التفاسير

< >
عرض

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ
١٤
-آل عمران

خواطر محمد متولي الشعراوي

الموضوع الذي تأتي فيه هذه الآية الكريمة هو: موقع ذكر المعركة الإسلامية التي جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى الله، وتتطلب خروج الإنسان المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع. والمعارك الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من ماله في تسليح نفسه، وتسليح غيره أيضاً.
فمن يقعد عن الحرب إنسان تغبه شهوات الدنيا، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية التي ترسم طريق الانتصار المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة من متعة القتال في سبيل الله ولإعلاء كلمته فيقول: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ } [آل عمران: 14] وكلمة "زين" تعطينا فاصلاً بين المتعة التي يحلها الله، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر. فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين، فتكون زينتها شيئاً فوق جوهر جمالها.
فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل نأخذها بحقيقتها الاستبقائية فيقول: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ } [آل عمران: 14]. وما الشهوة؟ الشهوة هي ميل النفس بقوة إلى أي عمل ما.
وحين ننظر إلى الآية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت.
وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس، وأن الحيوان يَفْضُل الإنسان فيها، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع بدليل أن الأنثى من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكِّن فحلاً آخر يقرب منها. والفحل أيضاً إذا ما جاء إلى أنثى وهي حامل فهو لا يُقبل عليها، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة.
ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات، ونقول في وصف شهوة الإنسان: إن عند فلان شهوة بهيمية. ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لأن البهيمة قد أخذتها على القدر الضروري، لكن نحن فلسفناها، إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعاً يسمى : دناءة شهوة النفس.
والحق سبحانة وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه، والبقاء له نوعان: أن يُبقِي الإنسان حياته بالمطعم والمشرب، وتبقى حياة النوع الإنساني بالتزاوج.
ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيماً عليماً. إنه يعلم أن طفولة أي حيوان بسيطة بالنسبة لأبيه وأمه، مثال ذلك: الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران، ثم لا تعرف أين ذهب فرخها، لكن حصيلة الالتقاء بين الرجل والمرأة، والتي أراد الله لها أن تنتج الأولاد تحتاج إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد، وذلك ليكون هناك تكافؤ وتناسب بين ما يحرص عليه الإنسان من شهوة، وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل الاستمتاع بها واستبقائها. فقول الحق سبحانه: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ } [آل عمران: 14] فمن المزين؟ إن كان في الأمر الزائد على ضروريات الأمر، فهذا من شغل الشيطان، وإن كان في الأمر الرتيب الذي يضمن استبقاء النوع فهذا من الله.
ونجد الحق يضيف "البنين" إلى مجال الشهوات ويقصد بها الذكران، ولم يقل البنات، لماذا؟ لأن البنين هم الذين يُطلبون دائماً للعزوة كما يقولون ولا يأتي منهم العار، وكان العرب يئدون البنات ويخافون العار، والمحبوب لدى الرجل في الإنجاب حتى الآن هو إنجاب البنين، حتى الذين يقولون بحقوق المرأة وينادون بها، سواء كان رجلاً أو امرأة إن لم يرزقه الله بولد ذكر فإنه أو إنها تريد ولداً ذكراً.
ويضيف الحق إلى مجال الشهوات: { وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ } [آل عمران: 14]، والقناطير هي جمع قنطار، والقنطار هو وحدة وزن، وهذا الوزن حددته كثافة الذهب، إلا أن القنطار قبل أن يكون وزناً كان حجماً، لكنهم رأوا الحجم هذا يزن قدراً كمياً، فانتقلوا من الحجم إلى الوزن.
وكان علامة الثراء الواسع في الزمن القديم أن يأتوا بجلد الثور بعد سلخه ويملأوه ذهباً، وملء جلد الثور بالذهب يسمونه قنطاراً، وكانت هذه عملية بدائية. وبعد ذلك أخذوا ملء الجلد ذهباً ووزنوه فصار وزناً. إذن فالأصل فيه أنه كان حجماً، فصار ووزناً.
وساعة تسمع "قناطير مقنطرة من الذهب والفضة" فهو يريد أن يحقق فيها القنطارية، وذلك يعني أن القنطار المقنطر هو القنطار الكامل الوزن وليس مجرد قنطاراً تقريباً، كما نقول أيضاً: "دنانير مدنرة". وعادة نجد في اللغة العربية لفظاً يأتي من جنس اللفظ يضم إليه كي يعطيه قوة، فيقال "ظل ظليل" أي ظل كثيف، ويقال "ليل أليل" أي أن الليل في ظلمة شديدة، وهي مبالغة في كثافة الظلام.
والظلام على سبيل المثال يحجب الشمس، وحاجب الشمس عنك قد يكون حجاباً واحداً، وقد يكون الشيء الذي يظلك فوقه شيء آخر يظلله أيضاً فيكون الظل ظليلاً، ولذلك يكون الظل تحت الأشجار جميلاً، لأن ورقة تستر الشمس، وورقة أخرى تستر الورقة الأولى، وهكذا، فتصنع تكييفاً طبيعياً للهواء.
ولذلك فهم يصنعون الآن خياماً مكيفة الهواء مصنوعة من قماش فوقه قماش آخر، وبينهما مسافة، فيكون هناك قماش يُظلل ظِلاً آخر، فإذا ما وضعوا قطعة ثالثة من القماش تظل الظلين الأولين، فإن الظل يكون ظليلاً، ولذلك قلنا: إن ظل الأشجار هو ظل ظليل، فيه حنان، فكل ورقة تظل الإنسان تكون نفسها مُظَلَّلة بورقة أخرى، وتكون أوراق الشجر التي تظلل بعضها بعضاً مختلفة الأوضاع، وتعطي الأوراق للنسيم فرصة المرور، أما الخيام فهي تحجب النسيم. والشاعر حين أراد أن يصف الروضة قال:

تصد الشمس أَنَّى واجهتهافتحجبها وتأذن للنسيم

إذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ { مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ } [آل عمران: 14]. وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة" .
قول الحق: { وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ } [آل عمران: 14] نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات متعددة من المعاني، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعي تأكل منها كما تريد، وليست خيلاً مربوطة تأكل ما يُقدم لها فقط، ومسوّمة أيضاً تعني أن لهذا الخيل علامات، فهذا حصان أغرّ، وذلك أدهم وذاك أشقر.
ومسوَّمة أيضاً، أن تكون مروضة، ومدربة، وتم تعليمها، فالأصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة بل مُتوحشة، ولذلك لا بد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان. فكم معنى إذن أعطته لما كلمة "مُسَوَّمَةِ"؟
سائمة، أي تأكل على قدر ما تشتهي لا على قدر ما نعطيها من طعام. ومُعلَّمة أي فيها علامات كالغّرة والتحجيل، وهذا جواد أدهم، وذلك جواد أشقر، أو أنها معلمة أي مروضة. فماذا تتطلب الحرب؟.
إن الحرب تتطلب الانقطاع عن الأهل، فيجب ألا تكون شهوة النفس حاجزاً، سواء كانت شهوة للنساء، أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم، أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن ينفقه في سبيل الله، والخيل أيضاً يستخدمها الإنسان في القتال لإعلاء كلمة الله.
ونلحظ أن هذه الآية - التي تعدّد أنواع الزينة - جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها:
{ { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [آل عمران: 13].
وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحي بشهوته الحقيقية وهي إدراك الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في النساء، وفي البنين، وفي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفي الخيل المسوَّمة والأنعام وقد قال الله عن الأنعام في سورة الأنعام:
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنعام: 143-144].
حساب ذلك هو اثنان من الضأن، واثنان من الماعز، واثنان من الإبل، واثنان من البقر أي ثمانية أزواج. ولا يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديماً، لا؛ إن الزواج لا يعني اثنين من الشيء، ولكن الزوج واحد، ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من جنسه. ومثال آخر هو كلمة "التوأم"، إن التوأم هو واحدٌ معه غيره، وهما توأمان، وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين.
والحق يقول في مجال زينة الشهوات: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } [آل عمران: 14] وحين تسمع كلمة "الحرث" فافهم أن المراد بها هنا الزرع، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن الله حين يُنبت لك أشياء بدون مُعالجتك فإنه يريد منك أيضاً أن تَسْتنبت أشياء بمعالجتك، وهذا لا يتأتى إلا بعملية الحرث.
والحرث هو إهاجة الأرض؛ فالتربة تكون جامدة، فلا بد أن يهيّجها الإنسان بالحرث، أي أن تفك يبوستها وتَلاَصُقَ ذراتها لأن تلاصق ذرات التربة لا يصلح أن يكون بيئة للنبات؛ لأن النبات يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء، ويحتاج من الإنسان أن يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج، وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى.
إذن فالحرث يثير الأرض، ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لأن الله قد أودع في فلقتي كل بذرة مقوّمات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات الحياة من الأرض، وكلما قوي الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلان، وتصيران مجرد ورقتين. فأين يذهب حجم الفلقتين؟
لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الأرض، ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت الأرض محروثة. ولذلك يقولون: إن الأرض الطينية السوداء تكون صعبة، وغير خصبة، ويقال: إن الأرض الرملية أيضاً غير خصبة، لماذا؟.
لأننا نريد صفتين اثنتين في الأرض: الصفة الأولى أن تكون الأرض صالحة أن يتخللها الماء ليشرب الزرع، والصفة الأخرى ألاَّ تُسرب الماء بعيداً، فإذا كانت الأرض طينية فإن جذور الزرع تختنق وتتعطن، وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيداً، لذلك نحتاج في الزراعة الى أرض بين سوداء ورملية، أي أرض صفراء. والله حين يتكلم عن الزرع فإنه يقول: "الحرث" وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعاً لا بد أن يجدّ ويحرث الأرض. وهو سبحانه القائل:
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 63-64].
وعبَِر الحق عن الزواج بالحرث لأنه السبب الذي يُوجِد الزرع. وكل ما تقدم من الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، كل ذلك تكون قيمته عند الإنسان ما يوضحه الحق بقوله: { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14].
إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا تكون عنده، أو أن يفوتها فيموت. وكل ما يفوتك أو تفوته، فلا تعتز به. وعندما نتأمل الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، إنه سبحانه يقول:
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14].
هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه، إنه - سبحانه - يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله، فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟.
لا شك أنه الهوى، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب، ولكل هوى مفتاح، ولكل شخصية من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه، فواحد مفتاحه النساء، وواحد مفتاحه البنون، يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلاً فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلاء. وأناس مفاتيحهم الشخصية في المال، أو في زينة الخيل، والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى.
والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم، فربما كان هناك إنسان لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب، إنما يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب.
إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من يريدون إغراءه وإغواءه. وحين يقول الحق أنَّ هذه الأشياء هي المُزَيِّنة للناس. وقد يقول قائل: إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟
وعلى هذا القول نرد: إن الحق ما دام قد قال: "زُيِّن" وبناها - كما يقول النحاة - للمجهول إي لما لم يُسَمَّ فاعله، فمن الذي زيَّن؟ لقد كان الله قادراً أن يقول لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديداً، لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء، ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو الذي يزين، ألم يقل الحق سبحانه دعاء على لسان عباده الصالحين:
{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان: 74].
إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟ الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل نعمة من نعم الحياة عملاً يعمله الإنسان فيها، فالمرأة إنما اتُّخِذَت سكناً أي ارتياحا عندها، ارتياحاً يعطيك كل الحنان والعطف، وهو سبحانه القائل:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21].
إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلاله، وتصرف المرأة الحلال عَيْنَيْ زوجها عن أعراض الناس. لكن ماذا في الرجل الذي يُحب الأبناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا:
{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [مريم: 4-6].
لقد طلب زكريا عليه السلام ولياً يرثه، والأنبياء لا يُورث منهم أموال، إنما يُورِّثون العلم والحكمة، إذن فقد طلب زكريا عليه السلام أن تُورَث ابنُه الحكمة منه ويرث من آل يعقوب وأن يجعله الله رضِياً. فلو كان الأنبياء يُورِّثون المال، لكان البعض قد فهم أن طلب زكريا للابن كي يرثه في المال، لكن الحق أراد لأنبيائه ألاَّ يُورِّثوا المال، بل يُورِّثون العلم بمنهج الله. وقد طلب زكريا الابن لتثبيت منهج الله في الأرض.
وكذلك الذي يريد الأموال لينفقها في سبيل الله، وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على الجهاد، وكذلك الذي يريد الحرث ليملأ بطون خلق الله بما يَطعَمُون منه، كل هؤلاء ينالهم المدح والجزاء الكثير من الله. لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من الله مُحتملاً أن تتجه به إلى الخير المراد لله، ومحتملاً أن تتجه به إلى الشر المراد لنفسك. وأنت - أيها العبد - حين تنظر إلى أي شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد أنه من الممكن أن تُوَجِّهها وِجْهة خير. يقول الحق:
{ هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان: 74].
لقد أراد الله للأتقياء والأنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج السلوكي ويكونوا مثلا طيبة للناس يقتدون بهم. إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة سلوكية. والذي يحب الخيل يمكن أن يُوجه هذا الحب إلى الخير، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"مِنْ خير معاش الناس لهم رجل يمسك عِنَانَ فرسه في سبيل الله يطير على مَتنه كلما سمع هِيْعَة أو فَزْعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مَظَانَّة" .
وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نُروِّض الخيل، إذن فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء مساراً للخير. وإياكم أن تفهموا أن الله يزهدنا فيها أو ينفرنا منها، ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما خلقه لنا في غير مراده.
ولننظر إلى تعليق الله على الأشياء المُزَيَّنة: { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [آل عمران: 14] أي أن الذي ينظر الى هذه الأشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية سيجدها مجرد متاع، وما عمر هذا المتاع؟ إنه موقوت بالدنيا الفانية. ولننظر إلى الإنسان عندما يُصَعِّدُ في عمله قيمة الخير، وتصعيد قيمة الخير يأتي من تنمية نوعه، أي الزيادة في نوع الخير، ومن استدامته، ومن أن الإنسان لا يترك هذا الخير.
إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه. واستدامة الخير فلا ينقطع، وضمان أن يحيا الإنسان للخير ويعيش له، وألاَّ يذهب الخير عنه، وأمر رابع هو ألاَّ تربط هذا الخير بأغيار، أي أن تربطه بواحد قوي يأتي لك به، فقد يضعف، أو يمرض، أو يغيب، أو يغدر بك.
إذن فلا بد من أربعة عناصر: الأول: تصعيد الخير، أي نوع الخير الذي تفعله يكون أرقى من خير آخر، فنعمل دائماً على زيادته وتنميته. والثاني: استدامة الخير. والثالث: أن تدوم أنت للخير، وتحرص على أن تعيش له، والأمر الرابع: ألاَّ تربط هذا الخير بالأغيار. بل عليك أن تعتمد على الله ثم على نفسك.
وكل الخير يأتي دون هذا فهو غير حقيقي. فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال والبنين والخيل والأنعام والحرث فإنها ستعطيك متاعَ الدنيا. ولنسلم جدلاً أن شيئاً لن يسلبك هذه الأشياء وأنت حيّ، وأنها ستظل معك طيلة دنياك. فما قيمة الدنيا وهي مقاسة بآلاف السنين، والإنسان لا يعيش فيها إلا قدراً محدداً من الأعوام يقرره الحق سبحانه وتعالى.
إذن فالدنيا تقاس بعمر الإنسان فيها لا بعمر ذات الدنيا لغيره، لأن عمر الدنيا لغيرك لا يخصك. هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة وحرث وأنعام وعدة وعتاد قد دامت لك، فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة. ولا أحد يستطيع أن يستديم الدنيا، لذلك فلن يستطيع أحد أن يستديم الخير لأن عمره في الدنيا محدود.
وحياة الإنسان في الدنيا لم يضع الله لها حداً يبلغه الإنسان. إن الله لم يحدد عمراً يموت فيه الإنسان، ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصٌ محدود بحياته، فعندما يولد أي طفل لا تنزل معه بطاقة تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا.
وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهماً لكل إنسان، ولذلك يقال إن الإبهام هو أعلى درجات البيان، الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن الإنسان. متى يأتي؟ في أي مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقباً للموت في كل لحظة.
إن الإبهام للموت هو البيان الوافي، وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير مضمونة للإنسان أن يحياها، ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته، وإن لم تذهب الدنيا من الإنسان فالإنسان نفسه يذهب منها. فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة التي نحياها الآن، إنّ اسمها "الدنيا" أي "السفلى" ومقابل "الدنيا" هو "العليا" وهي الحياة في الآخرة. ولماذا هي "عليا"؟ لأنها ستصعد الخير.
فبعد انقضاء هذه الحياة المحدودة, يذهب المؤمن إلى الجنة وبها حياة غير محدودة، وهذا أول تصعيد. ويضمن المؤمن أن أكلها دائم لا ينقطع. ويضمن المؤمن أنه خالد في الجنة فلا يموت فيها. ويضمن المؤمن قيمة هذه الجنة؛ لأن الخير إنما يأتي على مقدار معرفة الفاعل للخير. ومعرفة الإنسان للخير جزئية محدودة، ومعرفة الله للخير كمال مطلق.
فالمؤمن في الآخرة يتنعم في الخير على مقدار ما علم الله من الخير. إذن فحياتنا هي الدنيا، أي السفلى، وهناك الآخرة العليا. فإذا طلب المنهج منا ألاَّ ننخدع بالدنيا، وألاَّ ننقاد إلى المتاع فهل هذا لون من تشجيع الحب للنفس أو تشجيع للكراهية للنفس؟
إنه منهج سماوي يقود إلى حب النفس؛ لأنه يريد أن يُصَعِّد الخير لكل مؤمن، لقد بَيَّن المنهج أن في الدنيا ألواناً من المتع هي كذا وكذا وكذا، والدنيا محدودة ولا تدوم لإنسان، ولا يدوم إنسان لها، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على قدر الإنسان، أما إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق المربي، فمن المنطقي جداً أن يقول الله لنا: { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14]. وحسن المآب تعني حسن المرجع.
والحق حينما طلب منك أيها المؤمن أن تغض بصرك عما لا يحل لك، فقد يظن الإنسان السطْحي أن في ذلك حجراً على حرية العين، ولكن هذا الغض للبصر أمر به - سبحانه - إنما ليملأ العين في الآخرة بما أحل الله، إذن فهذا حب من الله للمخلوق وهذا تصعيد في الخير.
ولنفترض أن معك مبلغاً قليلاً من المال وقابلت فقيراً مسكيناً فآثرت أنت هذا الفقير على نفسك، فأنت تفعل ذلك لتنال في الآخرة ثواباً مضاعفاً. إذن فقضية الدين هي أنانية عالية سامية، لا أنانية حمقاء. ويوضح الله بعد ذلك حسن المآب بقوله سبحانه:
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ ... }.