التفاسير

< >
عرض

لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً
٨
-الأحزاب

خواطر محمد متولي الشعراوي

اللام هنا في { لِّيَسْأَلَ .. } [الأحزاب: 8] لام التعليل، فالمعنى أننا أخذنا من النبيين الميثاق، لكن لن نتركهم دون سؤال { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ .. } [الأحزاب: 7] لماذا؟ { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ .. } [الأحزاب: 8] لكن إذا كان المبلِّغ صادقاً، فكيف يسأل عن صدقه؟
سؤال الصادق عن صِدْقه ليس تبكيتاً للصادق، إنما تبكيتاً لمن كذَّب به، سنسأل الرسل: أبلغتم هؤلاء؟ ويقول تعالى:
{ { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ .. } [المائدة: 109] ويسأل الله القوم: { { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا .. } [الأنعام: 130].
فالاستفهام هنا للتقريع والتبكيت لمن كذَّب.
أو: يكون المعنى { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ .. } [الأحزاب: 8] أي: أنتم بشَّرتم بأن الإله واحد، فأنتم صادقون؛ لأنكم أخذتُمْ هذه مني، ولما قامت الساعة ولم تجدوا إلهاً آخر يحمي الكافرين، إذن: فقد صدقت فيما أخبرت به، وصدقتم فيما بلغتم عني، حيث لم تجدوا في الآخرة إلا الإله الواحد.
لذلك يقول سبحانه:
{ { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } [النور: 39] ولو كان معه سبحانه إله آخر لَدافع عن هؤلاء الكافرين، ومنعهم من العذاب.
كذلك يسأل الرسل عن البعث الذي وعد الله به، وبلَّغوه لأممهم، وعن الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، وكأن الحق سبحانه يسألهم: هل تخلَّف شيء مما أخبرتكم به؟ هل قصرت في إثابة المحسن أو معاقبة المسيء؟ إذن: صدق كلامي كله.
كما تجلس مع ولدك مثلاً تراجع معه المواد الدراسية، وتحثُّه على المذاكرة فيُوفَّق في الامتحان، ثم تسأله: ماذا فعلت في إجابة السؤال الفلاني؟ فأنت لا تقصد الاستفهام، إنما تستعيد معه أمجاد ما أنجزه بالفعل تسأله عن توفيق الله له، كذلك الحق سبحانه يستعيد مع الرسل وَقَفْتهم لدين الله وإعلاءَهم كلمة الحق في هذه الساعة ولا مردَّ لها.
إذن: فسؤال الصادقين عن صدقهم تكريم لهم، وشهادة بأنهم أدَّوْا ما عليهم، وهو كذلك تبكيت لمن كذَّب بهم.
ثم يقول سبحانه: { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } [الأحزاب: 8] والفعل الماضي هنا دليل على أن كل شيء معدٌّ وموجود سَلَفاً، ولن ينشىء الحق سبحانه شيئاً جديداً، كذلك قال عن الجنة
{ { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133].
وسبق أنْ أوضحنا أن الله تعالى خلق الجنة لتسع الناس جميعاً إنْ آمنوا، وخلق النار كذلك تسع الناس جميعاً إنْ كفروا، يعني: لن تكون هناك أزمة أماكن، فإذا ما أخذ أهل الإيمان أماكنهم من الجنة تتبقى أماكن الذين كفروا شاغرة، فيقول تعالى للمؤمنين: خذوها أنتم:
{ { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف: 72].
وقد وصف العذاب مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، ومرة بأنه شديد، ولكل منها ملحظ، فالأليم يُلحظ فيه القسوة والإيلام، والعذاب المهين يُلحظ فيه إهانة المعذَّب والنيل من كرامته، فمن الناس مَنْ يحاول التجلُّد، ويُظهر تحمل الألم وعدم الاكتراث به، في حين يؤلمه أنْ تنال من كرامته، فيناسبه العذاب المهين.
لذلك يُرْوى في التجلد أن رجلاً دخل على معاوية في مرضه، وهو يُظهر للناس أنه بخير وصحته على ما يرام، فقال له الرجل:

وَإذَا المنيَّةُ أنْشَبَتْ أظْفَارهاألفيْتَ كُلَّ تَميمةٍ لاَ تَنْفَعُ

ففطن معاوية إلى مقصده، وأجابه من نفس قصيدة أبي ذؤيب:

وَتجلُّد للِشَّامِتيِنَ أُريهُمواأنِّي لريْبِ الدهْرِ لاَ أَتَضَعْضَعُ

أما العذاب العظيم فَلِعظمه في ذاته، ولكبر حجمه يعني ليس صغيراً، أو يكون صغير الجرم، لكن عظمته في صفاته، أو في بقاء أثره زمن طويل.
ويُوصَف العذاب بأنه شديد لشدة المعذِّب سبحانه؛ لأنه سبحانه إذا أخذ فأَخْذه أَخْذ عزيز مقتدر.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ... }.