التفاسير

< >
عرض

وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٣١
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

فالحق سبحانه وتعالى رد على الملائكة بهذه الآية الكريمة، لأنه علَّم آدم الأسماء كلها. وكلمة "كلها" تفيد الإحاطة، ومعنى الإحاطة معرفة كل شيء عن هذه الأسماء.
هنا يتبادر سؤال: هل علَّم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء منذ ساعة الخلق إلى قيام الساعة ما دام الحق سبحانه وتعالى يقول كلها. فما هو حكم تلك الأسماء التي هي لمخترعات ستأتي بعد خلق آدم بقرون طويلة؟
نقول إن الله سبحانه وتعالى حين علم آدم الأسماء وميَّزه على الملائكة يكون قد أعطى ذلك الأدنى عنصراً ميزه عن المخلوق من عنصر أعلى. فآدم مخلوق من طين، والملائكة مخلوقون من نور. وقدرات البشر لا تستطيع أن تعطي الأدنى شيئاً أكثر من الأعلى. ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعطي ذلك ليذكِّرنا أن ما نأخذه ليس بقدراتنا ولكن بقدرته هو سبحانه. ولذلك تجد سليمان وهو ملك ونبي أعطاه الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وميَّزَه عن خلقه. يأتي الهدهد ليقول لسليمان:
{ { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [النمل: 22].
كيف يحيط الهدهد - وهو طائر ضعيف محدود - بما لم يحط به سليمان وهو الملك النبي الذي حكم الإنس والجن؟ لأن الله سبحانه وتعالى .. يكره الغرور من خلقه؛ ولذلك يأتي بآية تميز الأدنى عن الأعلى ليعلموا جميعاً أن كل قدراتهم ليست بذاتهم .. وإنما هي من الله. فيأتي موسى وهو الرسول والنبي، فيتعلم من الخضر وهو العبد الصالح ما لم يكن يعلمه.
وقد خلق الله سبحانه المسميات، وإن كنا لا نعرف وجودها وجعل الملائكة تتلقى أسماء هذه المسميات من آدم. وأن البعض يتساءل عن وسيلة تعليم الخالق الأكرم لآدم عليه السلام. وتعليم الخالق يختلف عن تعليم الخلق؛ لأن الخالق يُعلِّمُ إلهاما. يقذف في قلب آدم أسماء المسميات كلها لكل ما في الكون من أسماء المخلوقات.
إذن: فالمشهد الأول لآدم مع الملائكة كان قد تم إيجاد كل المسميات وألهمها الله لآدم بدليل أن الملائكة لم تتعرف على هذه المسميات، بينما عرفها آدم. وهنا لابد لنا من وقفة. إن الكلام هو ناتج السمع واللغة ناتج البيئة، والله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء. وهذا العلم لا يمكن أن يأتي إلا إذا كان آدم قد سمع من الله سبحانه وتعالى، ثم نطق. فأنت إذا أتيت بطفل عربي، وتركته في لندن مثلاً .. فتراه يتكلم الإنجليزية بطلاقة .. ولا يفهم كلمة واحدة من اللغة العربية. والعكس صحيح. إذا أتيت بطفل إنجليزي، وتركته في بلد عربي يتكلم العربية .. ولا يعلم شيئاً عن الإنجليزية. إذن: فاللغة ليست وراثة ولا جنساً ولا بيئة، ولكنها محاكاة يسمعها الإنسان فينطق بها. وإذا لم يسمع الإنسان شيئاً وكان أصمَّ فإنه لا يستطيع النطق بحرف واحد. فإذا كان آدم قد نطق بهذه الأسماء؛ فلا بد أنه سمع من الله سبحانه وتعالى.
والعجيب أن الطريقة التي علَّم الله سبحانه وتعالى آدم بها، هي الطريقة نفسها التي تتبعها البشرية إلى يومنا هذا، فأنت لا تعلم الطفل بأن تقص عليه الأفعال. ولكن لابد أن يبدأ تعليمه بالأسماء والمسميات. تقول له: هذا كوب، وهذا جبل وهذا بحر، وهذه شمس، وهذا قمر. وبعد أن يتعلم المسميات يستطيع أن يعرف الأفعال ويتقدم في التعليم بعد ذلك.
وهكذا نتعرف على النشأة الأولى للكلام، وطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى عَلَّمتْ آدم الأسماء.
وهنا نتوقف لنجيب عن سؤالين: الأول: إذا كان الله سبحانه وتعالى قد علَّم آدم الأسماء كلها. فهل كان فيها أسماء ما سيستجد من مخترعات في العالم؟
نقول: إنه حتى لو تعلم آدم الأسماء التي يحتاج إليها في أولويات الوجود ويستخدمها في متطلبات حياته على الأرض. فإذا جد جديد، فإن أولاد آدم يستخدمون هذه الأسماء من المقدمات والأسماء التي تعلموها. فما يَجِدُّ في الوجود من أسماء تدخل على اللغة، لم تأْتِ من فراغ، وإنما جاءت من اللغة التي تنطق بها وتكتب بها.
كذلك كل شيء في هذا الكون لو أعدته الآن إلى أصله فستجد أن أصله من الله. فلو أعدت البشرية إلى أصلها لابد أن تصل إلى أن الإنسان الأول خلقه الله سبحانه وتعالى. ولو أعدت العلم إلى أصله وكل علم يحتاج إلى معلِّم. نقول لك: مَنْ الذي علَّم المُعلِّم الأول؟ أليس من البديهي أن العلم بدأ بمعلم علمه الله سبحانه وتعالى. وكان هذا هو المعلم الأول .. إذن: فالذي علم الأسماء لآدم هو الله سبحانه وتعالى. وهو علمها لأولاده. وأولاده علموها لأولادهم وهكذا.
يأتي السؤال الثاني: إذا كان الله هو المُعلِّم للكلام. فلماذا اختلفت اللغات على الأرض وأصبح هناك ألوان من اللغات والألسنة؟
نقول: إن تنوع فترات التاريخ وانتشار الإنسان على الأرض جعل كل مجموعة من البشر تقترب من بعضها لتكون لها لغة واحدة. وكل لغة موجودة مأخوذة من لغة قديمة .. فالفرنسية والإنجليزية والإيطالية مأخوذة من اللاتينية. والعبرية والسريالية لهما علاقة باللغة العربية واللهجات التي يتكلم بها العالم العربي - صاحب اللغة الواحدة - تختلف .. حتى أن لهجة الجزائر أو المغرب مثلاً تجدها مختلفة عن اللهجة المصرية أو السودانية. ولكننا إذا تكلمنا باللغة العربية فَهِمَ بعضنا بعضاً، ولغة هؤلاء جميعاً في الأصل هي لغة القرآن. وهي العربية، ولكن في فترات الوهن التاريخي الذي مَرَّ على العرب انعزلت البلاد العربية بعضها عن بعض ومضى كل مجتمع يأخذ اللغة كمظهر اجتماعي، فيسقط التفاهم بين اللهجات المختلفة.
وهكذا علَّم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة وقال لهم { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 31]؟ أي أن الله سبحانه وتعالى كرَّم آدم في العلم، وأعطاه علماً لم يعطه للملائكة. ثم جعل آدم هو الذي يعلمهم أسماء مسميات لم يعرفوها. وهذا دليل على طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى الذي يفعل ما يشاء في كونه، وكما قلنا: إن تمييز الأدنى عن الأعلى لا يتم إلا بفعل الله وحده.
ولكي نقرِّبَ هذا إلى العقول: هَبْ أن إنساناً ضعيفاً يريد أن يحمل حملاً ثقيلاً .. إنه لا يقدر. وإذا كان هناك إنسان قوي يعينه فإنه لا يستطيع أن يعطيه من قوته ليحمل هذا الحمل، ولكن يعينه بأن يحمل عنه. أما الذي يستطيع أن يجعل هذا الضعيف قوياً يمكنه أن يحمل هذا الحمل الثقيل فهو الله سبحانه وتعالى. فالإنسان لا يستطيع أن يعطي إنساناً آخر من قوته، ولكن الله وحده هو القادر على أن يجعل الضعيف قوياً والقوي ضعيفاً.
وقوله تعالى: { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 31] وهل يكذب الملائكة؟ إن الملائكة خَلْقٌ من نور يسبحون الله، ويفعلون ما يؤمرون .. نقول إن قوله تعالى { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 31] فيما قستم عليه الأحداث، أو فيما قلتموه ضرباً بالغيب.
ولو أن الملائكة قاسوا حكمهم على حكم جنس آخر كان في الأرض كالجن مثلاً الذين خُلِقوا قبل الإنسان .. فيقول الحق سبحانه وتعالى: إنكم أخطأتم في قياسكم هذا، أو إن كنتم صادقين فيما تنبأتم به من غيب؛ فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فالقياسان جانبهما التوفيق.
وليس هذا طعناً في الملائكة، ولكنه تصحيح لهم، وتعريف لنا بأن الملائكة لا يعلمون الغيب. ولذلك فهم حينما قاسوا أو حكموا على غيب .. جانبهم التوفيق لأن الله وحده هو علام الغيوب والذي دفع الملائكة إلى أن يقولوا أو يُبْطِنوا هذا الكلام هو حبهم الشديد لله تعالى .. وكراهيتهم للإفساد في كونه.