التفاسير

< >
عرض

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
-النساء

خواطر محمد متولي الشعراوي

والاستطاعة تعني أن يدخل الشيء في طاعتي فلا يعصى ولا يتأبى علي، وافرض أنني أمسكت قطعة حديد ولويتها، هنا تكون قطعة الحديد قد دخلت في طوعي، ومثال ذلك: ابنا آدم، حين قدم كل منهما قرباناً لله فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فالذي لم يتقبل الله منه القربان قال: { { لأَقْتُلَنَّكَ .. } [المائدة: 27].
فماذا كان ردُّ الذي تلقى التهديد؟ قال:
{ { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ * إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [المائدة: 28-30].
ما معنى:
{ { فَطَوَّعَتْ .. } [المائدة: 30]؟ طوعت يعني: جعلته في استطاعته، وعندما نمعن النظر في { { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ .. } [المائدة: 30] نجد أن "الهاء" تشير إليه هو، وذلك يدل على أن الإنسان فيه ملكات متعددة؛ ملكة تقول: اقتله، وملكة أخرى تقول له: لا تقتله. ضميره يقول له: لا تفعل، والنفس الأمارة بالسوء تقول له: اقتل، ويكون هو متردداً بين الأمرين.
وقوله الحق:
{ { فَطَوَّعَتْ لَهُ .. } [المائدة: 30] دليل على أن نفسه كانت متأبية عليه، لكن النفس الأمارة بالسوء ظلت وراءه بالإلحاح حتى أن نفسه الفاعلة طوعت له أن يقتل أخاه، ومع أن نفسه طوعت له أن يقتل أخاه إلا أنه أصبح بعد ذلك من النادمين، وبعدما أخذ شهوته من القتل ندم، ويأتي هذا الندم على لسانه: { { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [المائدة: 31].
أنت الذي قتلته، لكنك أصبحت من النادمين. لماذا؟ لأن ملكات الخير دائماً تُصعد عمل الخير وتحبط عمل الشر. والإنسان قد يبدأ شريراً، وإن كانت ملكاته ملكات خير غالبة، فهو ينزل من هذا الشر العالي ويخففه، وإن كانت ملكات الشر غالبة فهو يبدأ في الشر قليلاً ثم يصعده، فيقول في نفسه: فلان فعل فِيَّ كذا وأريد أن أصفعه صفعة، وبعد ذلك قد يرفع من شره فيقول: "أو أضربه ضربة". لكن إذا ما كان الإنسان خيِّراً، فيقول: "فلان كاد لي، أريد أن أضربه رصاصة أو أضربه صفعتين أو أوبخه" إنه ينزل من الشر ويصعد من الخير. كما في قصة سيدنا يوسف وإخوته حين قالوا:
{ { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف: 8-10].
إنهم أسباط، وأولاد النبي يعقوب، فيقللون من الشر، يخففونه مباشرة قائلين:
{ { أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً .. } [يوسف: 9] يعني يلقونه في أرض بعيدة، إذن فخففوا القتل في نفس واحد، كيف تم هذا الانتقال من القتل إلى اطرحوه أرضاً؟ ثم خففوا الأمر ثانية حتى لا يأكله سبع أو يتوه، فقالوا: { { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ .. } [يوسف: 10].
إذن فقوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ .. } [النساء: 25] أي من لم يستطع دخول الشيء في طوعه أو أن تطوله يداه، وهذا هو المقصود بالطول، "فطالته يده" يعني صار في استطاعته، وفلان تطول عليّ، أي تفضل عليّ بشيء، "وفلان تطاول عليّ" أي ما كان يصح أن يجترىء عليّ، وكلها من الطول، و "طولا": تعني قدرة تطول به الزواج بمن تحب أي أنت لا تملك مالا ولا تستطيع الطول، فهناك مرحلة أخرى، لا داعي للحرة لأن مهرها غالٍ غالباً؛ فخذ من الإماء الأسيرات لأن مؤنتهن ونفقتهن خفيفة، وليس لها عصبة ولا أهل يجادلونك في المهر، فقال: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ .. } [النساء: 25]. والذي نلمحه في الآية, أن نكاح ما ملكت اليمين يكون لغير مالكها؛ لأن مالكها لا يحتاج ذلك، إنه يستمتع بها ويتغشاها؛ لأنها ملك يمينه وليست مملوكة للغير.
إذن فقد أباح الله للمسلم أن ينكح مما ملكت يمين غيره على شرط أن يكون ذلك بإذن مولاها؛ لأنها بالزواج تقتطع جزءاً من وقتها وخدمتها لمَنْ يملك رقبتها، فلا بد أن يُستَأذَن حتى يكون أمر انقطاعها إلى الزواج في بعض خدماته مما هو معلوم لأوليائهن، وأمر أيضاً سبحانه ألا نستهين بأنها مملوكة ومهينة فلا نأتيها مهرها. بل يجب أن يُؤدَى لهؤلاء مهورهن بما يعرف، أي بالمتعارف عليه؛ لأن ذلك عوض البضع، فإذا كان الحق قد أمر بأن نستأذن مواليهن وأمر بأن نأتيهن أجورهن، هنا بعض الإشكال لأَنَّ المملوكة لا تملك؛ لأن العبد وما ملكت يداه لسيده.
نقول له: نعم، ولكن إذا قلت: العبد وما ملكت يداه لسيده فلا بد أن تحقق لها ملكاً أولاً ثم يكون ما تملكه لسيدها، أما أن تتعداها وتعطي المال لسيدها فإنها في هذه الحالة لم يتحقق لها مهر، فقولك: العبد وما ملكت يداه، أي أعطها فترة وفرصة لتكون مالكة بأن تُعطي الأجر تكريماً لها، أما كون ما لها لسيدها فهذا موضوع آخر. وبعد ذلك تذهب لتتزوجها إن ذلك يصح، فهل نفهم من ذلك أنك إن استطعت طوْلاً لا تنكح الإماء؟ لا. وهل هذا يقلل من شأن الإماء؟ لا. لماذا؟ انظر للحكم العالية التي لا يقولها إلا رب.
الله يريد أن يصفي مسألة الرق، فحين يأتي واحد ويتزوج أمة مملوكة لغيره فأولادها يتبعونها في الرق. فالأولاد في الدين تتبع خير الأبوين، وفي الحرية والرق يتبع الأولاد الأم، فإذا ما تزوج إنسان أَمَةً مملوكة لغيره فأولادها الذين سيأتون يكونون عبيداً. وحين يتركها لسيدها ويتزوج غيرها من الحرائر، فمَنْ تلده من سيدها يكون حراً، إذن فسبحانه يريد أن يصفي الرق، هذه واحدة، الشيء الآخر أن الزواج: التقاء الذكر بالأنثى ليكونا نواة أسرة، فإذا ما كان الزوج والزوجة أكفاء. فالزوج لا يجد في نفسه تعالياً على الزوجة، والزوجة لا تجد في نفسها تعالياً على الزوج؛ لأن كل واحد منهما كفء للآخر، وهذه تضمن اتزان الحياة واتزان التعامل، لكن حين يتزوج واحد أمةً ليس لها أهل فقد يستضعفها وقد يستعلي عليها. وقد يذلها. وقد يعيرها، وحين يكون لها أولاد قد يقولون لهم: ليس لكم خال مثلاً. والمشرع يريد أن يبني حياة أسرية متزنة، ولذلك اشترط الكفاءة، وقال:
{ { وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ .. } [النور: 26].
وبعض من الناس تفهم عندما ترى طيبة فلا بد أن يتزوجها رجل طيب، نقول لهم: إن هذا تشريع والتشريع تكليف وعرضة أن يطاع وعرضة أن يعصى، فسبحانه حين يشرع أن الطيبات يكن للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإن طبقتم التشريع تكون المسائل مستقيمة، وهذا يحمل الرد على مَنْ يقولون: ما دام ربنا يقول:
{ { وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ .. } [النور: 26] فكيف يتزوج فلان بفلانه وأحدهما طيب والآخر خبيث؟
ونقول: إن هذا الحكم ليس في قضية كونية حادثة، بل هو قضية تشريعية تقتضي منا أن نتبعه وأن نجعل الطيبين للطيبات والخبيثين للخبيثات ليتحقق التوازن. فإن كان خبيثاً وقال لها: أنت كذا وكذا تقول له: أنت كذا وكذا. فلا يقول هذه كي لا تقول له مثلها، أما الإنسان الطيب فهو يلين جانبه مرة وهي طيبة وتلين جانبها مرة.
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ .. } [النساء: 25] كلمة { ٱلْمُحْصَنَاتِ .. } [النساء: 25] تعني هنا الحرائر؛ لأنها لو كانت متزوجة فلن تكون محل تزويج لآخر. { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ .. } [النساء: 25] وكلمة "فتى" نطلقها في الحر على من له فتوة وشباب، ونطلق كلمة فتاة على أي أَمَة ولو كانت عجوزاً، وعلمنا رسول الله ألا نقول: هذا عبدي وهذه أمتي. وإنما نقول: "فتاي" و "فتاتي".
{ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم .. } [النساء: 25] ويتساءل البعض: وهل يتزوج الإنسان ممن يملكها؟ نقول له: لا. إنها حلال له فهي مملوكة له ملك يمين ويستطيع أن يكون له منها ولد، إذن فتكون ما ملكت أيمان غيركم، لأن الله يخاطب المؤمنين على أنهم وحدة بنيانية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" .
ويقول الحق: { { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ .. } [الحجرات: 11].
ويقول في موضع آخر:
{ { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ .. } [النور: 61].
فهل يسلم المؤمن على نفسه أو يسلم على مَنْ دخل عليهم؟
إن الحق يريد بالتشريع أن يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، ولذلك قال أيضاً:
{ { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ .. } [النساء: 29].
أي لا تقتلوا غيركم، والمعنى هو أن الوحدة الإيمانية يجب أن تجعلنا متكاتفين في وحدة.
{ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ .. } [النساء: 25]. وقد تقول: إن إيمان ملك اليمين ضعيف وتجعلها علة. يقول لك الحق: لا { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ .. } [النساء: 25] ولعل أمة خير في الإيمان منك؛ لأن هذه مسألة دخائل قلوب، وأنت يكفيك أن تعلم الظاهر.
والحق سبحانه وتعالى حين يعالج الأمر يعالجه معالجة رب يعلم واقع ما خلق ويعطي كل مطلوبات المخلوق، هو أولاً أوضح: أنتم إن كنتم لا تستطيعون طولاً أن تنكحوا المحصنات فانكحوا الإماء، وهذا من أجل مزيد من تصفية الرق.
بعد ذلك يقول: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ .. } [النساء: 25] فإن كنت ستتزوج يجب أن تجعل نصب عينيك أمراً هو: أن { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ .. } [النساء: 25]. أي أنكم جميعاً من آدم. وما دمت قد آمنت، فالإيمان سوَّى بينكما، فإذا ذهبت لتتزوج فلا بد أن تضع هذا نصب عينيك، إنه سبحانه يعالج واقعاً.
ويقول بعد ذلك: { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ .. } [النساء: 25]. وهذا إشعار بأن مَنْ تحت يده فتاة بملك يمينه فعليه أن يعاملها معاملة الأهل ليعوّضها عما فقدته عند أهلها هناك، ولتشعر أنها في حضانة الإسلام مثلما كانت في حضانة أهلها وآبائها أو أكثر.
إذن فالذي يملك لابد أن يجعل نفسه من الأهل، وبذلك يزيد الحق سبحانه وتعالى من أبواب تصفية الرق، وأوضح: فإن لم يُدخل واحد منكم مَنْ يملكه في هذه المصافي فسوف يبقيه رقيقاً، وإذن فعليه أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما لا يطيق، فإن كلفه ما لا يطيق فيدك بيده. وعندما يوجد معك إنسان تلبسه من لبسك وتطعمه من أكلك، وعندما يعمل عملاً يصعب عليه فأنت تساعده، فأي معاملة هذه؟ إنها معاملة أهل.
انظر كم مسألة يعالجها الحق: يعالج طالب الزواج ويعالج المملوكة، ويعالج السادة، إنه تشريع ربّ الجميع. فلا يشرع لواحد على حساب آخر. وما دامت ملك يمين ولها سيّد فهذا السيد له مصالح لابد أن تستأذنه، فقد لا يستطيع أن يستغني عنها لأنها تخدمه، فقال: { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ .. } [النساء: 25]، لكن في المهور قال:
{ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ .. } [النساء: 25] فالأمة تنكح بإذن من يملكها كي يعرف أن هناك من دخل شريكاً له في العملية ويأخذ البضع وهو الزوج، وحين يُستأذن السيد ويزوّجها فهو يعلم أنها لم تعد له، وبذلك لن يأخذها أحد من خلف ظهره، وهو بالاستئذان والتزويج يرتب نفسه على أن البضع قد أغلق بالنسبة له، وبقيت له ملكية الرقبة. أما ملك البضع فهو للزوج.
{ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ .. } [النساء: 25] فإياكم أن تقولوا: هذه مملوكة يمين وأي شيء يرضيها ويكفيها، لا. فلها مهر بالمعروف أي بالمتعارف الذي يعطيها ميزان الكرامة في البيئة، { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ .. } [النساء: 25] وقلنا: إن المحصنة هي العفيفة، { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ .. } [النساء: 25] والمسافحَة؛ هي مَنْ تمارس وتزاول عملية الزنَى، ويسمونها: امرأة عامة، ومتخذات أخدان: أي يتخذن عشّاقاً وأخدانا.
{ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ .. } [النساء: 25] أي إذا تزوجت الإماء وجاءت الواحدة منهن بفاحشة فلها عقاب. أما إن لم تحصن فليس عليهن حاكم ويقوم سيدها بتعزيرها وتأديبها؛ لأن الأمة عادة مبتذلة، لكن عندما تتزوج تصير محصنة، فإن أتت بفاحشة نقول لها: أنت لك عقابك الخصوصي، لن نعاقبك عقاب الحرّة، لأن الحرة يصعب عليها الزنَى، لكن الأمة قد لا يصعب عليها أن يحدث منها ذلك، فليس لها أب ولا أخ ولا أسرة، فقال: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ .. } [النساء: 25]، أي نصف ما على الحرائر من العذاب.
لكن الخوارج أخذوا الكلمة في معنى من معانيها ليخدم قضية عندهم وقالوا: إن "المحصنات" هن المتزوجات، هم يريدون أن يأخذوها بمعنى المتزوجات كي يقولوا: ما دامت الأمة عليها نصف ما على المتزوجة، إذن فالمتزوجة ليس عليها رجم؛ لأن الرجم لا ينصف، والخوارج أخذوا هذه وقالوا: إن القرآن لا يوجد فيه رجم واكتفوا بجلد الزانية مائة جلدة.
ونقول لهم: أنتم أخذتم المحصنة على معنى أنها المتزوجة، ونسيتم { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ .. } [النساء: 25]، فالمحصنات هن الحرائر، فلماذا أخذتم المحصنات هناك بمعنى الحرائر والمحصنات هنا بمعنى المتزوجات؟! إن عليكم أن تأخذوها بمعنى الحرائر ولا حجة لكم في مثل هذا الباطل. وبذلك تسقط الحجة، فالدليل إذا تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ثم نبحث بحثاً آخر، نقول: يقول الحق: { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ .. } [النساء: 25] لو أن الحكم على إطلاقه لما قال الحق: { مِنَ ٱلْعَذَابِ .. } [النساء: 25]، فكأن الذي عليها فيه النصف هو العذاب، وما هو العذاب؟ العذاب هو إيلام مَنْ يتألم، والرجم ليس فيه عذاب لأنه عملية إنهاء حياة، والآية تبين المناصفة فيما يكون عذاباً، أما ما لا يكون عذاباً فهو لا ينصّف والحكم غير متعلق به. فالعذاب إنما يأتي لمَنْ يتألم، والألم فرع الحياة. والرجم مزيل للحياة، إذن فالرجم لا يعتبر من العذاب، والدليل على أن العذاب مقابل للموت أن الحق سبحانه وتعالى حينما حكى عن سيدنا سليمان وتفقده الطير قال:
{ { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ .. } [النمل: 20-21].
فالذبح وإزهاق الحياة مقابل للعذاب، فقوله: { نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ .. } فالمتكلم فيه الآن العذاب وليس الرجم، وليس إزهاق الحياة وبهذا يسقط الاستدلال.
والذين يقولون: إن آيات القرآن لا تدل على رجم نقول لهم: ومَنْ الذي قال لكم إن القرآن جامع لكل أحكام منهج الله في الإسلام وأنه فصل كل شيء؟. القرآن لم يجيء كتاب منهج فقط، وإنما جاء معجزة وكتاب منهج للأصول، ثم ترك للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما نزل إليهم فضلاً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنص القرآن عنده تفويض من الله أن يشرع، وتلك ميزة تميّز بها صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فالله قد أعطاه الحق في أن يشرع، بدليل أنه سبحانه قال في صلب القرآن الذي يشتمل على أصول منهج الإسلام:
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ .. } [الحشر: 7].
إذن فللرسول عمل مع القرآن، وإلا فليقل لي مَنْ يدّعي أنّ في القرآن كل حكم من أحكام دين الله، من أين أخذ تفصيل حكم الصلوات الخمس؟ ومن أي آية أخذ أن الصبح ركعتان؟ وأخذ الظهر أربعاً وأخذ العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، من أين أخذها؟! إذن لا يوجد شيء من ذلك، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن القرآن جاء كتاب معجزة وفيه منهج يتعلق بالأصول. وما دام المنهج الذي تعلق بأصول الأشياء قد أعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرع، إذن فتشريعه مأمور به ومأذون فيه من صلب القرآن. ولذلك إذا جاء لك حكم من الأحكام وقال لك المتعنت: هات لي هذا الحكم من القرآن، ونظرت في كتاب الله فلم تجد، فقل له: دليل الحكم في القرآن هو قول الله:
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ .. } [الحشر: 7]، وأي حكم من الأحكام يأتي ولا تجد له سنداً من كتاب الله ويقال لك: ما سنده؟ قال: { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ .. } [الحشر: 7].
والمنهج أوامر ونواهٍ. إذن فالطاعة أن تمتثل أمراً وتجتنب نهياً، تلك هي الطاعة، كل منهج أو دين أمر ونهي، فامتثل الأمر واجتنب النهي. وأنت إذا تصفحت القرآن وجدت آيات الطاعة المطلوبة من المؤمن بمنهج الله والذي شهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تتمثل في الأمر والنهي. فإذا ما استقرأت القرآن وجدت - كما قلنا سابقاً - أن الحق سبحانه وتعالى يقول مرة في الطاعة:
{ { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ .. } [آل عمران: 32].
ولم يكرر الحق هنا أمر الطاعة، فالمطاع هو المكرر، فـ "أطيعوا" أمر واحد، نطيع مَنْ؟. الله والرسول، المطاع هنا هو الله والرسول، ومرة يكرر أمر الطاعة فيقول:
{ { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ .. } [المائدة: 92].
ومرة ثالثة يقول:
{ { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [النور: 56].
ومرة رابعة يقول:
{ { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ .. } [النساء: 59].
وأدخل هنا أولي الأمر أيضاً، إذن فمرة يأمر بالطاعة ويكرر المطاع فقط، أي: يوحد أمر الطاعة، ويكرر المطاع
{ { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ .. } [آل عمران: 32] فوحد أمر الطاعة وكررالمطاع، ومرة يكرر أمر الطاعة، ويكرر معها المطاع: { { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ .. } [آل عمران: 92]، ومرة يقول: { { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُول .. } [النور: 56] فإذا قال لك: { { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ .. } [آل عمران: 32] فالأمر قد توارد فيه حكم الله وحكم الرسول. إذن فتطيع فيه الله والرسول، وإذا كان الله أمر إجماليٌّ وللرسول أمر تفصيليٌّ كالصلاة والزكاة والحج، إذن فتطيع الله وتطيع الرسول.
وإذا لم يكن لله أمر فيه بل جاء من باطن التفويض في قوله سبحانه:
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ .. } [الحشر: 7]، فهذا الأمر أطيع فيه الرسول، لأنه جاء في آية أخرى قوله: { { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ .. } [النساء: 80]، لماذا؟ لأن الرسول عمل بالتفويض الذي أعطاه الله له حسب قول الحق: { { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ .. } [الحشر: 7].
وبقيت طاعة أولي الأمر التي جاءت في قوله:
{ { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ .. } [النساء: 59] أي أطيعوا أولي الأمر من باطن طاعة الله وطاعة رسوله، فلم يفرد ولي الأمر بطاعة وإنما جعل طاعته من: { { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ .. } [النساء: 59]، فلم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، بل قال: وأولي الأمر، أي من باطن طاعة الله والرسول، إنها دقة الأداء في القرآن. تأمل ما يقوله الحق سبحانه: { { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ .. } [الحشر: 7].
لقد قلنا: إن الطاعة امتثال أمر واجتناب نهي، والموجود هنا "آتاكم" و "نهاكم"؛ فـ "آتى" هذه جاءت بدل وما أمركم والنهي موجود بلفظة "وما نهاكم عنه" الأمر هو "آتاكم"، ولماذا لم يقل: وما أمركم به الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا؟ ولماذا لم يختصر فيقول: وما آتاكم الرسول فخذوه؟! لأن الإتيان من الرسول إما أن يكون قولاً وإما أن يكون فعلاً، ولكن أيكون المنهيّ عنه فعلاً يفعله الرسول؟! لا يمكن.
إذن فالنهي لا يتأتى إلا نهياً ومنعاً من الفعل، لكن الإيتاء يكون قولاً أو فعلاً؛ لأنه عندما يقول لك: لا تشرب الخمر، فماذا كان يفعل النبي كي نأخذه من الفعل؟ إن الرسول قطعاً لم يشرب الخمر. إذن فقول الرسول وفعله يتأتى في المأمور به، وأما في المنهي عنه فلا يتأتى إلا قولاً. بالله أمِنَ الممكن أن يأتي بهذا عقل بشري؟ لا يمكن، ولا يقولها إلا الله.
ثم نبحث بحثاً آخر يا خوارج. إن الرسول إنما جاء ليبلغ عن الله - ومراد التبليغ أن يعلمنا بالحكم، لنؤدي مدلوله، فإذا جاء حكم قولاً بالنص، فالذي يشرحه لنا هو ما يفعله الرسول، وحين يفعله الرسول أيوجد مجال للكلام في هذا النص؟ لا يوجد، بل تكون المسألة منتهية. إذن فالفعل أقوى ألوان النص في الأوامر؛ لأن الأمر قد يأتي كلاماً نظرياً، وقد يتأول فيه البعض. لكن عندما يفعل الرسول يكون الحكم لازماً؛ لأن الذي فعل هو المشرع.
أرجم رسول الله أم لم يرجم؟ قد فعل رسول الله ذلك، وفعله هو نص عمليّ. إنّ الفعل ليس نصاً قوليّاً يُتأول فيه. لقد رجم الرسول ماعزاً والغامدية ورجم اليهودي واليهودية وكانا قد أحصنا بالزواج والحرية، وفعل الرسول هو الأصل في الحكم، فدليل الخوارج إذن قد سقط به الاستدلال وبقي ما فعله المشرع وهو الرسول المفوض من الله في أن يشرع قولاً أو فعلاً أو تقريراً، أي يرى أحداً يفعل فعلاً فيقرّه عليه.
ثم نبحثها بالعقل: إذا كنت تريد ألا يوجد في الزنَى حد إلا الجلد، أتسوي بين من لم يتزوج ومن تزوج؟ إن المتزوجة لها عرض ولها زوج ولها نسب ونسل. هل هذه مثل تلك التي لم تتزوج؟! إن هذا لا يتأتى أبداً بالعقل، إذن فحكم الرجم موجود من فعل الرسول، والدليل الذي استدل به الخوارج هو دليل تسرب إليه الاحتمال. والدليل إذا تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
{ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ .. } [النساء: 25] ومَنْ هو المقصود بـ "ذلك"؟ المقصود به إباحة نكاح الإماء لمَنْ لم يجد طوْلاً أن ينكح من الحرائر. وما هو "العنت"؟ "العنت" هو المشقة والجهد، وإرهاق الأعصاب، وتلف الأخلاق والقيم، لأن الإنسان إذا هاجت غرائزه إما أن يعف وإما أن ينفلت. فإن انفلت فقد تسرب الفساد إلى قيمه وإلى خلقه، وإن لم ينفلت والتزم، ماذا يحدث؟ سيقع بين أنياب المرض النفسي وتأتيه الأمراض العصبية. فأباح له الله أن يتزوج الأَمَةَ، إن لم يجد طوْلاً في الزواج من الحرائر.
وبذلك يكون مفهوم الآية: إن الذي لا يخشى العنت فليس ضرورياً أن يتزوج الأَمَةَ. وليس هذا تزهيداً في الأَمَةِ بل فيه احترام لها، لأنها إن تزوجت ثم ولدت ممن تزوجته فسيصبح ولدها عبداً، والله يريد أن يصفي الرق والعبودية، فيوضح له: دعها لسيدها فإن أعجبته وَحَلَت في عينيه ووطئها وجاءت منه بولد فستكون هي والولد من الأحرار إنهما قد دخلا في دائرة الحرية.
إذن فالحق يريد أن يصفي الرق، ثم قال: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ .. } [النساء: 25] أي وصبركم عن نكاح الإماء. وأنتم في عفة وطهر عن مقارفة الإثم إن ذلك خير لكم من زواجهن، فنكاح الحرائر أفضل.
ويذيل الحق الآية: بقوله: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النساء: 25] أي إنه (غفور) لما قد بدر وحصل منكم من ذنوب استغفرتم ربكم منها (رحيم) بكم فلا يعاجلكم بالعقوبة شفقة عليكم وحباً في رجوعكم إليه.
ويقول الحق من بعد ذلك:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ... }.