التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

فَرْق بين تنزيل وإنزال ونزول؛ النزول هو الحدث الذي يأتي بشيء من أعلى إلى أدنى، والإنزال يدل على أن الذي أنزل أعلى من المُنزل إليه، أما التنزيل فيدل على النزول على فترات بحسب الأحوال.
فقوله تعالى:
{ { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] يعني: أنزلناه جملةً واحدة في أول رسالة محمد، ليباشر القرآنُ مهمته في الوجود، ثم نُزِّل بعد ذلك مُنجَّماً حَسْب الحاجة.
قال تعالى:
{ { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [الإسراء: 105].
يعني: أنزلناه بالحق بداية، وظلَّ على الحق لم يستطع أحد أنْ يُغيِّره أو يُفسده؛ لأنه حقٌّ.
وهذه المادة نزل أو نزَّل أو أنزل، تدل كلها على عُلُو المنزِّل ودُنُو المنزل إليه، وتدل على أن شرف المنزَّل من شرف مَنْ أنزله، وتدل أيضاً على أن مَنْ أنزل المنهج القويم للمخلوق يريد أنْ يكرمه وأنْ يعلوَ به. إذن: دَلَّ الإنزال على شرف المنزِّل وعلو مكانته، وعلى شرف ما أُنزل وعلى شرف مَن اختاره الله، وجعله أهلاً لأنْ يُوجه إليه هذا الخير.
ومن ذلك قوله تعالى في أمة محمد:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110].
ولما تتبعنا مادة (نزل) في القرآن الكريم وجدناها كلها تدل على العُلو، إلا في عدة مواضع لم يكُن الإنزالُ فيها من العلو، وهو قوله تعالى في سورة الحديد:
{ { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25] فالحديد لا ينزل من عُلو إنمَا يُستخرج من الأرض، فلماذا قال الله: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [الحديد: 25]؟
قالوا: نعم الحديد من الأرض، لكن مَنْ جعله فيها؟ الخالق سبحانه، إذن: فهو أيضاً إنزال أي: جعل له في الأرض، فلا تنظر إلى جهة الإنزال، إنما إلى مَنْ أنزل.
ثم إن إنزال الحديد تتميمٌ لرسالات الرسل لهداية الخلق إلى منهج السماء، لأن الله تعالى قال بعدها:
{ { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } [الحديد: 25] فمن الحديد سنصنع السيوف والرماح وعُدَّة الحرب.
كذلك في:
{ { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ .. } [الزمر: 6] وقوله: { { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف: 26].
وفي مسألة الإنزال هذه نلحظ لفتة جميلة في أسلوب القرآن الكريم، في استخدام حرف الجر المتعلق بالفعل أنزل، وكيف أنه يأتي مناسباً للمعنى المراد من الإنزال، ففي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول له رَبُّه عز وجل:
{ { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ } [آل عمران: 3] قال (عليك) مع أن الكتاب نزل للناس جميعاً { { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ } [ص: 29].
لكن رُوعي هنا المخاطب المستقبل المبلَّغ عن الله، لكن لما يتكلم على النعم التي ينتفع الناس بها مباشرة يقول (عليكم) ثم نلحظ دقة التعبير في استخدام حرف الجر، قال:
{ { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ } [الزمر: 6] وفي اللباس قال: { { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ } [الأعراف: 26] قالوا: لأن اللباس الساتر للبدن يكون على الجسم يلفه ويستره، فناسبه الحرف (على). أما الأنعام فهي شيء مستقل منفصل عن الإنسان.
الحق سبحانه وتعالى يعطي من علو، ولكن الذي يعطي له هو من صنعته أيضاً، فعلو في خَلْق آدم الخليفة، وعُلو في المنهج الذي يصونه، حتى أن بعضهم قال: إن الإنسان خليفة لله في الأرض، بمعنى أنه مُفَوَّض من الله بالقيام بما أراده الله، بدليل لو كان هناك محتاج ضَنَّ الناس عليه يقول الله لهم:
{ { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245].
فسمَّى هذا الإعطاء للفقير قرضاً، مع أنه سبحانه المعطي الواهب لهذا المال، لكن لما كان الحق سبحانه هو الخالق، وهو الذي استدعى الإنسان للوجود وتكفَّل له برزقه، فاعتبر المال ماله وحقه، فإنْ بذله فهو قرض لله.
ومثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا: حين تعطي ولدك مصروفه فيجعله في حصالة مثلاً، ومرَّتْ بك ظروف احتجتَ لما في حصالة الولد فقلت له: سلّفني ما في حصالتك لحين ميسرة. مع أنك صاحب هذا المال.
فكأن الحق سبحانه يحترم ملكية العبد، مع أنها من فضله، فإنْ طلبها منه طلبها على سبيل القرض.
و (الكتاب) أي: القرآن. فمرة يقول: الكتاب. ومرة: القرآن، دليل على أنه سيأخذ الوَصْفين معاً، فهو كتاب بمعنى مسجل ومكتوب يعني لا يُنكر، وهو قرآن بمعنى مقروء، فهو مُسجَّل في السطور ومحفوظ في الصدور، وهذه ستكون حجة علينا.
وقد علمنا الدقة التي اتبعها الصحابة في جمع القرآن من صدور الحفظة، فكانوا لا يكتبون آية إلا إذا قرأها اثنان من الحفظة واتفقا على صحتها، كذلك يشهد على صحتها اثنان بعد الكتابة، فدَلَّت هذه الدقة على حيثيات قوله تعالى:
{ { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
وكلمة (الكتاب) هكذا بأل التعريفية تدل على أنه الكتاب الكامل في الكتب، ولا تنصرف هذه الكلمة إلا إلى القرآن الكريم.
وقوله تعالى: { مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] دل على أن التنزيل من أعلى لأدنى، لكن لماذا قال { مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] ولم يقُل: من الرب؟ لأن هذا الكتاب جاء بمنهج للتربية، والرب هو المتولي للخَلْق وللتربية. قالوا: لأن الربوبية عطاء يشمل الجميع المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فالرب خلق الجميع الخَلْق المادي وأمدَّ الجميع، فالكل في عطاء الربوبية سواء.
أما المنهج الذي نزل به الكتاب، فهو منهج إيماني وخُلُقي وتعبُّدي من عطاء الألوهية، لا من عطاء الربوبية، لذلك قال في الكتاب: { مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1].
والله عَلَم على واجب الوجود، أما الأسماء الحسنى فهي أوصاف بلغت العظمة؛ لأنها لله تعالى وغلبتْ عليه، فصارت أسماء قال تعالى:
{ { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] والجامع لها كلها لفظ الجلالة الله، فحين تقول الله كأنك ناديتَ الله بجميع أسمائه الحسنى؛ لذلك أمرنا أنْ نبدأ العمل بقول باسم الله، والعمل يحتاج إلى قوة وإلى علم وإلى حكمة وإلى عزة .. إلخ.
فلو كنتَ مُقبلاً على عمل يحتاج إلى عشرين صفة مثلاً فهل تقول: باسم القوي، باسم العليم، باسم الحكيم .. لا لأن في وُسْعك أن تجمع كلَّ هذه الصفات في قولك باسم الله؛ لأن لفظ الجلالة هي الكلمة الجامعة لكل صفات الكمال، وتناسب كل ما يحتاجه العمل، وكل ما يتعلق بالفعل، مما تعرفه أنت ومما لا تعرفه.
لذلك قالوا: إياك أنْ تدعَ هذه الكلمة في بداية العمل، حتى لو كنتَ عاصياً فلا تَخْزَ من ربك ولا تخجل أنْ تقولها، ولا تستبعد أنَّ الله يعاونك حتى وأنت عاصيه، لأن ربك الذي تدعوه وتبدأ عملك باسمه رحمن رحيم، وهو الذي أمرك أنْ تقولها.
إذن: قال سبحانه: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] لأن الكتاب نزل بمنهج وقيَم، ولم يقل: من الرب لأن الربَّ وصفٌ خاص بالمادة وبالقالب.
وقوله: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الزمر: 1] العزيز هو: الغني عن الخَلْق الذي لا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم، وجاء هذا الوصف بعد { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] لمناسبة، فكأن الحق سبحانه يقول لنا: اعلموا أنني متطوع بهذا المنهج الذي أنزلته عليكم، وأريد به سعادتكم في الدنيا ونعيمكم في الآخرة، أما طاعتكم لمنهجي فلا تزيد في ملكي شيئاً، لأنني الغني عنكم، فأنا العزيز عن خَلْقي.
لذلك في مسألة الشرك بالله قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48].
وقال في الحديث القدسي:
"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك به معي غيره تركته وشركه" .
يعني: أنا متنازل لهذا الشريك عن العمل كله، لأني عزيز عن خَلْقي، لا مصلحة لي من طاعتهم، إنما المصلحة تعود عليهم هم. إذن: فربُّك خلقك وأنزل عليك ما يصلحك، فإن أطعْتَهُ أثابك، لأن لله تعالى صفات، وهذه الصفات تحتاج إلى متعلقات، فحين تؤدي هذه المتعلقات لله يجازيك عليها.
إذن: قُلْ باسم الله واعلم أنه عزيز عن هذه، وتذكَّر قوله سبحانه في الحديث القدسي:
"يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وشاهدكم وغائبكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كلُّ واحد مسألته فأعطيتُها له ما نقص ذلك من مُلكي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدْخِلَ في البحر، ذلك أني جَوَادٌ ماجد واجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقولَ له: كُنْ فيكون" .
فالحق سبحانه هو العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغلب، وهو سبحانه يخلع من هذه الصفة على مَنْ يؤمن به، فللمؤمن عزة من عزة الله، أما غير المؤمن فيبحث عن عزة بالإثم استكباراً بلا رصيد، ومن ذلك قول المنافقين. { { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ .. } [المنافقون: 8] قال الله لهم: صدقتم في هذه المقولة: ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ، لكن مَن الأعز؟ ومن الأذل؟ ثم حكم الحق سبحانه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين: { { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8].
إذن: أنتم الأذل، وأنتم الذين ستخرجون من المدينة لا رسول الله، وقد تم ذلك لرسول الله، وقد كان.
والحق سبحانه مع أنه { ٱلْعَزِيزِ .. } [الزمر: 1] الذي يغلب ولا يُغلب، فهو سبحانه { ٱلْحَكِيمِ } [الزمر: 1] أي: الذي يضع الشيء في موضعه. ومن هذه الحكمة أنه سبحانه لا يطبع المؤمنَ على العزة الدائمة، ولا على الذِّلة الدائمة، كذلك لا يطبعه على الرحمة الدائمة، ولا على الشدة الدائمة، بل ينفعل للأحداث الإيمانية، كما قال سبحانه:
{ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29] وقال: { { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54].
ومع أن هذه طباع في النفس إلا أنها مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها، فإنْ كان الموقف يحتاج إلى رحمة فالمؤمن رحيم، وإنْ كان الموقف يحتاج إلى شدة. فالمؤمن شديد. إذن: هذا مظهر من مظاهر حكمة الخالق سبحانه، فإنْ قلتَ: هذه طباع، نعم طباع لكن مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها.
والحكمة مأخوذة من شيء حسِّيٍّ، مأخوذة من الحَكَمة التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها اللجام، وهو الأداة التي بها نتحكَّم في حركة الفرس، وفي سرعته واتجاه سَيْره، وبها نكبح جماحه إنْ جمح.