التفاسير

< >
عرض

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ
٢٤
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى عن الأدلة التي يستند إليها المشككون في القرآن الكريم، وهي أدلة لا تستند إلى عقل ولا إلى منطق تحداهم بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، وأن يستعينوا بمَنْ يريدون من دون الله، لأن القرآن كلام الله، والله سبحانه هو القائل. وبما أنهم يحاولون التشكيك في أن القرآن كلام الله، وأنه مُنَزَّلٌ من عند الله، فليستعينوا بمَنْ يريدون ليأتوا بآية من مثله، لأن التحدي هنا لا يمكن أن يتم إلا إذا استعانوا بجميع القوى ما عدا الله سبحانه وتعالى.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بالنتيجة قبل أن يتم التحدي. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أنهم لن يفعلوا ولن يستطيعوا.
إن قوله سبحانه: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ .. } [البقرة: 24] معناه: أنه حكم عليهم بالفشل وقت نزول القرآن وبعد نزول القرآن إلى يوم القيامة؛ لأن الله لا يخفى عن علمه شيء، فهو بكل شيء عليم. وكلمة "لم تفعلوا" عندما تأتي قد تثير الشك. فنحن نعرف أن مجيء "إن" الشرطية يثير الشك .. لأن الأمر لكي يتحقق يتعلق بشرط. وأنت إن قلت: إن ذاكرت تنجح، ففي المسألة شك .. أما إذا قلت كقول الحق
{ { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [النصر: 1] فمعنى ذلك أن نصر الله آت لا محالة.
و"إن" حرف و"إذا" ظرف، وكل حدث يحتاج إلى مكان وزمن. فإذا جئت بأداة الشرط فمعنى ذلك أنك تقربها من عنصر تكوين الفعل والحدث. فإذا أردت أن تعبر عن شيء سيتحقق تقول إذا، وإذا أردت أن تشكك فيه تقول "إن" والله سبحانه وتعالى قال "فإن لم تفعلوا" ولأن الفعل ممكن الحدث أراد أن يُرَجِّح الجانب المانع فقال: "ولن تفعلوا" هذا أمر اختياري. فإذا تكلمت عن أمر اختياري ثم حكمت أنه لن يحدث، فكأن قدرتك هي التي منعته من الفعل، فلا يقال إنك قهرته على ألا يفعل. لا، بل علمت أنه لن يفعل. فاستعداداته لا يمكن أن تمكنه من الفعل.
وهذه أمور ضمن اخبارات القرآن الكريم في القضايا الغيبية التي أخبر عنها، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى
{ { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ .. } [النمل: 14] معناها: أنهم مصدقون، ولكن ألسنتهم لا تعترف بذلك. وقوله تعالى { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ .. } [البقرة: 24] معناها: أن الشك مفتعل في نفوسهم؛ هم لا يريدون أن يؤمنوا؛ ولذلك يأتون بسبب مفتعل لعدم الإيمان. لقد استقر فكرهم على أنهم لا يؤمنون، وما دام هذا هو ما قررتموه. فإنكم ستظلون تبحثون عن أسباب ملفقة لعدم الإيمان.
وقوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ .. } [البقرة: 24].
الحق سبحانه وتعالى يريد هنا أن يلفتنا إلى صورة أخرى عن عجز هؤلاء الكفار. فهم بحثوا عن أعذار، ليبرروا بها عدم إيمانهم، وتظاهروا بأنهم يشكون في القرآن الكريم. فكأنّه يقول لهم: لو كانت لكم قدرة وذاتية فعلاً فامنعوا أنفسكم من دخول النار يوم القيامة. كما منعتم انفسكم من الإيمان في الدنيا.
وهذا وعيد من الله. لقد أعطاهم ذاتية الاختيار في الدنيا، ولم يختاروا قهراً بل اختاروا عدم الإيمان بمشيئة الاختيار التي أعطاه الله لهم، ولكن هناك وقتاً ليس فيه اختيار وهو الآخرة، فحاولوا أن تتقوا في الآخرة عذاب النار يوم القيامة، ولكن لن يكون لأحد اختيار، فالله سبحانه وتعالى يقول في ذلك اليوم:
{ { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
ويقول جل جلاله:
{ { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19].
فإرادتكم التي منعتكم من الإيمان .. لن تقيكم يومئذ من عذاب النار.
واقرأ قوله تعالى:
{ { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98].
لماذا هم وما يعبدون؟ لأن العابد يرتجي نفع المعبود. فكأنهما عندما يرى كل منهما الآخر في العذاب تكون الحسرة أشد، ولذلك فإن الحجارة والأصنام التي يعبدونها ستكون معهم في النار يوم القيامة، وليس هذا عقاباً للأحجار والأصنام لأنها خلق مقهور لله مُسَبِّح له، ولكن هذه الأصنام والأحجار تكون راضية وهي تحرق الذين كفروا بالله، وتقول: عبدونا ونحن أعبد لله من المستغفرين بالأسحار.
وقوله تعالى: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة: 24] الله سبحانه وتعالى يخبرهم وهم في الدنيا، أن النار أعدت للكافرين، وهذا تطمين غاية الاطمئنان للمؤمن. وإرهاب غاية الإرهاب للكافر .. وقوله تعالى { أُعِدَّتْ .. } [البقرة: 24] معناها: أنها موجودة فعلاً، وإن لم نكن نراها، وأنها مخلوقة، وإن كانت محجوبة عنا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"عُرِضَتْ عليّ الجنة ولو شئتُ أن آتيكم منها بقطافٍ لفعلتُ" .
وهذا دليل على أنها موجودة فعلاً.
والمؤمن حينما يعلم أن الجنة موجودة فعلاً، وأن الإيمان سيقوده إليها، فإنه يحس بالسعادة ويشتاق للجنة، فإذا سمع قول الحق سبحانه وتعالى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون: 10-11].
ساعة تقرأ هذه الآية الكريمة تعرف أن الله سبحانه وتعالى سيجعلك في الجنة تأخذ ما كان لغيرك. لأن الميراث يأتيك من غيرك. وقد سبق علم الله سبحانه وتعالى خلق الناس جميعاً. وقبل أن يخلق أعدَّ لكل فرد مِنْ خلقه مقعداً في النار ومقعداً في الجنة. الذين سيدخلون النار خالدين فيها، مقاعدهم في الجنة ستكون خالية، فيأتي الله سبحانه وتعالى يعطيها للمؤمنين ليرثوها فوق مقاعدهم ومنازلهم في الجنة. والحق سبحانه عندما يقول: { أُعِدَّتْ .. } [البقرة: 24] فهي موجودة فعلاً.