنتسبب بهذا اللهْث في التجارب في إفساد الكثير من أسرار حياتنا على الأرض؛ حتى بِتْنَا نشكو من اضطراب الجو بَرْداً وصقيعاً؛ وحراً فوق الاحتمال.
وذلك بتدخّل الإنسان المختار فيما لا يجب أنْ يتدخلَ فيه إلا بعد أن يدرسَ كل جوانبه. واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه:
{ { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ .. } [الروم: 41].
ولذلك لا بُدَّ من دراسة المُقدّمات والنتائج جيداً قبل أن نُضخِّم من تجاربنا التي قد تضر البشر؛ ولذلك أيضاً أقول: إن علينا أن ندرس الآثار الجانبية لكل اختراع علمي كي نحميَ البشر من سيئات تلك الآثار الجانبية.
ولنتذكر قول الحق سبحانه:
{ { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .. } [الإسراء: 36].
ولعل ما نعيش فيه من مُشْكِلات تتعلق بالجو والصحة هو نتيجة تدخُّلنا بغير علم مكتمل؛ وهذا يؤكد لنا حكمة الخالق الأعلى؛ ذلك أننا لمّا خرجنا بالمُخْترعات العلمية وانبهرنا بفائدتها السطحية؛ ظننا أن في ذلك مكسباً كبيراً؛ ولكنه كان وبالاً في بعض الأحيان نتيجة الآثار الجانبية.
ولذلك لم يَقُلِ الحق سبحانه: "بما اكتسبت أيدي الناس" بل قال:
{ { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ .. } [الروم: 41].
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
{ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } [إبراهيم: 33].
وهكذا نعلم أن تعاقب ظهور الشمس والقمر؛ يُسبِّب تعاقبَ مجيء الليل والنهار.
ولا يعني ظهور الشمس وسطوعها أن القمر غير موجود؛ فهو موجود، ولكن ضوء الشمس المُبهِر يمنعك من أنْ تراه، ولكن هناك أوقات يمكنك أن ترى فيها الشمس والقمر معاً.
أما الليل والنهار فهما يتتابعان كل منهما خَلْف الآخر. والحق سبحانه هو القائل:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً .. } [الفرقان: 62].
أي: أنهما لا يأتيان معاً أبداً؛ فالليل في بلد ما يقابله نهار في بلد آخر.
وهكذا أثبتَ لنا الدأبَ في الحركة؛ فكُلٌّ منهما يأتي عَقِب الآخر؛ وقد جعل الحق سبحانه ذلك من أول لحظة في الخَلْق؛ وكانا لحظة الوجود خِلفْة، كل منهما يأتي من بعد الآخر؛ فكأن الكون حين خلقه الله؛ وجعل الشمس في مواجهة الأرض، صار الجزء المواجه للشمس نهاراً؛ والجزء غير المواجه لها صار ليلاً.
ثم دارت الأرض؛ ليأتي الجزء الذي كان غير مُواجِه للشمس؛ في مواجهتها؛ فصار ليلاً، وذهب الجزء الذي كان في مواجهتها، ليكون مكان الجزء الآخر فصار ليلاً، وهكذا شاء سبحانه أن يكون كل منهما خَلْف الآخر.
وهكذا تكلم الحق سبحانه عن حَصْر بعضٍ من نعمه الكلية علينا نحن العباد، سماء، وأرض، وماء ينزل، وثمرات تنبت من الأرض، وكذلك سخَّر لنا الشمس والقمر، والليل والنهار، وهذا ما يُسمَّى تعديد لبعض النعم.
ونجد واحداً من الصالحين يقول عن نعم الله "أَعد منها ولا أعددها". فكأن الله ينبهنا إلى أصول النظام الكوني الأعلى، ثم فتح المجالِ لِنعَمٍ أخرى لن يستطيع أحد أنْ يُحصِيها.
لذلك يقول سبحانه من بعد ذلك:
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ... }.