التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى
٤
-طه

خواطر محمد متولي الشعراوي

تنزيلاً: مصدر أي: أنزلناه تنزيلاً، وقد ورد في نزول القرآن: أنزلناه، ونزلناه ونزل، يقول تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ * لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا .. } [القدر: 1-4].
لأن القرآن أخذ أدواراً عِدَّة في النزول، فقد كان في اللوح المحفوظ، فأراد الله له أن يباشر القرآن مهمته في الوجود، فأنزله من اللوح المحفوظ مرة واحدة إلى السماء الدنيا. فأنزله - أي الله تعالى - ثم تَنزَّل مُفرَّقاً حسْب الأحداث من السماء الدنيا على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نزل به جبريل:
{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193].
وقوله تعالى: { مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى } [طه: 4].
خَصَّ السماوات والأرض، لأنها من أعظم خَلْق الله، وقد أعدهما الله ليستقبلا الإنسان، فالإنسان طرأ على كَوْن مُعَدٍّ جاهز لاستقباله، فكان عليه ساعة أنْ يرى هذا الكون المُعدَّ لخدمته بأرضه وسمائه، ولا قدرة له على تسيير شيء منها، كان عليه أن يُعمِلَ عقله، ويستدل بها على الموجد سبحانه وتعالى.
كأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لك: إذا كان الخالق سبحانه قد أعدَّ لك الكون بما يُقيم حياتك المادية، أيترك حياتك المعنوية بدون عطاء؟
والخالق عز وجل خلق هذا الكون بهندسة قيومية عادلة حكيمة تُوفِّر لخليفته في الأرض استبقاءَ حياته، وتعطيه كل ما يحتاج إليه بقدر دقيق، واستبقاء الحياة يحتاج إلى طعام وشراب وهواء، وقد أعطاها الله للإنسان بحكمة بالغة.
فالطعام يحتاجه الإنسان، ويستطيع أنْ يصبر عليه شهراً، دون أن يأكل، ويحتاج إلى الماء ولكن لا يستطيع أنْ يصبر عليه أكثر من عشرة أيام، ويحتاج إلى الهواء ولكن لا يصبر عليه لحظةً تستغرق عِدَّة أنفاس.
لذلك، فمن رحمته تعالى بعباده أنْ يمتلك بعضُ الناس القوتَ، فالوقت أمامك طويل لتحتالَ على كَسْبه، وقليلاً ما يملك أحدٌ الماءَ، أما الهواء الذي لا صَبْر لك عليه، فمن حكمة الله أنه لا يملكه أحد، وإلا لو منع أحد عنك الهواء لمُتَّ قبل أنْ يرضى عنك.
فمن حكمة الله أنْ خلق جسمك يستقبل مُقوِّمات استبقاء الحياة فترة من الزمن تتسع للحيلة وللعطف من الغير، وحين تأكل يأخذ الجسم ما يحتاجه على قَدْر الطاقة المبذولة، وما فاض يُختزَن في جسمك على شكل دُهْن يُغذِّي الجسم حين لا يتوفر الطعام.
ومن عجائب قدرة الله أن هذه المادة الدُّهنية تتحول تلقائياً إلى أي مادة أخرى يحتاجها الجسم، فإن احتاج الحديد تتحول كيماوياً إلى الحديد، وإن احتاج الزرنيخ تتحول كيماوياً إلى زرنيخ، وهي في الواقع مادة واحدة، فمَنْ يقدر على هذه العملية غيره تعالى؟
وبعد أنْ أعطاك ما يستبقي حياتك من الطعام والشراب والهواء أعطاك ما يستبقي نوعك بالزواج والتناسل.
وقوله تعالى: { ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى } [طه: 4] العلا: جمع عُليا، كما نقول في جمع كبرى: كُبَر
{ إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ } [المدثر: 35].
وهكذا تكتمل مُقوِّمات التكوين العالي لخليفة الله في الأرض، فكما أعطاه ما يقيم حياته ونوعه بخَلْق السماوات والأرض، أعطاه ما يُقيم معنوياته بنزول القرآن الذي يحرس حركاتنا من شراسة الشهوات، فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات العلا.
والصفة البارزة في هذا التكوين العالي للإنسان هي صِفَة الرحمانية؛ لذلك قال بعدها:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ... }.