التفاسير

< >
عرض

وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٦
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

هنا تثبيت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن ربه - عز وجل - يقول له: يا محمد لا تيأس من هؤلاء الذين سَعَوْا في آياتنا معاجزين ولا تهتم، فإن الذي جعل من الكفرة مَنْ يسعون بالفساد ويُعاجزون خالقهم جعل أيضاً لك مَنْ ينصر دعوتك ويؤيدك من الذين يؤمنون بآيات الله، ويعلمون أنها الحق، وأن مَا يقوله هؤلاء من الهراء، وهو الباطل.
فكما أثبتَ لهم سَعْياً في الباطل ومعاجزة أثبتَ للمؤمنين العلم بآيات الله وتصديقها والاعتراف بأنها الحق، وطمأن رسول الله أن هؤلاء لن يفسدوا عليك أمرك، ولن يُطفئوا نور الله، كما قال سبحانه:
{ { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [الصف: 8].
وقال:
{ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33].
فقوله تعالى: { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ .. } [سبأ: 6] أي: يشهدون لك بأنك على الحق، وأنك جِئتَهم بمنهج هو الحق، ويهدي إلى صراط مستقيم. إذن: فضَعْ هؤلاء قبالة الذين سعَوْا في آياتنا معاجزين، واعقد مقارنة بين هؤلاء وهؤلاء.
فالكفار الذين سَعَوْا في آياتنا بالفساد مُجرَّدون عن معونة القدرة، بل إن القدرة ضدهم ولهم بالمرصاد، أما الذين أوتوا العلم وشهدوا لرسول الله، فهم مُؤيِّدون للقدرة الإلهية، والقدرة معهم تساندهم، فأيُّ الكِفَّتين أرجح؟
ومعنى: { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } [سبأ: 6] الذين أوتول العلم من المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم الذين صدَّقوه وصدَّقوا معجزته ورسالته. أو: الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب اليهود أو النصارى، فالمنصفون منهم يعلمون صِدْق رسول الله، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم وهم الذين ذهبوا إلى يثرب قبل بعثة رسول الله ينتظرون بعثته، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا يقولون: لقد أظلّ زمن نبي جديد نتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم
{ { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ .. } [البقرة: 89].
لذلك يقولون القرآن في جدال الكافرين:
{ { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ .. } [الرعد: 43] أي: رداً عليهم { { كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ .. } [الرعد: 43] أي: الله الذي أرسلني بالمعجزة { { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } [الرعد: 43] أي: من اليهود والنصارى، أهل التوراة والإنجيل.
والعلم: هو كل قضية مجزوم بها، وهي واقعة وعليها دليل، وغير ذلك لا يعتبر عِلْماً، فالقضية إنْ لم يكُنْ مجزوماً بها فلا تدخل في العلم، إنما هي في الشك، أو في الظن، أو في الوهم، فإنْ كانت القضية مجزوماً بها، لكن ليس لها واقع، فهذا هو الجهل.
لذلك سبق أن قلْنا: ليس الجاهل هو الذي لا يعلم، إنما الجاهل الذي يعلم قضية منافية للواقع، أما الذي لا يعلم فهو الأميُّ خالي الذِّهْن تماماً؛ لذلك يقبل منك ما تقول، على خلاف الجاهل الذي ينبغي عليك أنْ تثبت له خطأ قضيته أولاً، ثم تقنعه بما تريد.
فإنْ كانت القضية مجزوماً بها ولها واقع، لكن لا تستطيع أنْ تُدلِّل عليها، فهي تقليد كالولد الذي نلقنه مثلاً
{ { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [الإخلاص: 1-2] فيحفظها كما هي، لكن لا يستطيع أنْ يقيم الدليل عليها، فهو إذن مُقلد لمن يثق فيه وفي إخلاصه له، كأبيه أو مُعلمه، فإنْ وصل الولد إلى مرحلة يستطيع فيها أنْ يُدلِّل على صِدْق هذه القضية فقد وصل إلى مرتبة العلم.
والعلم وإنْ كان أنواعاً كثيرة، إلا أنه يمكن حَصْره في العلم الشرعي والعلم الكوني: العلم الشرعي أو علم الشرع، ومصدره السماء يُبلِّغه رسول بمعجزة، ولا دَخْلَ لأحد فيه، وليس للبشر في علم الشرع إلا النقل والرواية، والبلاغ من الرسول، وهذا العلم هو الذي يُحدِّد لنا الحلال والحرام، وقد جاء العلم الشرعي لا ليتدخل في العلم الكوني، إنما جاء ليضبط الأهواء المختلفة؛ لذلك يختلف الناس في هذا العلم.
أما العلم الكوني فهو العلم الذي يبحث في أجناس الوجود كلها: في الجماد، وفي النبات، وفي الحيوان، وفي الإنسان، فهذا العلم يقوم على نشاط العقل، ولا يختلف الناس فيه؛ لأنه مادىٌّ يعتمد على البحث والتجربة والملاحظة؛ لذلك يتنافس فيه الناس، وربما سرقوه بعضهم من بعض.
وبهذا العلم الكوني يُرَقِّي الإنسان حياته، فالخالق عز وجل أعطاك كل مُقوِّمات الحياة وضرورياتها، وعليك إنْ أردتَ رفاهية الحياة أن تُعمِل عقلك وفكرك في معطيات الكون من حولك لتكتشف ما لله تعالى في كونه من أسرار وآيات تُرقِّي بها حياتك.
ففي الماضي، كان الإنسان مثلاً إذا أراد الماء يذهب إلى النهر أو إلى البئر، فإنْ عَزَّ عليه الماء طلب السُّقْيا من الله، وتوجَّه إليه بالدعاء ولا شيء آخر، فلما تطورتْ الوسائل وتوصَّل الإنسان إلى خواصِّ الماء واستطراقه من أعلى إلى أسفل، واستحدث الخزانات والمواسير، وصار يستقبل الماء في بيته بمجرد فَتْح صنبور المياه أصبح إذا انقطعت عنه المياه لا يقول: يا ربِّ اسقنى. إنما يبحث عن سبب انقطاعها، أهو في (ماسورة) كُسِرت؟ أم أن الكهرباء انقطعت فعطلتْ موتور الرفع؟ أم أن محطة المياه تعطلت؟ .. إلخ.
إذن: كلما تقدمتْ الحضارة ووسائل المدنية بَعُدت الصِّلات بيننا وبين الله.
وهذا العلم الكوني الذي يقوم على الفكر وإعمال العقل لا دَخْلَ للسماء فيه، ويستوي فيه المؤمن والكافر، فمَنْ سعى إليه وأخذ بأسبابه أعطتْه الأسباب؛ لذلك وجدنا معظم الاختراعات والاكتشافات جاء بها علماء كفرة لا يؤمنون بالله، كالكهرباء والتليفون والتلغراف وغيرها.
فمعنى: { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ .. } [سبأ: 6] أى: العلم الشرعي، وهم الذين آمنوا بك وصدَّقوك بالمعجزة على أنك رسول الله، وأن ما جئتَ به هو الحق { ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ .. } [سبأ: 6].
وكذلك الذين أوتوا العلم الكوني لهم دَوْر في تصديق الرسل وتأييدهم بما أوتوا من العلم الكوني الذي يدلُّ على الله، وإذا كان القرآن كتابَ الله المقروء، فالكون بأجناسه المختلفة كتاب الله المشَاهَد المنظور.
واقرأ إنْ شئت قول الحق سبحانه وتعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا .. } [فاطر: 27] هذا هو النبات { { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] وهذا هو الجماد { { وَمِنَ ٱلنَّاسِ .. } [فاطر: 28] الإنسان { { وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ .. } [فاطر: 28] أي: الحيوان { { مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ .. } [فاطر: 28].
ثم يختم الحق سبحانه بقوله:
{ { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ .. } [فاطر: 28] أيّ علماء؟ علماء الكون الذين يبحثون في أجناسه المختلفة وقوانينه العلمية والاجتماعية والصحية .. إلخ.
وهؤلاء العلماء يخشوْنَ الله؛ لأنهم يشاهدون أسراره في كونه، ويُطْلِعون الناس عليها، فهم جُنْد من جنود الدعوة إنْ آمنوا يؤيدون قدرةَ الله، بل ويستشهد علماء الشرع بكلامهم، ويُظْهِرون قدرة الله في الكون من خلال نظرياتهم العلمية، إذن: للعلم الكوني مهمة كبرى في مجال الدعوة إلى الله.
لكن، مَنْ الذي يرى مِنْ هؤلاء - علماء الشرع، أو علماء الكون - أن الذي جاء به محمد هو الحق؟
إنْ قُلْنا علماء الشرع فقد شهدوا لرسول الله وصدَّقُوه، سواء من المؤمنين برسالته، أم من علماء أهل الكتاب، وإنْ قلنا علماء الكون فقد شهدوا هم أيضاً لرسول الله وأيَّدوه بما لديهم من أسرار قدرة الله، والدليل أننا كنا نتحدث في قوله تعالى:
{ { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [سبأ: 3].
قُلْنا: إن الذرة هي الهباءة المتناهية في الصِّغَر، والتي لا تُرَى بالعين المجردة إلا في شعاع الشمس، هذا هو كلام الحق سبحانه، فأعطنى من العلم الكوني ما يثبت هذا الكلام، وما يقنعني بأن الله تعالى يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه حتى الذرة في السماوات ولا في الأرض.
نقول: مَنِ الذى خلق السماوات والأرض وما فيهن؟ لا أحد يستطيع أن يقول غير الله. كما قال سبحانه:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ .. } [لقمان: 25] أي: الكفار { { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [لقمان: 25]، وقال تبارك وتعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [الزخرف: 87].
لا أحد يجرؤ أنْ يقول غير هذا، مع أن الكفرة والملاحدة كثيرون، لكن لم يدَّع أحد أنه خلق شيئاً، كيف والناس يقفون عند أتفه الأشياء، فيُؤرِّخون لها ويُخلِّدون اسم صانعها أو مخترعها، لو سألت تلميذ الابتدائية: مَنِ اكتشف الكهرباء؟ يقول لك. أديسون. مَنْ أول مَنْ صعد إلى القمر؟ يقول لك: كذا وكذا.
فكيف نعرف هؤلاء ونصنع لهم التماثيل ونكرمهم، ولا نسأل أنفسنا: مَنْ خلق الشمس، مَنْ خلق القمر؟ مَنْ أجرى الهواء.. إلخ، وهذه مقومات الحياة وأساسياتها، وليست ترفاً كالأخرى.
إذن: قضية الخَلْق هذه ساعةَ تُعرض لا بُدَّ أنْ يتمثل لك قوله تعالى
{ { فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ .. } [البقرة: 258] يعني: لا يملك إلا أن يقول: الله.
تذكرون أننا قلنا: إذا قال الحق قولاً، وقال البشر قولاً يجب أن ينطمس قول البشر أمام قول الله؛ لأن البشر حين يُقنِّنون يُقنِّنون حسب ما يرى من أحداث، ولا يحسب حساباً لما سيطرأ، وما يُستجد؛ لذلك تأتي قوانين البشر عاجزة قاصرة تحتاج دائماً إلى تعديل.
كذلك، في مسألة الإضاءة نرى البشر يضيء كل منهم بيته مثلاً حَسْب إمكاناته وقدراته، فإذا جاء نور الله أُطْفِئت كل الأنوار، ومن هذه المسألة نأخذ الدليل على مسألة الذرة التي نحاول أنْ نثبت عِلْم الله لها من خلال العلم الكوني.
فنحن الآن في المسجد، والمسجد مُضاء، ونرى كل شيء، فهل ترون الآن غباراً في جو المسجد؟ لا، مع أننا في النور، لكن ماذا لو جلستَ بجوار شباك مثلاً يدخل منه شعاع الشمس؟ لا شك أنك سترى هذا الغبار المتطاير في الجو.
إذن: هذا الغبار لا تراه إلا في ضوء الشمس، فنور البشر لا يكشف الغيبَ، إنما يكشفه نور الله المتمثل في ضوء الشمس، فإذا كانت الشمس المخلوقة لله تعالى بيَّنَت لنا ما خَفِى عَنَّا، أيعجز خالق الشمس سبحانه أنْ يعلم ما غاب عنَّا؟
هذه إذن رسالة العلم الكوني، أنْ يُثبت لنا ما يؤيد الدعوة، وأن ما جاء به الرسول حق.
مسألة أخرى توضح مكانة العلم الكوني ومنزلته في الدعوة، هذه المسألة نجدها في قوله تعالى عن عذاب الكفار يوم القيامة:
{ { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ .. } [النساء: 56].
هكذا قال الله تعالى، وهكذا نقلها القرآن لنا لم يخبرنا شيئاً عن مراكز الألم والإحساس، وكنا لا نعلم شيئاً عنها، حتى جاء علماء وتخصَّصوا في وظائف الأعضاء، وبعد بحوث وتجارب توصَّلوا إلى أن الجلد هو المسئول عن الإحساس، فقد لاحظ الألمان أن المريض حين نعطيه حقنة مثلاً لا يشعر بالألم إلا بمقدار ما تنفذ الإبرة من طبقة الجلد، فأخذوا من ذلك أن الجلد هو محلُّ الإحساس، وليس المخ أو النخاع الشوكي كما قال البعض.
أخذ علماء الشرع هذه القضية، وجعلوها دليلاً على قول الحق سبحانه:
{ { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا .. } [النساء: 56] لماذا يا رب؟ { { لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ .. } [النساء: 56] فالجلد محل الإذاقة، وهكذا ساعدني العلم الكوني في إثبات صِدق القرآن الكريم، وأنه حق.
كذلك نفعنا العلم الكوني في إثبات كروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، فالحق سبحانه أخبرنا أن الليل والنهار خِلْفة أى: يخلف كل منهما الآخر، وهذا واضح لنا الآن في تعاقب الليلَ والنهار، لكن ماذا كان أول الخَلْق لو أن النهار خُلِق أولاً يعني: خُلِقت الشمس مواجهة للأرض ثم غابت، فجاء الليل، فالنهار في هذه الحالة ليس خِلْفة لليل، لأن النهار جاء أولاً لم يسبقه ليل فليس خِلْفة.
وعليه فلا بُدَّ أن تكون الأرض خُلِقت على هيئة كروية، ما قابل الشمس منها يكون النهار فيه، وما لم يقابل الشمس يكون الليل فيه، فهما معاً في وقت واحد، فلما دارت الشمس تعاقب الليل والنهار، وخلف كل منهما الآخرَ، فلا تتأتى هذه الخِلْفة إلا بكُروية الأرض.
فقوله تعالى: { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ .. } [سبأ: 6] أي: العلم الشرعي المنزَّل من أعلى، أو العلم الكوني القائم على البحث والمشاهدة. وقوله { أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ .. } [سبأ: 6] سواء كان عِلْماً شرعياً، أو علما كونياً يدل على أن العلم إيتاءٌ، فليس هناك عالم بذاته، إنما العلم إيتاء من الله حتى فى علم الكونيات لذلك لم يقل علموا، إنما { أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ .. } [سبأ: 6].
لذلك قالوا: إنْ كان العلمُ نعمةً من الله، فكذلك النسيان قد يكون نعمة، وجندياً يخدم الإنسان، فنحن نعرف مثلاً (الخميرة) التي تخمر العيش، إذا وجدت رغيف العيش (مبلّط) يعني: وجهه ملتصق بظهره ترده للبائع وتطلب الرغيف (القابب) هذا ما تفعله (الخميرة) في رغيف العيش تجعل الهواء يدخل بين ذرات العجين، فحين تُدخِله النار يتمدد هذا الهواء فيُحدِث فاصلاً بين وجه الرغيف وظهره.
وهذه الخميرة هي التي تعطى للعيش طعمه المميز، فهل تعرف من أين جاءت هذه الفكرة؟ جاءت نتيجة نسيان، فيُروى في هذه المسألة أن امرأة عجنتْ العجين، ثم انشغلت عن خَبْزه بعض الوقت ونسيته، فلما تذكرتْ جاءتْ إليه وخبزته كما هو، فوجدتْ هذا الفرق بين العجين حين يُخبز سريعاً، وحين يُترك حتى يختمر، وكانت هذه بداية فكرة الخميرة، وكأن كل قطعة خميرة نأكلها الآن هي في الحقيقة جزء من خميرة هذه المرأة.
كذلك يقال في سبب شواء اللحم أن الإنسان أولاً كان يأكل اللحم نيئاً، وقد ذبح رجل شاة بالليل، وأوقد ناراً يستدفئ بها، فجاء ذئب ينازعه الشاة، فدخل معه في معركة، فوقعت قطعة لحم في النار، فلما خلص من الذئب شَمَّ رائحة الشِّواء فأعجبته، ومن هنا عرف الإنسان كيف يشوي اللحم.
إذن: الحق سبحانه يهدي خَلْقه ولو بالنسيان، ولو بالمصادفة، فالعلم حتى الكوني منه إيتاء من الله، وكل قضية كونية لا يعطيك الله علمها مباشرة، يعطيك المقدمات التي تُوصِّل إليها، وتهدي إلى معرفتها.
وكنا ونحن نتعلم الهندسة ندرس كتاباً اسمه (هول ونايت) نتعلم كيف نبرهن على صحة النظرية، فمثلاً النظرية المائة نبرهن عليها بما ثبت في النظرية التسعة والتسعين وهكذا، فحين تسلسل هذه المسألة نصل إلى النظرية، رقم واحد، كيف نبرهن على صحتها؟
قالوا: البرهان عليها بدهية في الكون، فكأن كلَّ علم وصل إلينا أصله بدهية مخلوقة لله تعالى، إذن: فالعلم سواء أكان شرعياً أو كونياً إيتاء من الله؛ لذلك قال سبحانه:
{ { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ .. } [البقرة: 282] يعني: يلهمكم ويرشدكم إلى الأشياء ولو بالمصادفة، وسبق أن قًلْنا: إن لكل سر في الكون ميلاداً، إما أنْ يأتي نتيجة بحث الإنسان، فإنْ لم يبحث الإنسان فيه كشفه الله له ولو بالمصادفة، كما اكتشف الإنسان مثلاً البنسلين.
لذلك يقول سبحانه في العلم الكوني
{ { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ .. } [البقرة: 255].
فمعنى{ إِلاَّ بِمَا شَآءَ .. } [البقرة: 255] أي: يأذن سبحانه بميلاد هذا الشيء، فإنْ شاء سبحانه أعطاك علمه نتيجة بحثك وأنت تبحث وإنْ لم يكُنْ هناك بَحْث أعطاك العلم مصادفة.
أما العلم الذي استأثر الله به فهو غيب لا يحيط به أحد، كما قال سبحانه:
{ { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ .. } [الجن: 26-27] هذا هو العلم الذي لا دَخْل لأحد فيه، أما العلم الكوني فله زمن، وله ميلاد يولَدُ فيه.
ونلحظ في أسلوب الآية أن المفعول الثانى للفعل (يرى) جاء على صورة الضمير المنفصل { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ .. } [سبأ: 6] ولم يقل الحق فقط إنما { هُوَ ٱلْحَقَّ .. } [سبأ: 6] وهذا الضمير المنفصل يعني أن غيره ليس حقاً، فالحق هو الذي أُنزِل على رسول، وما عداه ليس حقاً، وكأنها خاصية لم تُعْط إلا له صلى الله عليه وسلم.
ومثلها قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 78] فلم يَقُلْ: الذي خلقني يهديني؛ لأنها تحتمل أن يهديك غيره، إنما { { فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 78] قصرت الهداية عليه سبحانه وتعالى، ومثلها { { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء: 79-80] فقصر الإطعام والسُّقْيا والشفاء على الله سبحانه وتعالى، لأنك قد تظن أن أباك هو الذي يُطعمك ويسقيك، وهو مجرد سبب ومناول عن الله.
وكذلك قد تظن أن الشفاء بيد الطبيب، وما الطبيب إلا معالج، والشفاء من الله، لكن تأمل حين تكلم سبحانه بعدها عن الموت والحياة، قال:
{ { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 81] ولم يأتِ بالضمير المنفصل هنا، لماذا؟ لأن الموت والحياة لم يدَّعِها أحد غَير الله، فليست مظنة المشاركة، والكلام هنا عن الموت لا عن القتل، وهناك فَرْق بينهما سبق أنْ أوضحناه.
إذن: قوله تعالى: { هُوَ ٱلْحَقَّ .. } [سبأ: 6] دلَّتْ على أن الحق واحد، هو ما أنزل الله، وما عداه باطل، ولا يجتمع حقَّانِ في مسألة واحدة، إلا إذا كانت الجهة مُنفكة كأن تقول مثلاً: والله أنا ودعت فلاناً اليوم في المطار وسافر إلى كذا، فيقول آخر: بل لم يسافر وأنا رأيتُه اليوم في بيته، وعندها يتهم كل واحد منكما الآخر بالكذب فأسرعتَ إلى التليفون واتصلتَ بهذا الرجل، فقال لك: نعم لم أسافر فقد طرأ لي طارىء، فرجعت من المطار. إذن: فالخبران صادقان، لكن الجهة منفكة.
والحق هو: الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يُنكر، وكيف تنكر الحق وأنت حين تريد أنْ تؤيد نفسك في شيء تقول: هذا حقي يعني لي ولا ينازعني فيه أحد، فالدَّعْوى التي تقيمها أن هذا حقك.
والحق إلى جانب أنه أمر ثابت فهو ينفعك، فله إذن ميزتان أو حجتان: الأولى أنه الحق الثابت وغيره باطل، والأخرى أنه يعود عليك نفعه؛ لذلك قال تعالى بعدها: { وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [سبأ: 6]، فإذا لم تقبل الحق لذاته وتتعصب له، فاقبله لما يعود عليك من نفعه، فهذان الأمران هما من حيثيات التمسك بالحق.
ومعنى { ٱلْعَزِيزِ .. } [سبأ: 6] هو الذي لا يُغلب ولا يُقهر، ومنه قولنا: عزَّ علىَّ كذا يعني: لم أقدر عليه، وفلان عزيز يعني لا يقهره أحد، فصفة العزة صفة ترهيب، فحين تُعرِض عن هذا الحق فاعلم أنك تعصي عزيزاً لا يُقهر، يغلب ولا يُغلب.
ثم يتبعها سبحانه بصفة من صفات الترغيب { ٱلْحَمِيدِ } [سبأ: 6] بمعنى المحمود على ما يُعطى من النِّعَم، فهي تُرغِّبك في المزيد من نِعَم الله.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ ... }.