التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
١
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ .. } [سبأ: 1] جملة قائلُها الحق سبحانه، فهل قالها لنفسه أم قالها ليُعلِّمنا نحن أنْ نقولها؟ قالها ليُعلِّمنا. والحمد أنْ تأتي بثناء على مستحق الثناء بالصفات الجميلة. ومقابله: الذم، وهو أنْ تأتي لمستحقِّ الذم بالصفات القبيحة، وتنسبها إليه.
وأنت قد تحمد شيئاً لا علاقةَ لك به، لمجرد أنه أعجبك ما فيه من صفات، فاستحق في نظرك أنْ يُحمد، كأن تحمد الصانع على صَنْعة أتقنها مثلاً، وإنْ لم تكُنْ لك علاقة بها.
إذن: فالحمد مرة يكون لأن المحمود فيه صفات تستحق الحمد، وإنْ لم تَصِلْ إليك، فكيف إذا كانت صفات التحميد والتمجيد والتعظيم أثرها واصلَ إليك؟ لا شكَّ أن الحمد هنا أوجب.
لذلك نقول: كل حمد ولو توجَّه لبشر عائد في الحقيقة إلى الله تعالى؛ لأنك حين تحمد إنساناً إنما تحمده على صفة وهبها الله له، فالحمد على إطلاقه ولو لمخلوق حَمْدٌ لله.
وكلمة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ .. } [سبأ: 1] وردت في القرآن ثمان وثلاثون مرة، وخُصَّتْ منها في فواتح السور خمس مرات: في الفاتحة: والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر.
والحق سبحانه بدأ بالحمد؛ لأنه بدأ خَلْقه من عدم فله علينا نعمة الخَلْق من عدم، ثم أمدَّنا بمقومات الحياة فوفَّر لنا الأقوات التي بها استبقاء الحياة، ثم التناسل الذي به استبقاء النوع، هذا لكيان الإنسان المادي، لكن الإنسان مطلوب منه حركة الحياة، وهو يعيش مع آخرين فلا بدَّ أنْ تتساند حركاتهم لا تتعاند، لا بُدَّ أن تنسجم الحركات وإلا لتفانى الخَلْق.
وهذا التساند لا يتأتَّى إلا بمنهج يُحدِّد الحركات، ويحكم الأهواء، وإلا لجاء واحد يبني، وآخر يهدم. هذا في الدنيا، أما في الحياة الآخرة فسوف يُعِدُّنا لها إعداداً آخر، ويعيدنا إلى خير مما كنا فيه؛ لأننا نعيش في الدنيا بالأسباب المخلوقة لله تعالى، أما في الأخرة فنعيش مع المسبِّب سبحانه مع ذات الحق.
نحن في الدنيا نزرع ونحصد ونطبخ ونخبز ونغزل .. إلخ، هذه أسباب لا بُدَّ من مزاولتها، لكنك في الآخرة تعيش بكُنْ من المسبِّب، في الدنيا تخاف أنْ يفوتك النعيم أو تفوته أنت، أما في الآخرة فنعيمها بَاقٍ لا يزول ولا يحول، في الدنيا تتمتع على قَدْر إمكاناتك، أما في الآخرة فتتمتع على قَدْر إمكانات ربك.
فالحق سبحانه أوجدنا من عدم، وأمدنا من عُدْم، ووضع لنا المنهج الذي يحفظ القيم، ويُنظِّم حركة الحياة قبل أن تُوجد الحياة، فقبل أنْ يخلقك خلق لك كالصانع الذي يُحدِّد مهمة صنعته قبل صناعتها، وهل رأيتم صانعاً صنع شيئاً، ثم قال: انظروا في أيِّ شيء يمكن أن يستخدم؟
لذلك قال تعالى:
{ { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [الرحمن: 1-4] فالمنهج المتمثل في القرآن وُضِع أولاً ليحدد لك مهمتك وقانون صيانتك، قبل أن تُوجَد أيها الإنسان.
والمتأمل لآيات الحمد في بدايات السور الخمس يجد أنها تتناول هذه المراحل كلها، ففي أول الأنعام:
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 1].
تكلَّم الحق سبحانه عن بَدْء الخَلْق، ثم قال:
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ .. } [الأنعام: 2] وهذا هو الإيجاد الأول.
ثم في أول الكهف يذكر مسألة وَضْع المنهج والقيم:
{ { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف: 1].
هذا هو القانون الذي يحكم الأهواء، ويُنظِّم حركة الحياة لتتساند ولا تتعاند.
وفي أول سورة سبأ التي نحن بصددها يذكر الحمد في الآخرة: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ .. } [سبأ: 1] وحين تنظر إلى الحمد في الآخرة تجده حَمْداً مركباً مضاعفاً؛ لأنك في الدنيا تحمد الله على خَلْق الأشياء التي تتفاعل بها لتعيش بالأسباب، لكن في الآخرة لا توجد أسباب، إنما المسبِّب هو الله سبحانه، فالحمد في الآخرة أكبر حَمْداً يناسب عَيْشَك مع ذات ربك سبحانه.
وفي أول فاطر:
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ .. } [فاطر: 1].
نحمد الله على القيم، وعلى المنهج الذي وضعه لنا الحق سبحانه بواسطة الملائكة، والملائكة هم رسل الله إلى الخَلْق، ومنهم الحفظة، ومنهم المدبِّرات أمراً التي تدبر شئون الخَلْق، ومنهم مَنْ أسجدهم الله لك.
ثم جاءت أم الكتاب، فجمعت هذا كله في:
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2] والربّ هو الخالق الممدّ { { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 3-4] أي: في الآخرة، ثم ذكرت وجوب السير على المنهج { { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 5-7].
ولأنها جمعتْ البداية والنهاية، والدنيا والآخرة سُمِّيت فاتحةَ الكتاب، وسُمِّيت المثاني، وسُمِّيت أم القرآن.
فقوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ .. } [سبأ: 1] علَّمنا الله تعالى أن نقولها؛ لأن الناس مختلفون في المواهب، وفي الملَكات، وفي حُسْن الأداء، وفي صياغة الثناء، فلا يستوي في الحمد والثناء الأديب والأُميُّ الذي لا يجيد الكلام؛ لذلك قال الله لنا: أريحوا أنفسكم من هذه المسألة، وسوف أُعلمكم صيغة يستوي فيها الأديب الفيلسوف مع راعي الشاة، وسوف تكون هذه الصيغة هي أحبّ صِيغ الحمد إليَّ، هذه الصيغة هي { ٱلْحَمْدُ للَّهِ .. } [سبأ: 1].
لذلك جاء في الحديث قول سيدنا رسول الله في حمد ربه، والثناء عليه: "سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" فحين أقول خطبة طويلة في حمد الله والثناء عليه، وتقول أنت: الحمد لله لا أقول لك قصَّرت في حمد ربك، وكأن هذه الصيغة وتعليمها لنا نعمة أخرى تستحق الحمد؛ لأنها سوَّتْ الجميع، ولم تجعل لأحد فضلاً على أحد في مقام حمد الله والثناء عليه.
وحين تحمد الله على أن علَّمك هذه الصيغة، بماذا تحمده؟ تحمده بأن تقول الحمد لله. إذن: هي سلسلة متوالية من الحمد لا تنتهي، الحمد لله على الحمد لله، ومعنى ذلك أنْ تظل دائماً حامداً لله، وأنْ يظلَّ الله تعالى دائماً وأبداً محموداً.
كما قُلْنا: إن اختلاف المواقيت في الأرض واختلاف المشارق والمغارب إنما جُعِلَتْ لتستمر عبادة الله لا تنقطع أبداً في كل جزئيات الزمن، ففي كل لحظة صلاة، وفي كل لحظة الله أكبر، وفي كل لحظة أشهد ألا إله إلا الله، وفي كل لحظة أشهد أن محمداً رسول الله ... إلخ لتظل هذه الألفاظ وهذه العبادات دائرة طوال الوقت، فالكون كله يلهج بذكْر الله وعبادة الله في منظومة بديعة، المهم مَنْ يُحسِن استقبالها، المهم صفاء جهاز الاستقبال عندك.
وقوله سبحانه { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ .. } [سبأ: 1] بيَّنَّا أن الحمد في الآخرة أكبر وأعظم من الحمد في الدنيا؛ لأنك في الدنيا تعيش بالأسباب، أما في الآخرة فتعيش مع ذات المسبِّب سبحانه، في الدنيا نعيم موقوت، وفي الآخرة نعيم باقٍ، في الدنيا فناء، وفي الآخرة بقاء؛ لذلك قال سبحانه عن الآخرة:
{ { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 10].
وقال سبحانه حكايةً عن المؤمنين في الآخرة:
{ { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } [الزمر: 74].
وقالوا:
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ .. } [الأعراف: 43].
فإنْ قُلْت: فما وجه الحمد في أن الله تعالى يملك السماوات والأرض؟ نقول: فَرْق بين أنْ يخدمك في الكون مَا لا تملك، وبين أنْ يخدمك ما تملك، فالعظمة هنا أنك تنتفع هنا بما لا تملك، فالسماوات والأرض مِلْك لله، ومع ذلك هي في خدمتك أنت، وليست العظمة من أنْ يخدمكَ ما تملكه.
لذلك قالوا لأحد الناس: لماذا لا تشتري لك سيارة؟ قال: والله الإخوان كثيرون، وكلهم عندهم سيارات، وكل يوم أركب سيارة واحد منهم، ولا يغرمني هذا شيئاً. إذن: انتفاعك بما يملك الغير أعظمُ من انتفاعك بما تملك أنت، وملْك الله جُعل لصالحنا نحن، وهذه تستحق الحمد، فاللهم لا تحرمنا نعمك.
ملحظ آخر أن الحق سبحانه يريد أن يُطمئِنَ العبادَ، فمُلْك السماوات والأرض لله وحده، ولو كانت لغيره لمنعنا منها، فكأن ربك يقول لك: اطمئن فهذا ملْكي وأنا ربك ولن أتخلى عنك أبداً، وليس لي شريك ينازعني، فيمنع عنك خيراتي، فأنا المتفرِّد بالملْك والسلطان.
لذلك، فالحق سبحانه حين يقول للشيء:
{ { كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47] ما قال (كُنْ) إلا لأنه سبحانه يعلم أنه لا يستطيع ألاَّ يكون، والدليل قوله تعالى عن الأرض { { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [الانشقاق: 2] أي: أصغتْ السمع، وحَقَّ لها ذلك، فما قال سبحانه لشيء كُنْ إلا وهو واثق أنه لا يخرج عن أمره.
لذلك سبق أن قُلْنا: إن الحق سبحانه حين طلب منا أنْ نشهد أنه لا إله إلا هو شهد بها لنفسه أولاً، فقال:
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ .. } [آل عمران: 18] وهذه شهادة الذات للذات، ولذلك تصرَّف سبحانه في الملك تصرُّف مَنْ لا شريكَ له، فلم يقُل شيئاً أو يحكم حكماً، ثم خاف أن ينقضه أحد أو يعدله.
ثم شهدتْ بذلك الملائكة، ثم شهد بذلك أولو العلم من عباده
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ .. } [آل عمران: 18].
فشهادة الله شهادة الذات للذات، وشهادة الملائكة شهادة المشهد، وشهادة أُولي العلم شهادة العلم والدليل.
ونلحظ أيضاً أن الحق سبحانه قال: { ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ .. } [سبأ: 1] فكرَّر الاسم الموصول (ما) ولم يقُلْ له ما في السماوات والأرض، كما جاء في قوله سبحانه في التسبيح: مرة:
{ { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ .. } [الجمعة: 1].
ومرة:
{ { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الحشر: 24].
وفَرْق بين التعبيرين؛ لأن هناك خَلْقاً مشتركاً بين السماء والأرض، وهناك خَلْق خاص بالسماء، وخَلْق آخر خاص بالأرض، فإنْ أراد الكل قال:
{ { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الحشر: 24]، وإنْ أراد الاختلاف كلاً في جهته، قال { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ .. } [سبأ: 1].
والسماوات والأرض ظرف لما فيهما من خيرات، والذي يملك الظرف والمكان يملك المظروف فيه، فالحيز هنا مشغول.
ثم يقول سبحانه تذييلاً لهذه الآية { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [سبأ: 1] الحكيم: هو الذي يضع الشيء في مكانه وموضعه المناسب، ولا يتأتّى هذا إلا لخبير يعلم الشيء، ويعلم موضعه الذي يناسبه؛ لذلك قال سبحانه { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [سبأ: 1] الذي لديه خِبْرة بدقائق الأشياء وبواطنها.
ثم أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجاً لهذه الحكمة ولهذه الخبرة، فقال سبحانه:
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ... }.