التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٧٦
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه صور من صور نفاق اليهود. والناس مقسمون إلى ثلاث: مؤمنون وكافرون منافقون .. المؤمن انسجم مع نفسه ومع الكون الذي يعيش فيه .. والكافر ولا انسجم مع نفسه ولم ينسجم مع الكون، والكون يلعنه .. والمنافق لا انسجم مع نفسه ولا انسجم مع الكون، والآية تعطينا صورة من صور النفاق وكيف لا ينسجم المنافق مع نفسه ولا مع الكون .. فهو يقول ما لا يؤمن به .. وفي داخل نفسه يؤمن بما لا يقول .. والكون كله يلعنه، وفي الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار. وهذه الآية تتشابه مع آية تحدثنا عنها في أول هذه السورة .. وهي قوله تعالى: { { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة: 14].
في الآية الأولى كان الدور لليهود، وكان هناك منافقون من غير اليهود وشياطينهم من اليهود .. وهنا الدور من اليهود والمنافقين من اليهود. الحق سبحانه وتعالى يقول: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا } [البقرة: 76] وهل الإيمان كلام؟ .. الإيمان يقين في القلب وليس كلاماً باللسان .. والاستدلال على الإيمان بالسلوك فلا يوجد إنسان يسلك سبيل المؤمنين نفاقاً أو رياء .. يقول آمنت نفاقاً ولكن سلوكه لا يكون سلوك المؤمن .. ولذلك كان سلوكهم هو الذي يفضحهم. يقول تعالى: { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 76]..
وفي سورة أخرى يقول الحق:
{ { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ .. } [آل عمران: 119].
وفي سورة المائدة يقول سبحانه:
{ { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ .. } [المائدة: 61].
هنا أربع صور من صور المنافقين .. كلها فيها التظاهر بإيمان كاذب .. في الآية الأولى
{ { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } [البقرة: 14] وفي الآية الثانية: { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 76]. وفي الآية الثالثة: { { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ } [آل عمران: 119]. وفي الآية الرابعة: { { وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } [المائدة: 61].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بعث كان اليهود يقولون للمؤمنين هذا هو نبيكم موجود عندنا في التوراة أوصافه كذا .. حينئذ كان أحبار اليهود ينهونهم عن ذلك ويقولون لهم: { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } [البقرة: 76] فكأنهم علموا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم أرادوا أن يخفوها .. إن الغريب أنهم يقولون: { بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 76]. وإذا كان هذا فتحاً من الله فلا فضل لهم فيه .. ولو أراد الله لهم الفتح لآمنت القلوب..
قوله تعالى: { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } [البقرة: 76] يدل على أن اليهود المنافقين والكفار وكل خلق الأرض يعلمون أنهم من خلق الله، وأن الله هو الذي خلقهم .. وما داموا يعلمون ذلك فلماذا يكفرون بخالقهم؟ { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ } [البقرة: 76] أي لتكون حجتهم عليكم قوية عند الله .. ولكنهم لم يقولوا عند الله بل قالوا { عِنْدَ رَبِّكُمْ } [البقرة: 76] والمحاجة معناها أن يلتقي فريقان لكل منهما وجهة نظر مختلفة. وتقام بينهما مناظرة يدلي فيها كل فريق بحجته. واقرأ قوله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ .. } [البقرة: 258].
هذه هي المناظرة التي حدثت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود الذي آتاه الله الملك .. ماذا قال إبراهيم؟
{ { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ .. } [البقرة: 258].
هذه كانت حجة إبراهيم في الدعوة إلى الله، فرد عليه النمرود بحجة مزيفة. قال أنا أحيي وأميت .. ثم جاء بواحد من جنوده وقال لحراسه اقتلوه .. فلما اتجهوا إليه قال اتركوه .. ثم التفت إلى إبراهيم:
{ { قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ .. } [البقرة: 258].
جدل عقيم لأن هذا الذي أمر النمرود بقتله. كان حياً وحياته من الله والنمرود حين قال اقتلوه لم يمته ولكنه أمر بقتله .. وفرق بين الموت والقتل .. القتل أن تهدم بنية الجسد فتخرج الروح منه لأنه لا يصلح لإقامتها .. والموت أن تخرج الروح من الجسد والبنية سليمة لم تهدم .. الذي يميت هو الله وحده، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
{ { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ .. } [آل عمران: 144].
والنمرود لو قتل هذا الرجل ما كان يستطيع أن يعيده إلى الحياة .. ولكن إبراهيم عليه السلام .. لم يكن يريد أن يدخل في مثل هذا الجدل العقيم .. الذي فيه مقارعة الحجة بالحجة يمكن فيه الجدال ولو زيفاً .. ولذلك جاء بالحجة البالغة التي لا يستطيع النمرود أن يجادل فيها:
{ { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 258].
هذا هو معنى الحاجّة .. كل طرف يأتي بحجته، وما داموا يحاجونكم عند ربكم وهم يعتقدون أن القضية لن تمر أمام الله بسلام لأنه رب الجميع وسينصف المظلوم من الظالم .. إذا كانت هذه هي الحقيقة فهل أنتم تعملون لمصلحة أنفسكم؟ الجواب لا .. لو كنتم تعلمون الصواب ما كنتم وقعتم في هذا الخطأ فهذا ليس فتحاً ..
وقوله تعالى: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 76] ختام منطقي للآية .. لأن من يتصرف تصرفهم ويقول كلامهم لا يكون عنده عقل .. الذي يقول { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } [البقرة: 76] يكون مؤمناً بأن له رباً، ثم لا يؤمن بهذا الإله ولا يخافه لا يمكن أن يتصف بالعقل.