التفاسير

< >
عرض

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٩١
-آل عمران

خواطر محمد متولي الشعراوي

لقد كفروا، ولم يقدر الله لهم أن يتوبوا، فماتوا على الكفر، ويريد الله أن يعطينا حكماً خاصاً بعملهم في الدنيا، وحكماً خاصاً بما يتلقونه من عذاب في الآخرة، والحكم الخاص بعملهم في الدنيا سببه أن لهم اختياراً، والحكم الخاص بما يتلقونه في الآخرة من عقاب لأنه لا خيار لهم، وهنا للعلماء وقفة، فهل ملء الأرض ذهباً أنهم أنفقوا في حياتهم ملء الأرض ذهباً؟ نقول له: لا ينفعك هذا الإنفاق في أعمال الخير لأن أعمالك حابطة.
هب أن كافراً مات على الكفر وقد أنفق في الخير ملء الأرض ذهباً، نقول له: هذا الإنفاق لا ينفع مع الخيانة العظمى وهي الكفر، فما دام غير مؤمن بإله، فهو قد أنفق هذا المال من أجل الناس، وصار منفقاً على من لا يقدر على أن يجازيه بالخير في الآخرة، لذلك فليس له عند الله شيء، فالذي يعمل عملاً، عليه أن يطلب أجراً ممن عمل له، فهل كان الله في بال ذلك الكافر؟ لا؛ لأنه مات على الكفر، لذلك لو أنفق ملء الأرض ذهباً فلن يقبل منه. لقد صنع ذلك الخير وفي باله الناس، والناس يعطونه حقه من الثناء، سواء كان مخترعاً أو محسناً أو غير ذلك، إنه ينال أجره من الإنسانية، وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وفعلت ليقال وقد قيل". (من حديث شريف).
كأن الله يقول له: لم أكن في بالك فلماذا تطلب مني أجراً في الآخرة، لم يكن في بالك أن الملك لي، قال سبحانه:
{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
وبعض الناس يقول: كيف لا ينال ثواب الآخرة من ملأوا الدنيا بالاكتشافات والابتكارات وخففوا بها آلام الإنسانية؟ ونقول: لقد أعطتهم الإنسانية وخلدت ذكراهم، وأقامت لهم التماثيل والمؤلفات والأعياد والجوائز، لقد عملوا للناس فأعطاهم الناس، فلا بخس في حقوقهم، ذلك أنهم لم يعملوا وفي بالهم الله، وقد صور الحق موقفهم التصوير الرائع فيقول جل شأنه:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
إنه سراب ناتج عن تخيل الماء في الصحراء يتوهمه السائر العطشان في الصحراء نتيجة انعكاسات الضوء، فيظل السائر متجهاً إلى وهم الماء، إنه يصنع الأمل لنفسه، فإذا جاءه لم يجده شيئاً، ويفاجأ بوجود الله، فيندم ويتلقى العذاب، وكذلك لن يقبل منه ملء الأرض ذهباً لو أنفقه في أي خير في الدنيا، وبعد ذلك لن يقبل الله منه ملء الأرض ذهباً، لو افتدى به نفسه في الآخرة، إن كان سيجد ملء الأرض ذهباً، وعلى فرض أنه قد وجد ملء الأرض ذهباً، فهل يجد من يقبل ذلك منه؟ لا، إنّه في الحقيقة لن يجد الذهب؛ لأنه في الآخرة لم يعد يملك شيئاً: يقول الحق:
{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
ويقول سبحانه:
{ { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
{ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [آل عمران: 91] أي إن لهؤلاء عذاباً أليماً؛ لأن كل حدث من الأحداث إنما يأخذ قوته من قوة فاعله، فإذا كان الحدث التعذيبي منسوباً إلى الله وله مطلق القوة والقدرة، لذلك فالعذاب لن يطاق. ولن يجد الظالم من يدرأ عنه هذا العذاب. لأنه لن يجد ناصراً له، ولن يجد شفيعاً فلن يأتي أحد ويقول: إن فلاناً يتعذب فهيا بنا ننصره، لا يأتي أحد لينصره.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
{ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ... }.