التفاسير

< >
عرض

أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ
٢٨

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أن ذكر الحق سبحانه جزاءَ الكافرين في النار أراد سبحانه أنْ يذكر المقابل، وبضدِّها تتميز الأشياء، أراد سبحانه أنْ يعقد لنا هذه المقارنة بين الكافرين والمؤمنين الذين استقاموا على منهج الحق، وساروا على الصراط، وسَلِمَ الناسُ من أيديهم ومن ألسنتهم، وأشاعوا الأمن وأشاعوا المحبة، كيف إذن نسوِّيهم بالكافرين المفسدين؟
وفي هذا إشارة من الحق سبحانه كأنه يقول لنا: إياكم أنْ تُسووا بين هؤلاء وهؤلاء، إياكم أنْ تأخذكم بالمفسدين الظالمين رحمةٌ؛ لأنكم إنْ رأفتم بهم فقد سَوَّيْتُم بينهم وبين المؤمنين.
لذلك كنا نردُّ على الشيوعيين ونقول لهم: نعم لقد انتقمتم من خصومكم الرأسماليين والإقطاعيين، وفعلتم بهم الأفاعيل، لكن ما بال الذين ماتوا قبل أنْ تدركوهم وتنتقموا منهم؟ لا شكَّ أنهم ظلموا ثم ذهبوا دون أنْ يُعاقبُوا.
إذن: كان لا بُدَّ أنْ تعترفوا بيوم آخر يُقتصّ فيه من هؤلاء الذين لم يُقتص منهم في الدنيا، وإلاَّ سَوَّيْنا بين المحسن والمسيء.
وقال: { كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ .. } [ص: 28] لأن الله تعالى خلق الأرضَ على هيئة الصلاح، فإنْ لم تُزدْها صلاحاً يريح الناس ويسعدهم، فلا أقلَّ من أنْ تُبقي عليها كما هي لا تفسدها، وأوجه الإصلاح في الكون كثيرة، ومثّلنا لذلك ببئر الماء، إما أنْ تتركه على حال يستفيد منه الناسُ كما هو، وإما أنْ تزيده حسناً، كأن تبنى حوله سوراً يحميه، أو تجعل عليه آلة لرفع الماء .. الخ.
أما أنْ نلقي فيه بالقاذورات فهذا هو الفساد.
وقلنا: لو دخلت بستاناً أُنُفاً أي: لم يدخلْه أحد قبلك تجده على طبيعته، لا ترى فيه شجرة كُسِرت، ولا تشُم فيه رائحة كريهة، رغم أن فيه حشرات وحيوانات وفضلات .. إلخ لكن إنْ دخلها الإنسان ظهر فيها الخَلَل والفساد، لماذا؟
لأنه لا يبقى على الصلاح الذي خلق اللهُ الطبيعة عليه؛ لأنه دخلها بغير منهج الله، ولو دخل بمنهج الله لاستقامتْ الأمور.
ثم يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى فيقول: { أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص: 28] الفاجر هو الفاسق الذي يفسق عن القانون الذي يحميه ويحمي المجتمع كما تفسق الرطبة من قشرتها، والحق سبحانه قبل أنْ يحمي المجتمع من الفاسق حَمَى الفاسق من المجتمع، والفاسق واحد، والمجتمع كثير.
إذن: فالفرد هو المستفيد من منهج الحق وهو الرابح.
وأيضاً، الإنسان حين تمرّ المسألة بخاصة نفسه يلتفت إلى الحق قَصْراً عنه، لأنه لن يجد حمايةً إلا في الحق، وسبق أنْ ضربنا مثلاً لطلاب الجامعة قلنا: هَبْ أن ثلاثةً من الشباب في دور المراهقة اثنان منهم ساروا - كما نقول - على حَلِّ شعرهم. والآخر استقام على المنهج حتى أنهما كانا يسْخران منه، ويقولان عنه: فلان هذا صللى فلان جردل .. قفل .. إلخ ما نسمع من هذه الكلمات.
وصادف أنْ كان عند أحدهما أخت، بالله لمن يُزوِّجها؟ لصاحبه المنحلّ؟ أم لصاحبه الملتزم المستقيم؟ لا شكَّ أنه يفضل الثاني، لأنه يأمنه ويطمئن إليه، إذن: لا بُدَّ أنْ يظلَّ الحق حقاً، والفضيلةُ فضيلة، ولا يمكن أنْ يستوي التَّقِيُّ والفاجرُ.
ثم يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ليسليه؛ لأن قصصَ القرآن جاء تسلية له صلى الله عليه وسلم، وتثبيتاً لفؤاده:
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ ... }.