التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب - وهو القرآن الكريم - { { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] .. أي أنَّ فيه المنهج والطريق لكل مَنْ يريد أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية .. أراد أن يعرفنا صفات هؤلاء المتقين ومَنْ هم .. وأول صفة هي قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ .. } [البقرة: 3].
ما هو الغيب الذي جعله الله أول مرتبة في الهدى .. وفي الوقاية من النار ومن غضب الله؟.
الغيب هو كل ما غاب عن مدركات الحس. فالأشياء المُحَسَّة التي نراها ونلمسها لا يختلف فيها أحد .. ولذلك يقال: "ليس مع العين أين" .. لأن ما تراه لا تريد عليه دليلاً .. ولكن الغيب لا تدركه الحواس .. إنما يدرك بغيرها.
ومن الدلالة على دقة التعريف أنهم قالوا أن هناك خمس حواس ظاهرة هي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس .. ولكن هناك أشياء تدرك بغير هذه الحواس.
لنفرض أن أمامنا حقيبتين .. نفس الشكل ونفس الحجم. هل تستطيع بحواسك الظاهرة أن تدرك أيهما أثقل من الأخرى؟. هل تستطيع الحواس الخمس أن تقول لك أي الحقيبتين أثقل؟ .. لا .. لابد أن تحمل واحدة منهما ثم تحمل الأخرى لتعرف أيهما أثقل.
بأي شيء أدركت هذا الثقل؟ .. بحاسة العَضَل .. لأن عضلاتك أُجهدت عندما حملت إحدى الحقيبتين، ولم تجهد عندما حملت الثانية .. فعرفت بالدقة أيهما أثقل .. لا تقل باللمس؛ لأنك لو لمست إحداهما ثم لمست الأخرى لا تعرف أيهما أثقل .. إذن فهناك حاسة العضل التي تقيس بها ثقل الأشياء.
ولنفرض أنك دخلت محلاً لبيع القماش، وأمامك نوعان من قماش واحد .. ولكن أحدهما أرق من الآخر .. بمجرد أن تضع القماشين بين أناملك تدرك أن أحدهما رقيق والآخر أكثر سمكاً .. بأي حاسة أدركت هذا؟ ليس بحاسة اللمس ولكن بحاسة البينة وحكمها لا يخطىء.
وعندما تشعر بالجوع .. بأي حاسة أدركت أنك جوعان؟.. ليس بالحواس الظاهرة، وكذلك عندما تظمأ .. ما هي الحاسة التي أدركت بها أنك محتاج إلى الماء .. وعندما تكون نائماً .. أي حاسة تلك التي توقظك من النوم .. لا أحد يعرف.
إذن هناك ملكات في النفس وهي الحواس الظاهرة .. وهناك إدراكات في النفس .. وهي حواس لا يعلمها إلا خالقها .. لذلك عندما يأتي العلماء ليضعوا تعريفاً للنفس البشرية نقول لهم: ماذا تعرفون عن هذه النفس؟!.. إنكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا .. ولكن هناك أشياء داخل النفس لا تعرفونها .. هناك إدراكات لا يعلم عنها الإنسان شيئاً، وهي إدراكات كثيرة ومتعددة .. لذلك يخطئ مَنْ يقول إن ما لا يدرك بالحواس البشرية الظاهرة هو غيب .. لأن هناك ملكات وإدراكات متعددة تعمل بغير علم منا.
لو أُعْطِيَ لطالب تمرين هندسي فحلَّه وأتى بالجواب .. هل نقول: إنه عَلِمَ غيباً؟ .. لأن حَلَّ التمرين كان غيباً عنه ثم وصل إليه .. لا .. لأن هناك مقدمات وقوانين أوصلته الى هذا الحل .. والغيب بلا مقدمات ولا قوانين تؤدي إليه، وهل عندما تعلن الأرصاد الجوية أن غداً يوم مطير شديد الرياح .. أتكون قد عَلمَتْ غيباً؟ .. لا .. لأنها أخذت المقدمات ووصلت بها إلى نتائج وهذا ليس غيباً.
وإذا جاء أحد من الدجالين وقال لك إن ما سرق منك عند فلان .. أيكون قد علم الغيب؟ .. لا .. لأنه يشترط في الغيب ألا يكون معلوماً لمثلك .. وما سرق منك معلوم لمثلك .. فالسارق والذي بيعت له المسروقات يعرفان من الذي سرق، وما الذي حدث .. والشرطة تستطيع بالمقدمات والبصمات والبحث أن تصل إلى السارق ومَنْ اشترى المسروقات .. وإذا جاءك دجال من الذين يسخرون الجن .. والمعروف أن الجن مستور عنا يمتاز بخفة الحركة وسرعتها .. والله سبحانه وتعالى يقول عن الشيطان:
{ { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ .. } [الأعراف: 27].
فقد يكون هذا المستعان به من الجن قد رأى شيئاً .. أو انتقل من مكان إلى آخر .. فيعرف شيئاً لا تعرفه أنت .. هذا لا يكون غيباً لأنك جهلته، ولكن غيرك يعلمه بقوانينه التي خلقها الله له .. والعلماء الذين يكتشفون أسرار الكون .. أيقال إنهم أطلعوا على الغيب؟ .. لا .. لأن هؤلاء العلماء اكتشفوا موجوداً له مقدمات فوصلوا إلى هذه النتائج فهو ليس غيباً.
ولكن ما هو الغيب؟.
هو الشيء الذي ليس له مقدمات ولا يمكن أن يصل إليه علم خَلْقٍ من خلق الله حتى الملائكة .. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى حينما عَلَّمَ آدم الأسماء كلها وعرضهم على الملائكة قال جل جلاله:
{ { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ * قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 31-33].
والجن أيضا لا يعلم الغيب .. ولذلك عندما مات سليمان عليه السلام .. وكان الله سبحانه وتعالى قد سَخَّرَ له الجن لم تعلم الجن بموته إلا عندما أكلت دابة الأرض عصاه .. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{ { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14].
إذن فالغيب هو ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى .. واقرأ قول الحق جل جلاله:
{ { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [الجن: 26-27].
وهكذا فإن الرسل لا يعلمون الغيب .. ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمهم بما يشاء من الغيب ويكون هذا معجزة لهم ولمَنْ اتبعوهم.
وقمة الغيب هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى .. والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر .. كل هذه أمور غيبية، وحينما يخبرنا الله تبارك وتعالى عن ملائكته ونحن لا نراهم .. نقول ما دام الله قد أخبرنا بهم فنحن نؤمن بوجودهم .. وإذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر .. فما دام الله قد أخبرنا فنحن نؤمن باليوم الآخر .. لأن الذي أخبرنا به هو الله جل جلاله .. آمنت به أنه إله .. واستخدمت في هذا الإيمان الدليل العقلي الذي جعلني أؤمن بأن لهذا الكون إلهاً وخالقاً .. وما يأتيني عن الله حيثية الإيمان به أن الله سبحانه وتعالى هو القائل.
ولا بد أن نعرف أن وجود الشيء مختلف تماماً عن إدراك هذا الشيء .. فأنت لك روح في جسدك تهبك الحياة .. أرأيتها؟ .. أسمعتها؟ .. أذقتها؟ .. أشممتها؟ .. ألمستها؟ .. الجواب طبعاً لا .. فبأي وسيلة من وسائل الإدراك تدرك أن لك روحاً في جسدك؟ بأثرها في إحياء الجسد..
إذن، فقد عرفت الروح بأثرها، والروح مخلوق لله .. فكيف تريد وأنت عاجز أن تدرك مخلوقاً في جسدك وذاتك وهو الروح بآثارها .. أن تدرك الله سبحانه وتعالى بحواسك.
ونحن إذا آمنا بالقمة الغيبية وهو الله جل جلاله .. فلابد أن نؤمن بكل ما يخبرنا عنه وإن لم نَرَه .. ولقد أراد الله تبارك وتعالى رحمة بعقولنا أن يقرب لنا قضية الغيب فأعطانا من الكون المادي أدلة على أن وجود الشيء، وإدراك هذا الوجود شيئان منفصلان تماماً.
فالجراثيم مثلاً موجودة في الكون تؤدي مهمتها منذ بداية الخلق .. وكان الناس يشاهدون آثار الأمراض في أجسادهم من ارتفاع في الحرارة وحمى وغير ذلك وهم لا يعرفون السبب .. فلما ارتقى العلم وأذن الله لخلقه أن يروا هذا الوجود للجراثيم .. جعل الله العقول قادرة على أن تكتشف المجهر .. الذي يعطينا الصورة مكبرة .. لأن العين قدرتها البصرية أقل من أن تدرك هذه المخلوقات الدقيقة.. فلما اكتشف العلم المجهر .. استطعنا أن نرى هذا الجراثيم .. ونعرف أن لها دورة حياة وتكاثر إلى غير ما يكشفه الله لنا من علم كلما تقدم الزمن.
إن عدم قدرتنا على رؤية أي شيء لا يعني أنه غير موجود .. ولكن آلة الإدراك - وهي البصر - عاجزة عن أن تراه، لأنه غاية في الصغر، فاذا جئت بالمجهر كبَّر لك هذا الميكروب ليدخل في نطاق وسيلة رؤيتك وهي العين .. ورؤيتنا للجراثيم والميكروبات ليست دليلاً على أنها خُلقت ساعة رأيناها .. بل هي موجودة تؤدي مهمتها .. سواء رأيناها أو لم نرها.
فلو حدثنا أحد عن الميكروبات والجراثيم قبل أن نراها رؤية العين .. هل كنا نصدق؟ .. والله سبحانه وتعالى ترك بعض خلقه غير مدرك في زمنه لبعض حقائق الكون ليرتقي الإنسان ويدرك بعد ذلك، وكان المفروض أنه يزداد إيماناً عندما يدرك وليعرف الخلق بالدليل المادي أن ما هو غيب عنهم موجود وإن كنا لا نراه.
والله تبارك وتعالى قد أعطانا من آياته في الكون ما يجعلنا ندرك أن لهذا الكون خالقاً .. فالشمس والقمر والنجوم والأرض والإنسان والحيوان والجماد لا يستطيع أحد أن يدَّعي أنه خلقهم .. ولا أحد يمكن أن يدَّعي أنه خلق نفسه أو غيره.
ولا يمكن لهذا الكون بهذا النظام الدقيق أن يوجد بالصدفة؛ لأن الصدفة أحداث غير مرتبة أو غير منظمة .. ولو وجد هذا الكون بالصدفة لتصادمت الشمس والقمر والنجوم والأرض ولاختل الليل والنهار.
ولكن كل ما في الكون من آيات يؤكد لنا أن هناك قوة هائلة هي التي خلقت ونظمت وأبدعت، فإذا جاءنا رسول يبلغنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الكون فلابد أن نصدقه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ .. } [البقرة: 3] .. والصلاة هي إدامة ولاء العبودية للحق تبارك وتعالى وهي لا تسقط عن الإنسان أبداً .. فالإنسان يصلي وهو واقف، فإن لم يستطع يصلي وهو جالس. فإن لم يستطع، فيصلي وهو راقد .. ولا تسقط الصلاة عن الإنسان من ساعة التكليف إلى ساعة الوفاة كل يوم خمس مرات.
ويقول الحق تبارك وتعالى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] .. وحين نتكلم عن الرزق يظن كثير من الناس أن الرزق هو المال .. نقول له لا .. الرزق هو ما ينتفع به. فالقوة رزق، والعلم رزق، والحكمة رزق، والتواضع رزق .. وكل ما فيه حركة للحياة رزق .. فإن لم يكن عندك مال لتنفق منه فعندك عافية تعمل بها لتحصل على المال .. وتتصدق بها على العاجز المريض .. وإن كان عندك حلم .. فإنك تنفقه بأن تقي الأحمق من تصرفات قد تؤذي المجتمع وتؤذيك .. وإن كان عندك علم فأنفقه لتعلِّم الجاهل .. وهكذا نرى: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] تستوعب جميع حركة الحياة.