التفاسير

< >
عرض

رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ
٢
-الحجر

خواطر محمد متولي الشعراوي

و"رُبَّ" حرف يستعمل للتقليل، ويُستعمل أيضاً للتكثير على حَسْب ما يأتي من بعده، وهو حَرْفٌ الأصل فيه أن يدخلَ على المفرد. ونحن نقول "رُبَّ أخٍ لك لم تلدْه أمك" وذلك للتقليل، مثلما نقول "ربما ينجح الكسول".
ولكن لو قُلْنا "ربما ينجح الذكي" فهذا للتكثير، وفي هذا استعمال للشيء في نقيضه، إيقاظاً للعقل كي ينتبه.
وهنا جاء الحق سبحانه:
بـ"رُب" ومعها حرف "ما" ومن بعدهما فعل. ومن العيب أن تقول: إن "ما" هنا زائدة؛ ذلك أن المتكلم هو ربُّ كل العباد.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [الحجر: 2].
فهل سيأتي وقت يتمنى فيه أهل الكفر أنْ يُسلموا؟ إن "يودّ" تعني"يحب" و"يميل" و"يتمنى"، وكل شيء تميل إليه وتتمناه يسمى "طلب".
ويقال في اللغة: إن طلبت أمراً يمكن أن يتحقق، ويمكن ألاّ يتحقق؛ فإنْ قُلْتَ: "يا ليت الشبابَ يعود يوماً" فهذا طَلبٌ لا يمكن أن يتحققَ؛ لذلك يُقال إنه "تمني". وإنْ قلت "لعلِّي أزور فلاناً" فهذا يُسمّى رجاء؛ لأنه من الممكن أن تزور فلاناً. وقد تقول: "كم عندك؟" بهدف أن تعرف الصورة الذهنية لمَنْ يجلس إليه مَنْ تسأله هذا السؤال، وهذا يُسمّى استفهاماً.
وهكذا إنْ كنت قد طلبتَ عزيزاً لا يُنال فهو تمنٍّ؛ وإن كنت قد طلبتَ ما يمكن أن يُنَال فهو الترجيّ، وإن كنتَ قد طلبتَ صورته لا حقيقته فهو استفهام، ولكن إنْ طلبت حقيقة الشيء؛ فأنت تطلبه كي لا تفعل الفعل.
والطلب هنا في هذه الآية؛ يقول:
{ رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [الحجر: 2].
فهل يتأتَّى هذا الطلب؟
وَلْنَر متى يودُّون ذلك. إن ذلك التمنِّي سوف يحدث إنْ وقعتْ لهم أحداثٌ تنزع منهم العناد؛ فيأخذون المسائل بالمقاييس الحقيقية.
والحق سبحانه هو القائل:
{ { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً .. } [النمل: 14].
وقد حدث لهم حين وقعت غزوة بدر، ونال منهم المسلمون الغنائم أنْ قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، وأخذنا تلك الغنائم.
أي: أن هذا التمنِّي قد حدث في الدنيا، ولسوف يحدث هذا عند موت أحدهم.
يقول الحق سبحانه:
{ { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ .. } [المؤمنون: 100].
ويعلق الحق سبحانه على هذا القول:
{ { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا .. } [المؤمنون: 100].
وسيتمنون أيضاً أن يكونوا مسلمين، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12].
إذن: فسيأتي وقت يتمنّى فيه الكفار أن يكونوا مسلمين، إذَا مَا عاينوا شيئاً ينزع منهم جحودهم وعنادهم، ويقول لهم: إن الحياة التي كنتم تتمسَّكون بها فانية؛ ولكنكم تطلبون أن تكونوا مسلمين وقت أنْ زال التكليف، وقد فات الأوان.
ويكفي المسلمين فَخْراً أن كانوا على دين الله، واستمسكوا بالتكليف، ويكفيكم عاراً أنْ خَسِرْتم هذا الخسران المبين، وتتحسروا على أنكم لم تكونوا مسلمين.
وفي اليوم الآخر يُعذِّب الحق سبحانه العصاة من المسلمين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم، ولم يستغفروا الحق سبحانه، أو ممَّنْ لم يغفر لهم سبحانه وتعالى ذنوبهم؛ لعدم إخلاص النية وحُسْن الطوية عند الاستغفار، ويدخل في ذلك أهل النفاق مصداقاً لقوله تعالى:
{ { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ .. } [التوبة: 80].
فيدخلون النار ليأخذوا قدراً من العذاب على قدر ما عَصَوْا وينظر لهم الكفار قائلين:
ما أغنتْ عنكم لا إله إلا الله شيئاً، فأنتم معنا في النار.
ويطلع الحق سبحانه على ذلك فيغار على كل مَنْ قال لا إله إلا الله؛ فيقول: أخرجوهم وطهِّروهم وعُودوا بهم إلى الجنة، وحينئذ يقول الكافرون: يا ليتنا كنا مسلمين، لنخرج من النار، ونلحق بأهل الجنة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ ... }.