التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً
٣٩
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى: { خَلاَئِفَ } [فاطر: 39] خلفاء: يخلف بعضكم بعضاً. وفي آية أخرى { { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً .. } [البقرة: 30] أي: خليفة لله في أرضه؛ لذلك وهبنا الله صفاتٍ من صفاته سبحانه، لنباشر بها مهمتنا في الأرض، فإنْ وجدت فينا قدرة على العمل فهي من قدرة الله، وإنْ وجدت في تصرفاتنا حكمة فهي فيض من حكمة الله، وإنْ وجدت فينا عزة فهي من عزة الله .. الخ.
هذا هو معنى الخلافة؛ لأن الإنسان حين يتأمل ذاته يجد أن كلَّ ما فيه موهوب له من خالقه سبحانه، ليس ذاتياً فيه.
وسبق أنْ قلنا مثلاً: إنك لمجرد إرادتك أنْ تقوم من مكانك تجد نفسك قد قُمت دون أن تعرف ماذا حدث في أعضائك وعضلاتك، وكيف صدرت الأوامر لهذه العضلات أنْ تتحرك، هذه في الحقيقة صفة من صفات الخالق سبحانه وهبك شيئاً منها، بدليل أنه سبحانه إنْ سلبك هذه القوة لا تستطيع القيام، وقد سلبها بالفعل من غيرك ليبين لك أن قوتك ليست ذاتية فيك، فلا تغترَّ بها.
تلحظ مثلاً بعد تطور الصناعة أن العلماء استخدموا حركات البشر في صناعة (الأوناش والبلدوزرات) فترى الحركة الواحدة تحتاج إلى عدة حركات من الآلة، وتحتاج إلى أنْ يضغط السائق على زِرٍّ معين لهذه الحركة، أما أنت فلا تحتاج فى حركة أعضائك إلى شيء من هذا.
فبمجرد أن تريد الفعل تفعله وتتفاعل معك أعضاؤك وعضلاتك، وتؤدي لك ما تريد منها دون أن تشعر أنت بشيء، فإذا كنتَ أنت وأنت مخلوق لله تعالى حين تريد شيئاً تفعله دون أنْ تأمر عضواً من أعضائك، ولا عضلة من عضلات جسمك، فما بالك بالخالق سبحانه؟
أتنكر أنه سبحانه يقول للشيء كُنْ فيكون؟
{ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82].
أنت حينما تريد حركة لا تأمر شيئاً من أعضائك، لأنك لا تعرف أيَّها تأمر، فالأعضاء والعضلات والأعصاب أشياء متداخلة، ولا تدري أنت ما يدور بداخلك لتؤدي هذه الحركة؛ لذلك سوَّاك الخالق سبحانه على صورة تنفعل لك أعضاؤك بمجرد إرادتك، أما الخالق سبحانه فيأمر الأشياء ويقول لها: كُنْ. لأنه سبحانه يعلم الآلة التي تتحرك.
وأيضاً الخالق سبحانه لم يترك لك أمراً على جوارحك، إنما ذلَّلها لك وطوَّعها لإرادتك؛ لأنك لا تضمن إنْ أمرتها أنْ تطيعك وتستجيب لك، أمّا الخالق سبحانه فإن أمر الأشياء أطاعته، بدليل أن الإنسان حين يُسْلَب القدرة على الحركة، أو حين يصيبه هذا المرض والعياذ بالله يريد أنْ يحرك أصبعاً من أصابعه فلا يستطيع.
والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يستدعي الخليفة إلى الوجود خلق له قبل أن يخلقه، وضمن له قُوتَه ومُقومات حياته وضرورياتها إلى قيام الساعة، ثم ترك للعقول أن تعمل، وأن تستنبط من الضروريات ما يُترف الحياة ويثريها.
إذن: أنت أيها الخليفة لله في الأرض ليس لك أن تستقبل أمر الله في (افعل كذا) و (لا تفعل كذا) بالطاعة والانقياد، فإنْ كفرتَ بعد ذلك { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } [فاطر: 39] كفرت يعني لم تُطع افعل ولا تفعل، والكفر يعني الستر، وكفر بالله يعني: ستره، كأن الله كان ظاهراً، فستره الكافر بكفره؛ لذلك قلنا: إن الكفر أول دليل على الإيمان، فلولا وجود الله ما كان الكفر.
وكما أن هناك كفراً بالله الذي استخلفك، هناك كفر بما اسْتُخْلِفْتَ فيه، كُفْر بالنعمة بأنْ تنسى واهبها لك والمنعِم عليك بها، ومن كفر النعمة أن تكسل عن استنباطها واستخراجها من باطن الأرض، وتتركها مطمورة لا ينتفع الناس بها، ومن كُفْر النعمة أيضاً ألاَّ تؤدي حقَّ الله فيها، وأنْ تسترها عن مُستحقها المحتاج إليه.
وما يعانيه العالم الآن من أزمات في القوت ومجاعات ما هو إلا نتيجة طبيعية لكفر النعمة، إما بالتكاسل والقعود عن استنباطها، وإما نستنبطها لكن تشح بها نفوسنا وتبخل، بدليل أننا عِشْنا فترة طويلة في الوادي الضيق، ولم نحاول ولم نحاول استنباط خيرات الصحراء، فلما تنبهنا إلى ضرورة غزو الصحراء وتعميرها أصابنا هوس الاستنباط، فزرعنا الترف ولم نزرع الضروريات فتجد السوق عندنا مليئاً بالبرتقال والموز والعنب والكنتالوب والفراولة.. الخ ونحن (نشحت) رغيف العيش، ونستجدي غيرنا ضروريات حياتنا.
إذن: الجزاء هنا من جنس العمل { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } [فاطر: 39] أي: يُجزى به، فالذي كفر بالمنعِم له جزاؤه، وجزاؤه العذاب في الآخرة، والذي كفر بالنعمة له جزاؤه، وجزاؤه أنْ يموت جوعاً وأنْ يُذلَّ لغيره، وإنْ ذُلَّ لغيره فلن ينفذ أمراً ولا نهياً، ولن يهتم بدين ولا بمنهج.
ورحم الله أجدادنا الذين قالوا: (اللي لقمته من فاسه كلمته من راسه).
ثم يقول سبحانه مُبيِّناً عاقبة الكفر { وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } [فاطر: 39] نعم، الكفر يُزيد صاحبه مَقْتاً وكراهية من الله عز وجل؛ لأنك كفرت بمَنْ؟ كفرتَ بالله ربك وخالقك ورازقك وواهبك النِّعَم، وكل كفر بشيء من هذا يستوجب لك كراهية وبُغْضاً من الله، وهذا البغض يزيد بالاستمرار في الكفر والتصميم عليه، ثم بعد هذا كله يزيد الكفر صاحبه { خَسَاراً } [فاطر: 39] وأيُّ خسارة بعد الكفر بالله، الخسارة هنا كبيرة؛ لأنها هلاك وخسران لخيرَيْ الدنيا والآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي... }.