التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٤٩
-النساء

خواطر محمد متولي الشعراوي

وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق: { أَلَمْ تَرَ .. } [النساء: 49]، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول: { أَلَمْ تَرَ .. } [النساء: 49] يعني: ألم تعلم، وكأن العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ .. } [النساء: 49] و "التزكية" هي أولاً: التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكُّوا بها أنفسهم أنهم قالوا: { { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .. } [المائدة: 18].
وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق:
{ { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ .. } [المائدة: 18].
يعني: إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا؟ أنملك لكم شيئاً؟ إذا كنتم تكذبونها على مَن يملك لكم كل شيء وهو الله - سبحانه - فما لنا نحن بكم؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضاً:
{ { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ .. } [البقرة: 111].
وتلك أيضاً قضية باطلة، وهنا نسأل: هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة؟. نقول: علينا أن نسأل: ما المراد منها؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله: عندما تركب جماعة زورقاً ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوي متوسط الموهبة على قيادتها هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة: ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهماً وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلاً منه، هذه تزكية للنفس، وهي مطلوبة؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن: فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق.
ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف!! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين الخصب، لكن مَنْ الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علماً. بل هبة من الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز - شفرة - الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له:
{ { قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ .. } [يوسف: 44]، و "أضغاث" مفردها "ضغث" وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنصفوا فقالوا: { { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [يوسف: 44].
لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك: لا أعلم فقد أفتى، فما دام قد قال: لا أدري فسيضطرك إلى أن تسأل سواه، لكن إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن قال: لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا: أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوا لأنفسهم أيضاً وقالوا:
{ { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [يوسف: 44]، وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه الفتيان: { { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ .. } [يوسف: 36].
ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام؟ لقد قالا وأوضحا العلة:
{ { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36].
ومعنى ذلك أنهما شهدا سَمْته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حَزَبَهما واشتد عليهما أمرٌ يتعلق بذاتهما قالا: لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا أزال أكررها: إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتّى عند الكذاب، والذي لا يشرب الخمر محترم عند مَنْ يشرب بدليل أنهما عندما حَزَبهما أمر قالا:
{ { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36].
وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن القبح؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر: لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مراده هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما: وماذا رأيتما من إحساني؟ إن عندي أشياء كثيرة:
{ { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا .. } [يوسف: 37].
فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل أنه قال:
{ { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ .. } [يوسف: 37].
إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردّها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي:
{ { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ .. } [يوسف: 37].
وبعد ذلك قال:
{ { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ .. } [يوسف: 38].
إذن: فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم:
{ { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [يوسف: 39].
أي: أإله واحد أحسن أم آلهة متعددة؟ فأنتم يا أصحاب الآلهة المتعددة جئتم لصاحب الإله الواحد مع أن التعدد - في الظاهر - يعطي القوة، لكن هذا التعدد أعطى الضعف؛ لأنكم يا أصحاب الآلهة المتعددة لجأتم إلى صاحب الإله الواحد:
{ { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [يوسف: 39].
إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زَكَّى، وهو الحق سبحانه وتعالى، وبعد ذلك عندما علم الملك قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقرباً مني. ثم بعد ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولاً في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخباراً لأشياء ستحدث، فلما وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة، فقال للملك:
{ { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ .. } [يوسف: 55].
إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية:
{ { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55].
لأن هذه المسألة تحتاج حفظاً وعلماً، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضاً عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم، قال له المنافقون: اعدل يا محمد! فيقول لهم: والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن: فمتى تكون التزكية مطلوبة؟ أولاً: أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند مَنْ يعلم التزكية وإلى مَنْ يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة؛ ولذلك يقول الحق:
{ { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [النجم: 32].
لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن: فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49].
إنّ الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحداً يتصنع ويتكلف في نفسه مدّة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم؟ لا. فعل الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49] وهذه مطلق العدالة.
ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولاً عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم "النخل" وهي الشجرة المفضلة؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثَلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة.
قال عبد الله فاستحييتُ، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هي النخلة قال عبد الله: فحدّثْتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا"
.
وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفاً و "مقاطف" و "كراسي". وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالاً على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية.
"ولا يظلمون فتيلاً" و "الفتيل" من "الفتلة" ومن معناها: الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض "الوساخات مِثل الفتلة"، أو "الفتيل" هو: الخيط في شق نواة البلحة ونواة التمرة، جاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة بالنواة.
بـ "الفتيل" هنا، وجاء بـ "النقير": وهو النقرة الصغيرة في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء بـ "قطمير": وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن: ففي النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و "النقير"، و "القطمير".
والحق يقول:
{ { فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً } [النساء: 53].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا أمثالاً يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضاً أمثالاً من السماء فيأتينا بمثل: "الهلال"، يقول في الهلال وهو صغير:
{ { كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يس: 39].
فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه "العرجون"، والعرجون عندما يكون جديداً يكون مستقيماً، لكنه كلما قَدُمَ ينثني وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالاً له في الأرض
{ { كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يس: 39]، والعرب قد أخذوا أمثالاً كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يُنتبه إليها مثل قول العربي:

وغاب ضوء قُمَيْر كنت أرقبهمثل القُلاَمَة قد قُدَّتْ من الظُّفر

فساعة تقص أظافرك تجدها مقوّسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو جاء بشيء واضح وقال: { { كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يس: 39] إذن: فالحق سبحانه وتعالى حين يعطي مثالاً لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير كذلك. إذن: فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني. { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49].
ويقول الحق بعد ذلك:
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ ... }.