التفاسير

< >
عرض

وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٤٦
-آل عمران

خواطر محمد متولي الشعراوي

الكلام: معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع، وقول الحق: { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ } [آل عمران: 46]، معناه أن المواجه لعيسى عليه السلام في المهد هم الناس و"المهد" هو ما أعد كفراش للوليد. ولقد أورد الحق "المهد وكهلاً" رمزية لشيء، وهي أن عيسى ابن مريم من الأغيار، يطرأ عليه مرة أن يكون في المهد، ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهلاً، وما دام في عالم الأغيار فلا يصح أن يفتتن به أحد ليقول إنه "إله" أو "ابن إله".
ونفهم أيضاً من { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ } [آل عمران: 46] سر وجود آية المعجزة التي وهبها له الله وهو طفل في المهد. لأن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها، فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو عجباً من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا الوليد أو زواج لها. وهذه المسألة لم نجد لها وجوداً. مع أنها مسألة كان يجب أن تقال لأنهم يمجدون نبيهم، وكان من الواجب ألا يغفلوا عن هذه العجيبة، إن كلام طفل في المهد لما كان أمراً عجيبا كان لا بد أنّه سيكون محل حفظ وتداول بين الناس، ولن يكتفي الناس برواية واقعة كلامه في المهد فقط، بل سيحفظون ما قاله، ويرددون قوله.
والكلمة التي قالها عيسى عليه السلام في المهد لا تسعف من يصف عيسى عليه السلام بوصف يناقض بشريته؛ لأن الكلمة التي نطق بها أول ما نطق: إني عبد الله، فأخفوا هم هذه المسألة كلها لأن هذه الكلمة تنقض القضية التي يريدون أن يضعوا فيها عيسى عليه السلام، إن الحق يقول: { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } [آل عمران: 46].
ونعرف أن الكلام في المهد أي وهو طفل و"كهلاً" أي بعد الثلاثين من العمر, أي في العقد الرابع. والبعض قد قال: إن الكهولة .. بعد الأربعين من العمر. وهو قد حدثت له في رواياتهم حكاية الصلب قبل أن يكون كهلاً، فإذا كان قد تكلم في المهد فيبقى أن يتكلم وهو كهل، وقالوا إن حادثة الصلب أو عدم الصلب، أو الاختفاء عن حس البشر قد حدثت قبل أن يكون كهلاً، إذن فلا بد أن يأتي وقت يتكلم فيه عيسى بن مريم عندما يصير كهلاً، وأيضاً قوله الحق: { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } [آل عمران: 46] أي أنه تكلم في المهد طفلاً ويتكلم كهلاً، أي ناضج التكوين، وبذلك نعرف أن عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال، فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل الألوهية في المهد هي الألوهية في الكهولة؟
إن كانت الألوهية في المهد فقط فهي ناقصة لأنه لم يستمر في المهد، وحدثت له أغيار، وما دام قد حدثت له أغيار فهو محدث، وما دام محدثاً فلا يكون إلهاً، وبعد ذلك يقول الحق عن عيسى ابن مريم: { وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [آل عمران: 46] ما حكايتها؟
إن العجيبة التي قال عنها الله: إنه يكلم الناس في المهد لم تكن باختياره، وكلامه وهو كهل سيكون بالوحي، أي ليس له اختيار فيه أيضاً، { وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [آل عمران: 46] مقصود بها عمله، أي الحركة السلوكية. لماذا؟ لأنه لا يكفي أن يكون مبلغاً، ولا يكفي أن يكون حامل آية، بل لا بد أن يؤدي السلوك الإيماني.
ويقول الحق على لسان مريم البتول:
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ... }.