التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ } [فاطر: 18] لا تحمل نفس آثمة { وِزْرَ أُخْرَىٰ } [فاطر: 18] حِمْل نفس أخرى؛ لأنها هي الأخرى مُثْقَلة بحِمْلها، والوزر هو الحِمْل الثقيل الذي لا يطيقه الظهر، ومنه قوله تعالى في مسألة الوحي: { { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [الشرح: 2-3] يعني: أتعبك نتيجة التقاء الملائكية بالبشرية.
لذلك
"كان صلى الله عليه وسلم يتفصَّد جبينه عرقاً من لقاء جبريل، وهو الذي قال مُصوِّراً هذا اللقاء: ضمَّني حتى بلغ مني الجهد وعاد إلى أهله يقول: زملوني زملوني، دثروني دثروني" . ومع هذا كله لما فتر الوحي اشتاق إليه وتمناه أنْ يجيء، لأنه ذاق حلاوته، وحلاوة الشيء تُنسيك ما تلاقيه من المتاعب في سبيله.
والمعنى: لا تحمل وزر وذنب نفس أخرى مُثْقَلة بالذنوب والآثام، وقد شرح الحق لنا هذا المعنى فى قوله سبحانه:
{ { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34-37] فكلٌّ مشغول بنفسه، مُرْتهَنٌ بعمله، لا وقت للمجاملة؛ لذلك يقول الوالد لولده: يا بني حِمْلي ثقيل عليَّ، فخُذْ عني شيئاً منه. فيقول الولد: حسبي حِمْلي يا أبي.
كذلك هنا { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا } [فاطر: 18] أي: نفسي مُثْقَلة بالآثام تطلب مَنْ يحمل عنها شيئاً من ذنوبها ولكن هيهات { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [فاطر: 18] أي: لو كان هذا النداء لأقرب الناس إليها ما أجاب وما حمل عنها، وكيف تحمل نفسٌ وِزْر نفس أخرى، وهي مشغولة بحِمْلها مثقلة به؟
لذلك يُكذِّب الحق سبحانه قَوْل الذين كفروا حين يتعرَّضون لحمل خطايا أتباعهم، فيقول سبحانه:
{ { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [العنكبوت: 12-13].
إذن: هذه مسألة واضحة، فكلٌّ مشغول بنفسه
{ { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر: 38].
فالإنسان في الدنيا مرتبط إما بقرابة لها حقوق عليه، وإما بإخوان وأصدقاء، وإما بمنقذ يستنجد به، وإنْ لم يكن قريباً ولا صديقاً، لكن يوم القيامة ستنحلُّ كل هذه العُرَى؛ لأن الموقف لا يحتمل المجاملات ولا التضحيات.
لذلك لما سمعتْ السيدة عائشة رضي الله عنها سيدنا رسول الله وهو يُحدِّثهم عن القيامة، ويذكر أن الشمس تدنو من الرؤوس والخَلْق يقفون عرايا، استاءتْ وسألت رسول الله: كيف يقف الناس عرايا ينظر بعضهم إلى عورة بعض؟ فأجابها رسول الله أن كل امرئ مشغول بنفسه، وأن الأمر أعظم من أنْ ينظر أحد لعورة أحد في هذا الموقف.
ثم يقول سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } [فاطر: 18] يعني: إنذارك يا محمد وتحذيرك لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم بالغيب، أما الآخرون فقد ظلموا أنفسهم حين حرموها الخير الكثير الذي أراده الله لهم، ظلموها حين غرَّتهم الدنيا بنعيمها الفاني، وشغلتهم عن نعيم الآخرة الباقي الدائم.
والإنذار: التخويف من شَرٍّ قبل أوانه لتتوقَّاه، والفرصة سانحة قبل أنْ يداهمك، فأنت مثلاً حين تريد أن تحثَّ ولدك على المذاكرة وتحذره من الإهمال الذي يؤدي إلى الفشل لا تقول له هذا ليلة الامتحان، إنما قبله بوقت كافٍ ليتدارك أمره، ويصحح ما عنده من قصور أو إهمال.
والإنذار والتخويف لا يُجدي إلا مع مَنْ يؤمن بما تخوِّفه به، فحين ينذر رسول الله بعذاب الآخرة لا ينتفع بهذا الإنذار إلا مَنْ يؤمن بالله ويؤمن بالقيامة.
ومعنى { يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [فاطر: 18] الخشية هي الخوف، لكن بحب وتوقير، لا خوف بكراهية، فأنت تخاف مثلاً من بطش جبار ظالم. لكن تخافه وأنت كاره له، إنما خَوْفك من الله خَوْف ناتج عن حب وتوقير، لذلك يصحب هذا الخوف رجاء وطمع في رحمته تعالى، فأنت تسير في رحلة حياتك بجناحين: خوف من العذاب، ورجاء في الرحمة.
والإنسان ينبغي ألاَّ ينظر إلى الفعل في ذاته، بل ينظر إلى الفعل وإلى قابل، فقد يكون الفعل واحداً لكن يختلف مستقبل الفعل، فالقرآن مثلاً سمعه قوم عند رسول الله، فحكى الله عنهم:
{ { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً .. } [محمد: 16].
في حين سمعه آخر فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه.
وسمعه عمر فَلاَنَ قلبه ورَقَّ فأسلم، فالقرآن واحد، لكن فَرْق بين مَنْ يسمعه وهو له كاره، فيغلق عليه وبين مَنْ يستقبله بقلب وَاعٍ مفتوح لإشراقات القرآن وتجلياته.
ألاَ ترى أن الحديد يستجيب لك حين تطرقه وهو ساخن، فيصير كالعجينة في يدك، أما إنْ طرقْته وهو بارد فإنه لا يتفاعل معك، كذلك قلنا مثلاً: إنك في اليوم البارد تنفخ في يدك لتشعر بالدفء، وتنفخ أيضاً في كوب الشاي مثلاً لتبرده، فكيف تجتمع هذه المتضادات لفعل واحد؟ نقول: لأن الفاعل وإنْ كان واحداً إلا أن المستقبل للفعل مختلف.
كذلك إنذاره صلى الله عليه وسلم إنذار واحد، لكن استقبله قوم بخضوع ورغبة في الهداية فآمنوا، واستقبله قوم بعناد وإصرار فلم يستفيدوا منه ولم ينتفعوا بثمرته.
وقوله { ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } [فاطر: 18] دلتْ على أن الإيمان اكتمل في نفوس هؤلاء اكتمالاً يستوي فيه مشهد الحكم بغيبه. ومن ذلك قول الإمام على رضي الله عنه: لو انكشف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً.
"ولما سأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر: كيف أصبحتَ يا أبا ذر؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفَتْ نفسي عن الدنيا، حتى استوى عندي ذهبها ومدرها، وكأنِّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون، فقال له رسول الله: عرفتَ فالزم" .
ثم يذكر الحق سبحانه صفة أخرى للذين استجابوا لإنذار رسول الله وانتفعوا به: { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } [فاطر: 18] فهم مع خشيتهم لله خشية أوصلتهم إلى إيمان يستوي فيه الغيب بالمشاهدة، هم أيضاً يقيمون الصلاة أي: يؤدونها على أكمل وجه، والصلاة كما ذكرنا هي العبادة الوحيدة التي لا تسقط عن المكلَّف بِحال، فقد يطرأ عليك ما يُسقِط الزكاة أو ما يُسقط الصيام أو الحج فلم تَبْقَ إلا شهادة ألاَّ إله إلا الله محمد رسول الله. وهذه يكفي أنْ تقولها ولو مرة واحدة.
أما الصلاة فهي العبادة الوحيدة الملازمة للمسلم؛ لأن الصلاة في حقيقتها استدامة الولاء لله تعالى، فَرَبُّك يدعوك إلى لقائه خمس مرات في اليوم والليلة يناديك لتعرض الصنعة على صانعها، وما بالك بصنعة تُعرض على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة؟ أيكون بها عَطَب بعد ذلك؟
أما إذا أردتَ مقابلة عظيم من عظماء الدنيا فَدُونه أبواب وحُرَّاس ومواعيد وإجراءات صارمة، ولا تملك أنت من عناصر هذا اللقاء شيئاً، بل يحدد لك الموعد والموضوع وحتى ما تقوله، إنك تستأذن في أوله ولا تملك الانصراف في آخره.
أما لقاؤك بربك فخلاف ذلك، ففي يدك أنت كل عناصر اللقاء، فأنت تبدؤه متى تحب، وتنهيه كما تحب، وتناجي ربك فيه بما تريد، تبثُّه شكواك، وتعرض عليه حاجتك، فيسمع ويجيب.
وبعد أنْ ذكر الحق سبحانه هذه العبارة الدائمة يقرر هذه الحقيقة { وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ } [فاطر: 18] يعني: عبادتك عائدة إليك أنت لا ينتفع الله تعالى منها بشيء، فهو سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين.
فهو سبحانه غني عَنَّا، ونحن بعبادتنا لله لم نزده سبحانه صفة كمال لم تكن له؛ لأنه بصفة الكمال أوجدنا وبصفة الكمال كلَّفنا. لذلك جاء في الحديث القدسي:
"يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسَكم وجِنَّكم، وشاهدكم وغائبكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم وشاهدكم وغائبكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقول له كن فيكون" .
إذن: نحن صَنْعة الله، وما رأينا صانعاً يعمد إلى صَنْعته فيحطمها أو يعيبها، إنما يصلحها ويُهذِّبها ويعتني بها، حتى إنْ أصابك عطب أو إيلام فاعلم أنه في النهاية لصالحك.
{ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [فاطر: 18] يعني: المرجع والمنقلب يوم القيامة ليفصل بين الخصوم، ولينال كل ما يستحق، فمَنْ أفلت من العقاب في الدنيا فهناك مصير سيرجع إليه.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ }.