التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
٢٨
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

لما جاء موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فقال: { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي .. } [غافر: 27] استجاب الله له وأعاذه، لا برسول ولا ملك ولا بأحد من أتباعه المؤمنين، إنما برجل مؤمن من آل فرعون كان يكتم إيمانه خوفاً من بطش فرعون قام مدافعاً عن موسى، وهذا أوضح في الحجة وأبلغ.
لكن لماذا { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ .. } [غافر: 28] ما دام مؤمناً؟ قالوا: كانوا يغلفون إيمانهم ويسترونه لأنه ليس لديهم القوة التي يَدْفعون بها الطغيان، فالإيمان في النفس حتى يجد الفرصة فيظهر ويجاهر، وها هو يظهر على لسان هذا الرجل المؤمن الذي يعلن أمام فرعون وجبروته أنه مؤمن، ويدعو بدعوة هي أشبه بدعوة الرسل، ويخبر بمنهج كأنه رسول.
وكلمة { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ .. } [غافر: 28] لها في الإسلام ملحظ وتاريخ، ومعنى كَتْم الإيمان أن الإيمان يحاول أن يبرز في تصرفات الرجل لكنه يكتم إيمانه، فهو حريص على أنْ يجعل إيمانه سراً بينه وبين ربه فقط ليستطيع أن يقول كلمة الحق ويجهر بها أمام القوم وهو غير مؤمن حتى لا يَؤْذَى.
إذن: فالإيمان عمل وجداني له نضج على جميع جوارح النفس الإنسانية، فالمؤمن تجده متواضعاً منكسراً يستجيب للحق ويخضع له، المؤمن عطوف كريم حليم رحيم، تلحظ إيمانه من تصرفاته، ولكنه يحاول أن يكتم هذا حتى يقف الموقف الذي يمكنه من الجهر بالإسلام جهراً قوياً عنيفاً.
لذلك يقولون: إن الإيمان عملية قلبية وهو سِرٌّ بين العبد وربه، ثم له أمر ظاهري بين المؤمن والناس، وقد يلتحم الأمران السر والجهر بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس، فقد يكون مؤمناً بينه وبين الله أما بينه وبين الناس فهو مؤمن أو غير مؤمن، لأن العملية الإيمانية يُبدي فيها فوق ما يظهر إيمانه، والرسول صلى الله عليه وسلم شرع هذا، كيف؟
قالوا: في غزوة الأحزاب حين اجتمعتْ قريش وغطفان واليهود، حيث استدرج اليهود كلاً من قريش وغطفان ليحاربوا معهم محمداً ليثأروا منه صلى الله عليه وسلم بعد مسألة بني قينقاع لما أذاهم رسول الله.
فلما ذهب حيي ومعه سلام بن مشكم إلى مكة ليستثيروا قريشاً وغطفان على رسول الله، قال لهم: يجب أن نقف جميعاً يداً واحدة في مواجهة محمد، لأننا إنْ تركناه سيستذلنا ويستذلكم، فلا بُدَّ أنْ تنجدونا بقوتكم، لكن قريشاً يعلمون أن اليهود أهلُ كتاب، فقالوا لهم: نريد أنْ نسألكم أولاً: أمحمد على حق أم نحن؟
وهم يعلمون موقف اليهود من قبل رسول الله، وأنهم كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ويقولون: سيأتي نبيّ أطلَّ زمانه سنتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم. المهم أنهم قالوا لهم: إنكم على حق ومحمد على باطل. وفعلاً اتحدوا في محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الحرب التي قال الله فيها عن المؤمنين:
{ { وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ .. } [البقرة: 214].
وسُميت هذه الغزوة غزوة الأحزاب أو الخندق، ويأتي جند من جنود الله
{ { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ .. } [المدثر: 31] ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا رسول الله لقد أُشْرب قلبي الإيمان ولا يعلم أحدٌ بإيماني وأنا أشهد أنك رسول الله، واسم هذا الرجل نُعيم بن مسعود الأشجعي فقال له رسول الله: "أنت رجل واحد وما غناؤك لي، لكن اكتم إيمانك وخذِّل عنا".
هذه أول مسألة في قضية كتم الإيمان، إذن: فَكتْم الإيمان جائز وله مهمة. فقال الرجل: لكن يا رسول الله سأضطر لأنْ أقول غير الحقيقة - أكذب يعني - قال: (افعل ما تحب).
فما كان من نُعيم بن مسعود إلا أن ذهب إلى قريش وغطفان وقال لهم: أنتم تعلمون وُدِّي لكم ومحبتي إياكم وقد جئتكم بنصيحة لأبرئ ذمتي من الوفاء لكم. إن اليهود ندموا على معاداة محمد وهم يريدون أنْ يتراجعوا ولن يتراجعوا إلا بشيء تكون لهم يد يطمئنون إلى معاهدة محمد.
فإذا أردتم أنْ تناجزوا محمداً مع هؤلاء وتضمنوا عدم خيانتهم فسوف يطلبون منكم سبعين رجلاً رهينة من قريش وغطفان مخافةَ أنكم إذا اشتدتْ الحرب وحميَتْ تتركوهم وترجعوا إلى بلادكم ويظلُّون هم في مواجهة محمد ويكونون هم أعداءه.
ثم ذهب إلى اليهود فقال لهم: أنتم تعلمون مودتي لكم ومحبتي إياكم، وإن هؤلاء القوم يعني قريشاً وغطفان ليسوا من بلدكم ولهم مكانتهم في بلادهم، ولهم أموالهم وأهلوهم، فإنِ استشعروا شيئاً فرُّوا وتركوكم في مواجهة محمد، فلتأخذوا منهم سبعين رجلاً رهينة حتى تضمنوهم.
فلما جاء أبو سفيان وقال: لقد طال بنا الموقف وتعب الخُفّ والحافر وطالت المدة، فيا معشر يهود هيا لننجز مهمتنا، قالوا: هذا يوم السبت ولا نقاتل فيه، ونحن لا نقاتل الرجل إلا أن نضمن أنكم معنا إلى نهاية المعركة فأعطونا سبعين رجلاً منكم رَهْناً.
عندها علم أبو سفيان أن كلام نعيم صحيح، فقال: ليس لنا أن نعود إلى بلادنا، ثم قال: يا قوم لينظرْ كل واحد منكم مَنْ عن يمينه ومَنْ عن شماله لأننا سنقول كلاماً مهماً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل إليهم سيدنا حذيفة، فكان بين صفوفهم فبادر مَنْ عن يمينه وسأله: مَنْ أنت؟ ومنْ عن شماله وسأله: مَنْ أنت؟ وكانت فطنةً ولباقة منه حتى لا يسأله أحد ولا ينكشف أمره.
بعد ذلك قال أبو سفيان: لم يَعُدْ أمامنا إلا الرحيل حتى لا نقع في مخالب اليهود فهيا، وضرب راحلته فقامت وهي معقولة فانقطع العقال.
الشاهد هنا أن نعيم بن مسعود كتم إيمانه عن القوم ليتمكن من القول الذي قاله، وإنْ كان غير الواقع، وهو لم يفعل ذلك إلا بعد أن استأذن فيه رسول الله، وهذا دليلٌ على أن كتم الإيمان جائز وأنه له مُهمة.
كذلك سيدنا العباس رضي الله عنه لا شكَّ أنه كان قد آمن برسول الله، لأنه ساعة أخذ العهد لرسول الله وكان لم يعلن إسلامه بعد، ذهب وقال: هذا محمد في مَنَعة من قومه، فإنْ شئتم أنْ تأخذوه فعاهدوه على كذا وعلى كذا وإلا فاتركوه، فكيف يأخذ العهد لرسول الله وهو ما يزال على دين قريش؟
إذن: لابدَّ أنه كان يكتم إيمانه حتى لا تجرؤ قريش على إيذاء رسول الله الإيذاء البالغ إكراماً لعمه العباس. فهذه مهمة كتم الإيمان، لذلك يقول تعالى:
{ { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106].
وفي غزوة خيبر كان في اليهود رجل اسمه الحجاج بن علاط السُّلَمي جاء في هذه الغزوة وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، لقد شرح الله صدري للإسلام وأشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا ذاهبٌ الآن إلى مكة لأموال لي هناك وأمانات أستردها؟ وسوف يسألونني فاسمح لي أنْ أقول قال له (قُلْ ما تشاء).
وذهب الحجاج إلى قريش فقالوا: لابدَّ أن عند هذا الخبر، وسألوه: هل ذهب القاطع إلى خيبر؟ يقصدون رسول الله لأنهم كانوا يتهمونه بقطع الأهل والعشيرة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فقال: نعم وهُزِم هناك هزيمة منكرة وقُتِل أصحابه، وسيأخذه اليهود أسيراً ويأتون به إليكم ليصنعوا معكم يداً تظل عليكم لهم طوال العمر، وقد جئتكم لآخذ أموالي التي عند الناس حتى أذهب إلى السَّبْي قبل أن تُباع فأشتري منه، فأخذوا يساعدونه في جمع أمواله ويُيسِّرون له مهمته.
بلغتْ هذه المقالة العباس فذهب إليه وقال له: يا حجاج ماذا تقول؟ قال: هو ما سمعت، قال: أو حَقٌّ ذلك؟ قال: أفتكتُم عليَّ؟ قال: والذي نفسي بيده أكتم عليك، قال: أمهلني حتى يخلو موضعي من الناس، فجلس مُدة ثم ذهب إليه فقال: والله الخبر الذي بلغك عني لم يحدث منه شيء، بل تركتُ محمداً منتصراً في خيبر وعروساً على صفية بنت حيي بن أخطب، ولكني احتلتُ لآخذ أموالي من هؤلاء، فاكتُمْ أمري واستر عليَّ ثلاثة أيام حتى أُعجز القوم وأفرّ ثم أشِع ذلك ما شئتَ.
وبعد ثلاثة أيام تطيَّب العباس بالطِّيب وأمسك عصاه ثم طاف بالبيت فلقيه واحد منهم وقال: والله لهذا هو التجلُّد يا أبا الفضل. يقصد بذلك المصيبة التي وقعت لابن أخيه، فقال العباس للرجل: والذي حلفتَ به ما هو تجلّد ولكنه حقيقة الأمر، لأن صاحبكم أخبركم بخلاف الواقع وابن أخي انتصر على أعدائه وهو عروسٌ على بنت حُيي بن أخطب في خيبر، قال: أو يكون ذلك؟ قال: هكذا، قال: أفلتنا الخبيث فأوْلَى له.
نقول: كتم هؤلاء إيمانهم ليتمكنوا من نُصْرة الدين وليكونوا جنداً من جنوده، وللإسلام جنديات مختلفة: جندية العلانية، وجندية الكتمان، وجندية التجسس على الأعداء.
بعض المفسرين قال: { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [غافر: 28] أي: من آل فرعون، وهذا غير صحيح بدليل أنه سيقول ويخبر بهذا الإيمان ويُفصله كأنه رسول، ولو كان الكتمان من آل فرعون لَقَال: يكتم إيمانه آل فرعون لأن الفعل (كتم) يتعدى بنفسه إلى مفعولين، كما في قوله تعالى:
{ { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء: 42].
لكن ماذا قال الرجل المؤمن؟
قال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } [غافر: 28] تأمل جرأة الحق من هذا المؤمن، فهو يجهر بهذا الاستفهام الإنكاري { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } [غافر: 28] يجهر به أمام فرعون. { أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } [غافر: 28] أي: بسبب قوله ربي الله فلا جريرةَ له غير هذا، يقولها الرجل المؤمن علانية أمام فرعون، وما أدراك ما فرعون، إنه الوحيد الذي ادعى الألوهية وقال لقومه
{ { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [القصص: 38] فلا شكَّ أن كلمة الرجل المؤمن تغيظه وتهدم أركان ألوهيته المدَّعاة.
وقوله: { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [غافر: 28] أي: بالآيات الواضحات فكيف يُقتل؟ ولنفرض أنه كذاب فلا يضيركم كذبه، لأنه كذب على الله وسوف يتحمل عاقبة هذا الكذب { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } [غافر: 28] يعني: وإنْ كان صادقاً لم تُحرموا خيره وأصابكم بعض هذا الخير. إذن: لماذا تقتلونه؟ فالاحتياط ألاَّ يُقتل.
لكن، هل معنى ذلك أن نترك كلَّ ملحد يقول ما يحلو له ويخوض في أمور الدين ولا نمنعه اعتماداً على { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } [غافر: 28] قالوا: لا بل يجب أنْ نُقدِّر هنا جملة: امنعوه أن يقول لكن لا تقتلوه. كثيراً ما نسمع عن الزنادقة الذين يخوضون في دين الله الآن، فماذا نفعل. أنتركهم ونقول: عليهم كذبهم؟
لا إنما يجب أنْ نتصدَّى لهم ونمنعهم من هذا الهراء، ونأخذ على أيديهم حتى لا يُحدثوا ما يضر بدين الله. كذلك قال الرجل المؤمن من آل فرعون يدافع عن سيدنا موسى عليه السلام كأنه يريد أن يستبقي حجة الحق لعله توجَد آذان فيما بعد تنصره.
ثم يقرر الحق سبحانه هذه الحقيقة: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [غافر: 28] هذا الكلام يُعَد تعريضاً وطَعْناً في فرعون، فالحق سبحانه لا يترك أحداً يكذب عليه دون أنْ يفضح كذبه، لماذا؟ لأن سَتْر هذا الكذب يُعتبر تدليساً في منهج السماء، وحاشا لله تعالى ذلك، لذلك نرى كلَّما ادَّعى أحدٌ النبوةَ افتُضِح أمره وعلم الناس كذبه، لأنه لا يصح أنْ يدَّعي كذابٌ النبوة، ولا يظهر الله للناس كذبه، وهذا مُتضمَّنٌ في قوله تعالى وفي وعده:
{ { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [غافر: 51].
وفي قوله:
{ { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 173].