التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٦
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

وبعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم، وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير .. أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون .. وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع، يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة .. فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان، ولولا وجود هذا الشر .. أكان هناك ضرورة للإيمان .. إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر.
والكافرون قسمان: قسم كفر بالله أولاً ثم استمع إلى كلام الله، واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن .. وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك، وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاهاً دنيوياً ومكاسب يحققها ظلماً وعدواناً.
إذن: الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر، ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالاً صحيحاً.
هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر .. ومعنى كَفَرَ أي سَتَرَ .. وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله، والذي يستر لابد أن يستر موجوداً، لأن الستر طارئ على الوجود .. والأصل في الكون هو الإيمان بالله .. وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى .. ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم او استعلائهم على غيرهم من البشر.
ولفظ الكفر في ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر .. كيف؟.
سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم .. والكفر ساعتها لم يكن موجوداً .. وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلى الأرض واستقر فيها .. يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في (افعل ولا تفعل) وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا..
لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه .. ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة .. وعلمه الأسماء كلها.
ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيِّد حركة الناس في الكون .. فبدأ كل مَنْ يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر .. والعاقل حين يسمع كلمة كفر .. يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود .. فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود .. لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 29].
وهكذا يأتي هذا السؤال .. ولا يستطيع الكافر له جواباً!! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده .. ولا يستطيع أحد منا أن يدَّعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره، فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان، ولذلك يسألهم الحق تبارك وتعالى كيف تكفرون بالله وتسترون وجود مَنْ خلقكم؟.
والخلق قضية محسومة لله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يدَّعيها .. فلا يمكن أن يدَّعي أحد أنه خلق نفسه .. قضية أنك موجود توجب الإيمان بالله سبحانه وتعالى الذي أوجدك .. إنه عين الاستدلال على الله، وإذا نظر الإنسان حوله فوجد كل ما في الكون مسخراً لخدمته والأشياء تستجيب له فظن بمرور الزمن أن له سيطرة على هذا الكون .. ولذلك عاش وفي ذهنه قوة الأسباب .. يأخذ الأسباب وهو فاعلها فيجدها قد أعطته واستجابت له .. ولم يلتفت إلى خالق الأسباب الذي خلق لها قوانينها فجعلها تستجيب للإنسان، وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله جل جلاله:
{ { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7].
ذلك أن الإنسان يحرث الأرض فتعطيه الثمر .. فيعتقد أنه هو الذي أخضع الأرض ووضع لها قوانينها لتعطيه ما يريد .. يضغط على زر الكهرباء فينير المكان فيعتقد أنه هو الذي أوجد هذه الكهرباء! يركب الطائرة .. وتسير به في الجو فيعتقد أنه هو الذي جعلها تطير .. وينسى الخصائص التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الغلاف الجوي ليستطيع أن يحمل هذه الطائرة .. يفتح التليفزيون ويرى أمامه أحداث العالم فيعتقد أن ذلك قد حدث بقدرته هو .. وينسى أن الله تبارك وتعالى وضع في الغلاف الجوي خصائص جعلته ينقل الصوت والصورة من أقصى الدنيا إلى أقصاها في ثوان معدودة .. وهكذا كل ما حولنا يظن الإنسان أنه أخضعه بذاته .. بينما كل هذا مسخر من الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان .. وهو الذي خلق ووضع القوانين .. نقول له: إنك لو فهمت معنى ذاتية الأشياء ما حدثتك نفسك بذلك .. الشيء الذاتي هو ما كان بذاتك لا يتغير ولا يتخلف أبداً .. إنما الأمر الذي ليس بذاتك هو الذي يتغير.
وإذا نظرت إلى ذاتيتك تلك التي أغرتك وأطغتك .. ستفهم أن كلمة ذاتية هي ألا تكون محتاجاً إلى غيرك بل كل شيء من نفسك .. وأنت في حياتك كلها ليس لك ذاتية .. لأن كل شيء حولك متغير بدون إرادتك، وأنت طفل محتاج إلى أبيك في بدء حياتك .. فإذا كبرت وأصبح لك قوة واستجابت الأحداث لك، فإنك لا تستطيع أن تجعل فترة الشباب والفتوة هذه تبقى، فالزمن يملك ولكن لفترة محدودة .. فإذا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة فستحتاج إلى مَنْ يأخذ بيدك ويعينك .. ربما على أدق حاجاتك وهي الطعام والشراب.
إذن: فأنت تبدأ بالطفولة محتاجاً إلى غيرك .. وتنتهي بالشيخوخة محتاجاً إلى غيرك .. وحتى عندما تكون في شبابك قد يصيبك مرض يقعدك عن الحركة .. فإذا كانت لك ذات حقيقية فادفع هذا المرض عنك وقل: لن أمرض .. إنك لا تستطيع.
الله سبحانه وتعالى أوجد هذه المتغيرات حتى ينتهي الغرور من نفس الإنسان .. ويعرف أنه قوي قادر بما أخضع الله له من قوانين الكون .. لنعلم أننا جميعاً محتاجون إلى القادر، وهو الله سبحانه وتعالى، وأنَّ الله غني بذاته عن كل خلقه .. يغير ولا يتغير .. يميت وهو دائم الوجود .. يجعل من بعد قوة ضعفاً وهو القوي دائماً .. ما عند الناس ينفد وما عنده تبارك وتعالى لا ينفد أبداً .. هو الله في السماوات والأرض.
إذن: فليست لك ذاتية حتى تدَّعي أنك أخضعت الكون بقدراتك .. لأنه ليس لك قدرة أن تبقى على حال واحد وتجعله لا يتبدل ولا يتغير .. فكيف تكفر بالله تبارك وتعالى وتستر وجوده .. كل ما في الكون وما في نفسك شاهد ودليل على وجود الحق سبحانه وتعالى.
قلنا: إن الكافرين صنفان: صنف كفر بالله وعندما جاء الهدى حكَّم عقله وعرف الحق فآمن .. والصنف الآخر مستفيد من الكفر .. ولذلك فهو متشبث به مهما جاءه من الإيمان والأدلة الإيمانية فإنه يعاند ويكفر .. لأنه يريد أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية ونفوذه القائم على الظلم والطغيان .. ولا يقبل أن يُجَرَّدَ منهما ولو بالحق .. هذا الصنف هو الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6].
فهم لم يكفروا لأن بلاغاً عن الله سبحانه وتعالى لم يصلهم .. أو لأنهم لم يلفتهم رسول أو نبي إلى منهج الله .. فهؤلاء اتخذوا الكفر صناعة ومنهج حياة .. فهم مستفيدون من الكفر لأنه جعلهم سادة ولأنهم متميزون عن غيرهم بالباطل .. ولأنهم لو جاء الإيمان الذي يساوي بين الناس جميعاً ويرفض الظلم، لأصبحوا أشخاصاً عاديين غير مميزين في أي شيء.
هذا الكافر الذي اتخذ الكفر طريقاً لجاه الدنيا وزخرفها .. سواء أنذرته أو لم تنذره فإنه لن يؤمن .. إنه يريد الدنيا التي يعيش فيها، بل إن هؤلاء هم الذين يقاومون الدين ويحاربون كل مَنْ آمن .. لأنهم يعرفون أن الإيمان سيسلبهم مميزات كثيرة، ولذلك فإن عدم إيمانهم ليس لأن منهج الإيمان لم يبلغهم، أو أن أحداً لم يلفتهم إلى آيات الله في الأرض، ولكن لأن حياتهم قائمة ومبنية على الكفر.