التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
٢
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

في الآية الثانية من سورة البقرة وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأنه الكتاب. وكلمة (قرآن) معناها أنه يُقرأ، وكلمة (كتاب) معناها أنه لا يحفظ فقط في الصدور، ولكن يُدوّن في السطور، ويبقى محفوظاً إلى يوم القيامة، والقول بأنه الكتاب، تمييز له عن كل كتب الدنيا، وتمييز له عن كل الكتب السماوية التي نزلت قبل ذلك، فالقرآن هو الكتاب الجامع لكل أحكام السماء، منذ بداية الرسالات حتى يوم القيامة، وهذا تأكيد لارتفاع شأن القرآن وتفرده وسماويته ودليل على وحدانية الخالق، فمنذ فجر التاريخ، نزلت على الأمم السابقة كتب تحمل منهج السماء، ولكن كل كتاب وكل رسالة نزلت موقوتة، في زمانها ومكانها، تؤدي مهمتها لفترة محددة وتجاه قوم مُحدَّدين.
فرسالة نوح عليه السلام كانت لقومه، وكذلك إبراهيم ولوط وشعيب وصالح عليهم السلام .. كل هذه رسالات كان لها وقت محدود، تمارس مهمتها في الحياة، حتى يأتي الكتاب وهو القرآن الكريم الجامع لمنهج الله سبحانه وتعالى. ولذلك بُشر في الكتب السماوية التي نزلت قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام بأن هناك رسولاً سيأتي، وأنه يحمل الرسالة الخاتمة للعالم، وعلى كل الذين يصدقون بمنهج السماء أن يتبعوه .. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ .. } [الأعراف: 157].
والقرآن هو الكتاب، لأنه لن يصل إليه أي تحريف أو تبديل، فرسالات السماء السابقة ائتمن الله البشر عليها، فنسوا بعضها، وما لم ينسوه حرفوه، وأضافوا إليه من كلام البشر، ما نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى ظلماً وبهتاناً، ولكن القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، مصداقاً لقوله تعالى:
{ { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
ومعنى ذلك ألا يرتاب انسان في هذا الكتاب، لأن كل ما فيه من منهج الله محفوظ منذ لحظة نزوله إلى قيام الساعة بقدرة الله سبحانه وتعالى:
يقول الحق جل جلاله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2].
والإِعجاز الموجود في القرآن الكريم هو في الأسلوب وفي حقائق القرآن وفي الآيات وفيما رُوِيَ لنا من قصص الأنبياء السابقين، وفيما صحح من التوراة والإنجيل، وفيما أتى به من علم لم تكن تعلمه البشرية وما زالت حتى الآن لا تعلمه، كل ذلك يجعل القرآن لا ريب فيه، لأنه لو اجتمعت الإنس والجن ما استطاعوا أن يأتوا بآية واحدة من آيات القرآن، ولذلك كلما تأملنا في القرآن وفي أسلوبه، وجدنا أنه بحق لا ريب فيه، لأنه لا أحد يستطيع أن يأتي بآية، فما بالك بالقرآن.
فهذا الكتاب ارتفع فوق كل الكتب، وفوق مدارك البشر، يوضح آيات الكون، وآيات المنهج، وله في كل عصر معجزات. إن كلمة الكتاب التي وصف الله سبحانه وتعالى بها القرآن تمييزاً له عن كل الكتب السابقة، تلفتنا إلى معان كثيرة، تحدد لنا بعض أساسيات المنهج التي جاء هذا الكتاب ليبلغنا بها. وأول هذه الأساسيات، أن نزول هذا الكتاب، يستوجب الحمد لله سبحانه وتعالى. واقرأ في سورة الكهف:
{ { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } [الكهف: 1-2].
ويلفت الله سبحانه وتعالى عباده الى أن إنزاله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم يستوجب الحمد من البشر جميعاً، لأن فيه منهج السماء، وفيه الرحمة من الله لعباده، وفيه البشارة بالجنة والطريق إليها، وفيه التحذير من النار وما يقود إليها، وهذا التحذير أو الإنذار هو رحمة من الله تعالى لخلقه. لأنه لو لم ينذرهم لفعلوا ما يستوجب العذاب، ويجعلهم يخلدون في عذاب أليم. ولكن الكتاب الذي جاء ليلفتهم إلى ما يغضب الله، حتى يتجنبوه، إنما جاء برحمة تستوجب الحمد، لأنها أرتنا جميعاً، الطريق الى النجاة من النار، ولو لم ينزل الله سبحانه وتعالى الكتاب، ما عرف الناس المنهج الذي يقودهم الى الجنة، وما استحق أحد منهم رضا الله ونعيمه في الآخرة.
وفي سورة الكهف، نجد تأكيداً آخر .. إن كتاب الله، وهو القرآن الكريم لن يستطيع بشر أن يبدل منه كلمة واحدة، واقرأ قوله جل جلاله:
{ { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } [الكهف: 27].
ويبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب، جاء لنفع الناس، ولنفع العباد، وأن الله ليس محتاجاً لخلقه، فهو قادر على أن يقهر من يشاء على الطاعة، ولا يمكن لخلق من خلق الله أن يخرج من كون الله عن مرادات الله، واقرأ قوله سبحانه وتعالى:
{ { طسۤمۤ * تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 1-4].
ويأتي الله سبحانه وتعالى بالقسم الذي يلفتنا الى أن كل كلمة من القرآن هي من عند الله، كما أبلغها جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه:
{ { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الواقعة: 75-80].
ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى ذلك الكتاب الذي هو منهج للإنسان على الأرض، فبعد أن بيَّن لنا جل جلاله، بما لا يدع مجالاً للشك أن الكتاب منزل من عنده، وأنه يصحح الكتب السابقة كالتوراة، والإنجيل والتي أئتمن الله عليها البشر، فحرفوها وبدلوها، وهذا التحريف أبطل مهمة المنهج الإلهي بالنسبة لهذه الكتب، فجاء الكتاب الذي لم يصل إليه تحريف ولا تبديل، ليبقى منهجاً لله، إلى أن تقوم الساعة. أول ما جاء به هذا الكتاب هو إيمان القمة، بأنه لا إله إلا الله الواحد الأحد .. والله سبحانه وتعالى يقول:
{ { الۤمۤ * ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [آل عمران: 1-3].
وهكذا نعرف ان الكتاب نزل ليؤكد لنا، ان الله واحد أحد، لا شريك له، وأن القرآن يشتمل على كل ما تضمنته الشرائع السماوية من توراة وإنجيل، وغيرها من الكتب.
فالقرآن نزل ليُفَرِّقَ بين الحق الذي جاءت به الكتب السابقة، وبين الباطل الذي أضافه أولئك الذين ائتمنوا عليها.
ثم يحدد الحق تبارك وتعالى لنا مهمتنا في أن هذا الكتاب مطلوب أن نبلغه للناس جميعاً، واقرأ قوله سبحانه:
{ { الۤمۤصۤ * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 1-2].
فالخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، يتضمن خطاباً لأمته جميعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم كُلِّف بأن يُبَلِّغَ الكتاب للناس، ونحن مكلفون بأن نتبع المنهج نفسه ونبلغ ما جاء في القرآن للناس حتى يكون الحساب عدلاً، وأنهم قد بلغوا منهج الله، ثم كفروا به أو تركوه، إذن فإبلاغ الكتاب من المهمات الأساسية التي حددها الله سبحانه وتعالى بالنسبة للقرآن.
والكتاب فيه رد على حجج الكفار وأباطيلهم. واقرأ قول الله تبارك وتعالى:
{ { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } [يونس: 1-2].
وفي هذه الآيات الكريمة: يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى حقيقتين .. الحقيقة الأولى هي إن الكفار يتخذون من بشرية الرسول حُجة بأن هذا الكتاب ليس من عند الله. وكان الرد هو: إن كل الرسل السابقين كانوا بشراً، فما هو العجب في أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً بشراً. واللفتة الثانية هي إن هذا القرآن مكتوب بالحروف نفسها التي خلقها الله لنا لنكتب بها، ومع ذلك فإن القرآن الكريم نزل مستخدماً لهذه الحروف التي يعرفها الناس جميعاً، معجزاً في ألا يستطيع الإنس والجن، مجتمعين أن يأتوا بسورة واحدة منه. ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى لفتة اخرى إلى أن هذا الكتاب محكم الآيات، ثم بَيَّنَهُ الله لعباده، واقرأ قوله جل جلاله في سورة هود:
{ { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [هود: 1-2].
هذه هي بعض الآيات في القرآن الكريم، التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا فيها إلى معنى الكتاب، فآياته من عند الله الحكيم الخبير، وكل آية فيها إعجاز مُتَحدَّي به الإنس والجن، وهذا الكتاب لابد أن يبلغ للناس جميعاً، فالكتاب ينذرهم ألا يعبدوا إلا الله، ليكون الحساب عدلاً في الآخرة، فمَنْ أنذر وأطاع كان له الجنة، ومَنْ عصى كانت له النار والعياذ بالله.
ثم يلفتنا الله إلى أن هذا الكتاب فيه قصص الأنبياء السابقين منذ آدم عليه السلام، يقول جل جلاله:
{ { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ * إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [يوسف:1-3].
وهكذا نجد أن القرآن الكريم، قد جاء ليقص علينا أحسن القصص بالنسبة للأنبياء السابقين، والأحداث التي وقعت في الماضي، ولم يأت القرآن بهذه القصص للتسلية أو للترفيه، وإنما جاء بها للموعظة ولتكون عبرة إيمانية، ذلك أن القصص القرآني يتكرر في كل زمان ومكان. ففرعون هو كل حاكم طغى في الأرض، ونصب نفسه إلهاً، وقارون هو كل مَنْ أنعم الله عليه فنسب النعمة إلى نفسه، وتكبر وعصى الله، وقصة يوسف هي قصة كل إخوة حقدوا على أخ لهم، وتآمروا عليه، وأهل الكهف هم كل فتية آمنوا بربهم، فنشر الله لهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ما عدا قصة واحدة هي قصة مريم وعيسى عليهما السلام، فهي معجزة لن تتكرر ولذلك عرَّف الله سبحانه وتعالى أبطالها، فقال عيسى بن مريم وقال مريم ابنة عمران.
والكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى فيه لفتة الى آيات الله في كونه. واقرأ قوله تعالى:
{ { الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ * ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [الرعد: 1-2].
وهكذا بيَّن لنا الله في الكتاب آياته في الكون ولفتنا إليها، فالسماء مرفوعة بغير عمد نراها، والشمس والقمر مسخران لخدمة الإنسان، وهذه كلها آيات لا يستطيع أحد من خلق الله أن يدعيها لنفسه أو لغيره، فلا يوجد حتى يوم القيامة مَنْ يستطيع أن يدَّعي أنه رفع السماء بغير عمد، أو أنه خلق الشمس والقمر وسخرهما لخدمة الإنسان. ولو تدبر الناس في آيات الكون لآمنوا ولكنهم في غفلة عن هذه الآيات. ثم يحدد الحق سبحانه وتعالى مهمة هذا الكتاب وكيف أنه رحمة للناس جميعاً، فيقول جل جلاله:
{ { الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ * ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [إبراهيم: 1-2].
أي أن مهمة هذا الكتاب هي أن يخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والشرك إلى نور الإيمان، لأن كل كافر مشرك تحيط به ظلمات، يرى الآيات فلا يبصرها، ويعرف أن هناك حساباً وآخرة ولكنه ينكرهما، ولا يرى إلا الحياة الدنيا القصيرة غير المأمونة في كل شيء، في العمر والرزق والمتعة، ولو تطلع إلى نور الإيمان، لرأى الآخرة وما فيها من نعيم أبدي ولَعَمِلَ من أجلها، ولكن لأنه تحيط به الظلمات لا يرى .. والطريقُ لأن يرى هو هذا الكتاب، القرآن الكريم لأنه يخرج الناس إذا قرأوه من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الحقيقة واليقين. وبيَّن الحق سبحانه وتعالى أن الذين يلتفتون إلى الدنيا وحدها، هم كالأنعام التي تأكل وتشرب، بل إن الأنعام أفضل منهم، لأن الأنعام تقوم بمهمتها في الحياة، بينما هم لا يقومون بمهمة العبادة، فيقول الحق تبارك وتعالى:
{ { الۤرَ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر: 1-3].
هكذا يخبرنا الحق أن آيات كتابه الكريم ومنهجه لا تؤخذ بالتمني، ولكن لابد أن يعمل بها، وأن الذين كفروا في تمتعهم بالحياة الدنيا لا يرتفعون فوق مرتبة الأنعام، وأنهم يتعلقون بأمل كاذب في أن النعيم في الدنيا فقط، ولكن الحقيقة غير ذلك وسوف يعلمون.
وهكذا بعد أن تعرضنا بإيجاز لبعض الآيات التي ورد فيها ذكر الكتاب أنه كتاب يبصرنا بقضية القمة في العقيدة وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله.
وهو بهذا يخرج الناس من الظلمات الى النور. ويلفتهم إلى آيات الكون .. وليعرفوا أن هناك آخرة ونعيماً أبدياً وشقاء أبدياً، وليقيم الدليل والحجة على الكافرين، وأن قوله تعالى: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ .. } [البقرة: 2] يحمل معنى التفوق الكامل الشامل على كل ما سبقه من كتب. وأنه سيظل كذلك حتى قيام الساعة ولذلك وصفه الحق تبارك وتعالى بأنه "كتاب" ليكون دليلاً على الكمال.
ولابد أن نعرف أن { ذَلِكَ .. } [البقرة: 2] ليست كلمة واحدة .. وإنما هي ثلاث كلمات .. "ذا" إسم إشارة .. "واللام" تدل على الابتعاد ورفعة شأن القرآن الكريم، و"ك" لمخاطبة الناس جميعاً بأن القرآن الكريم له عمومية الرسالة إلى يوم القيامة.
ونحن عندما نقرأ سورة البقرة نستطيع أن نقرأ آيتها الثانية بطريقتين .. الطريقة الأولى أن نقول { الۤمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ .. } [البقرة: 1-2] ثم نصمت قليلاً ونضيف: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] والطريقة الثانية أن نقول: { الۤمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ .. } [البقرة: 2] ثم نصمت قليلاً ونضيف: { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] وكلتا الطريقتين توضح لنا معنى "لا ريب" أي: لا شك .. أو نفي للشك وجزم مطلق أنه كتاب حكيم منزل من الخالق الأعلى. وحتى نفهم المنطلق الذي نأخذ منه قضايا الدين، والتي ستكون دستورنا في الحياة، فلابد أن نعرف ما هو الهدى ومَنْ هم المتقون؟ الهدى هو الدلالة على طريق يوصلك إلى ما تطلبه. فالإشارات التي تدل المسافر على الطريق هي هدى له لأنها تبين له الطريق الذي يوصله إلى المكان الذي يقصده .. والهدى يتطلب هادياً ومهدياً وغاية تريد أن تحققها. فإذا لم تكن هناك غاية أو هدف فلا معنى لوجود الهدى لأنك لا تريد أن تصل إلى شيء .. وبالتالي لا تريد مَنْ أحد أن يدلك على طريق. إذن لابد أن نوجد الغاية أولا ثم نبحث عمَّنْ يوصلنا اليها.
وهنا نتساءل: مَنْ الذي يحدد الهدف ويحدد لك الطريق للوصول إليه؟ إذا أخذنا بواقع حياة الناس، فإن الذي يحدد لك الهدف لابد أن تكون واثقاً من حكمته .. والذي يحدد لك الطريق لابد أن يكون له من العلم ما يستطيع به أن يدلك على أقصر الطرق لتصل إلى ما تريد.
فإذا نظرنا إلى الناس في الدنيا نجد أنهم يحددون مطلوبات حياتهم ويحددون الطريق الذي يحقق هذه المطلوبات .. فالذي يريد أن يبني بيتاً مثلاً يأتي بمهندس يضع له الرسم، ولكن الرسم قد يكون قاصراً على أن يحقق الغاية المطلوبة فيظل يُغَيِّر ويُبدِّل فيه. ثم يأتي مهندس على مستوى أعلى فيضع تصوراً جديداً للمسألة كلها .. وهكذا يكون الهدف متغيراً وليس ثابتاً.
وعند التنفيذ قد لا توجد المواد المطلوبة فنغير ونبدل لنأتي بغيرها ثم فوق ذلك كله قد تأتي قوة أعلى فتوقف التنفيذ أو تمنعه. إذن، فأهداف الناس متغيرة تحكمها ظروف حياتهم وقدراتهم: والغايات التي يطلبونها لا تتحقق لقصور علم البشر وإمكاناته.
إذن، فكلنا محتاجون إلى كامل العلم والحكمة ليرسم لنا طريق حياتنا .. وأن يكون قادراً على كل شيء، ومالكا لكل شيء، والكون خاضع لإرادته حتى نعرف يقينا أن ما نريده سيتحقق، وأن الطريق الذي سنسلكه سيوصلنا إلى ما نريده. وينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى هذه القضية فيقول:
{ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ .. } [البقرة: 120].
إن الله يريد أن يلفت خلقه ألى أنهم إذا أرادوا أن يصلوا إلى الهدف الثابت الذي لا يتغير فليأخذوه عن الله. وإذا أرادوا أن يتبعوا الطريق الذي لا توجد فيه أي عقبات أو متغيرات .. فليأخذوا طريقهم عن الله تبارك وتعالى .. إنك إذا أردت باقياً .. فخذ من الباقي، وإذا أردت ثابتاً .. فخذ من الثابت. ولذلك كانت قوانين البشر في تحديد أهدافهم في الحياة وطريقة الوصول إليها قاصرة .. علمت أشياء وغابت عنها أشياء .. ومن هنا فهي تتغير وتتبدل كل فترة من الزمان.
ذلك أن مَنْ وضع القوانين من البشر له هدف يريد أن يحققه، ولكن الله جل جلاله لا هوى له .. فإذا أردت أن تحقق سعادة في حياتك، وأن تعيش آمنا مطمئناً .. فخذ الهدف عن الله، وخذ الطريق عن الله. فإن ذلك ينجيك من قلق متغيرات الحياة التي تتغير وتتبدل. والله قد حدد لخلقه ولكل ما في كونه أقصر طريق لبلوغ الكون سعادته. والذين لا يأخذون هذا الطريق يتعبون أنفسهم ويتعبون مجتمعهم ولا يحققون شيئاً.
إذن، فالهدف يحققه الله لك، والطريق يبينه الله لك .. وما عليك إلا أن تجعل مراداتك في الحياة خاضعة لما يريده الله.
ويقول الله سبحانه وتعالى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] .. ما معنى المتقين؟ متقين جمع مُتَّقٍ. والاتقاء من الوقاية .. والوقاية هي الاحتراس والبعد عن الشر .. لذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ .. } [التحريم: 6].
أي اعملوا بينكم وبين النار وقاية. احترسوا من أن تقعوا فيها .. ومن عجيب أمر هذه التقوى أنك تجد الحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم - والقرآن كله كلام الله -
{ { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ .. } [البقرة: 278].
ويقول:
{ { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ .. } [البقرة: 24]. كيف نأخذ سلوكاً واحداً تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون؟!
الله تعالى يقول:
{ { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ .. } [البقرة: 24]. أي لا تفعلوا ما يغضب الله حتى لا تعذبوا في النار .. فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية بأن تركت المعاصي وفعلت الخير.
وقوله تعالى:
{ { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ .. } [البقرة: 278].
كيف نتقيه بينما نحن نطلب من الله كل النعم وكل الخير دائماً. كيف يمكن أن يتم هذا؟ وكيف نتقي مَنْ نحب؟.
نقول إن لله سبحانه وتعالى صفات جلال وصفات جمال .. صفات الجلال تجدها في القهار والجبار والمذل، والمنتقم، والضار. كل هذا من متعلقات صفات الجلال .. بل إن النار من متعلقات صفات الجلال.
أما صفات الجمال فهي الغفار والرحيم وكل الصفات التي تتنزل بها رحمات الله وعطاءاته على خلقه. فاذا كنت تقي نفسك من النار ـ وهي من متعلقات صفات الجلال ـ لابد أن تقي نفسك من صفات الجلال كلها. لأنه قد يكون من متعلقاتها ما أشد عذاباً وإيلاماً من النار .. فكأن الحق سبحانه وتعالى حين يقول:
{ { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ .. } [البقرة: 24]. و: { { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ .. } [البقرة: 278] يعني أن نتقي غضب الله الذي يؤدي بنا إلى أن نتقي كل صفات جلاله .. ونجعل بيننا وبينها وقاية. فمَنْ اتقى صفات جلال الله أخذ صفات جماله .. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت آخر ليلة من رمضان تجلى الجبار بالمغفرة"
). وكان المنطق يقتضي أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (تجلى الرحمن بالمغفرة) ولكن ما دامت هناك ذنوب، فالمقام لصفة الجبار الذي يعذب خلقه بذنوبهم. فكأن صفة الغفار تشفع عند صفة الجبار .. وصفة الجبار مقامها للعاصين، فتأتي صفة الغفار لتشفع عندها، فيغفر الله للعاصين ذنوبهم، وجمال المقابلة هنا حينما يتجلى الجبار بجبروته بالمغفرة فساعة تأتي كلمة جبار .. يشعر الإنسان بالفزع والخوف والرعب. لكن عندما تسمع (تجلى الجبار بالمغفرة) فإن السعادة تدخل إلى قلبك. لأنك تعرف أن صاحب العقوبة وهو قادر عليها قد غفر لك. والنار ليست آمرة ولا فاعلة بذاتها ولكنها مأمورة. إذن فاستعذ منها بالآمر أو بصفات الجمال في الآمر.
يقول الحق سبحانه وتعالى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] ولقد قلنا إن الهدى هدى الله .. لأنه هو الذي حدد الغاية من الخلق ودلنا على الطريق الموصل إليها. فكون الله هو الذي حدد المطلوب ودلنا على الطريق إليه فهذه قمة النعمة .. لأنه لم يترك لنا أن نحدد غايتنا ولا الطريق إليها. فرحمنا بذلك مما سنتعرض له من شقاء في أن نخطئ ونصيب بسبب علمنا القاصر، فنشقى وندخل في تجارب، ونمشي في طرق ثم نكتشف أننا قد ضللنا الطريق فنتجه إلى طريق آخر فيكون أضل وأشقى.
وهكذا نتخبط دون أن نصل إلى شيء .. وأراد سبحانه أن يجنبنا هذا كله فأنزل القرآن الكريم .. كتاباً فيه هداية للناس وفيه دلالة على أقصر الطرق لكي نتقي عذاب الله وغضبه.
والله سبحانه وتعالى قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] أي أن هذا القرآن هدى للجميع، فالذي يريد أن يتقي عذاب الله وغضبه يجد فيه الطريق الذي يحدد له هذه الغاية .. فالهدى من الحق تبارك وتعالى للناس جميعاً. ثم خَصَّ مَنْ آمن به بهديً آخر، وهو أن يعينه على الطاعة.
إذن، فهناك هدى من الله لكل خلقه وهو أن يدلهم سبحانه وتعالى ويبين لهم الطريق المستقيم. هذا هو هدى الدلالة، وهو أن يدل الله خلقه جميعاً على الطريق إلى طاعته وجنته. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{ { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17].
إذن الحق سبحانه وتعالى دلهم على طريق الهداية .. ولكنهم أحبوا طريق الغواية والمعصية واتبعوه .. هذه هداية الدلالة .. أما هداية المعونة ففي قوله سبحانه:
{ { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [محمد: 17].
وهذه هي دلالة المعونة .. وهي لا تحق إلا لمَنْ آمن بالله واتبع منهجه وأقبل على هداية الدلالة وعمل بها .. والله سبحانه وتعالى لا يعين مَنْ يرفض هداية الدلالة، بل يتركه يضل ويشقى .. ونحن حين نقرأ القرآن الكريم نجد أن الله تبارك وتعالى يقول لنبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ .. } [القصص: 56].
وهكذا نفى الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون هادياً لمَنْ أحب، ولكن الحق يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52].
فكيف يأتي هذا الاختلاف مع أن القائل هو الله.
نقول: عندما تسمع هذه الآيات اعلم أن الجهة منفكة .. يعني ما نفى غير ما أثبت .. ففي غزوة بدر مثلاً أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصى قذفها في وجه جيش قريش. يأتي القرآن الكريم إلى هذه الواقعة فيقول الحق سبحانه:
{ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ .. } [الأنفال: 17].
نفي للحدث وإثباته في الآية نفسها .. كيف رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. مع أن الله تبارك وتعالى قال:
{ { وَمَا رَمَيْتَ .. } [الأنفال: 17]؟! نقول إنه في هذه الآية الجهة منفكة، الذي رمى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي أوصل الحصى إلى كل جيش قريش لتصيب كل مقاتل فيهم هي قدرة الله سبحانه وتعالى. فما كان لرمية رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصى يمكن أن تصل إلى كل جيش الكفار، ولكن قدرة الله هي التي جعلت هذا الحصى يصيب كل جندي في الجيش.
أما قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]، فهي هداية دلالة. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للقرآن وبيانه لمنهج الله قد دل الناس - كل الناس - على الطريق المستقيم وبينه لهم. وقوله تبارك وتعالى: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56] .. أي إنك لا توصِّل الهداية إلى القلوب لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي القلوب ويزيدها هدى وإيماناً. ولذلك أطلقها الله تبارك وتعالى قضية إيمانية عامة في قوله: { { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ .. } [آل عمران: 73] فالقرآن الكريم يحمل هداية الدلالة للذين يريدون أن يجعلوا بينهم وبين غضب الله وعذابه وقاية.