التفاسير

< >
عرض

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
١١
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

وقال تعالى في أول سورة فاطر: { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1] الفاطر هو الخالق الذي يخلق الشيء على غير مثال سابق، ولا نموذج يُحتذى، كما يحدث مثلاً في عالم الصناعة الآن، فهناك دولة متقدمة صناعياً فتأتي دول أقل منها تأخذ صناعاتها وتُقلِّدها وتصنع على مثالها، صحيح تُطوِّر فيها وتُجدِّد وتضيف لكن للدولة الأولى السَّبْق في النموذج الأول.
فمعنى { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الشورى: 11] خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق { جَعَلَ لَكُم } [الشورى: 11] دلتْ على أن كل الأشياء مخلوقة لخدمة بني آدم هذا الخليفة الذي استخلفه الله في الكون؛ لذلك ورد في الحديث القدسي:
"يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له" .
وقوله تعالى: { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [الشورى: 11] يراد بالأزواج هنا الذكورة والأنوثة، كما في قوله تعالى: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36].
وهذه حقيقة أثبتها العلم الحديث أن الزوجية موجودة في كل شيء حتى في الجمادات، فَهِمْنَاهَا في الموجب والسالب في الكهرباء، ورأيناها في ذرات المادة، قديماً كانوا يعرفونها في الأحياء في الإنسان والحيوان والنبات، وبالتقدم العلمي وجدناها في كل شيء خلقه الله.
وهذا دليل صِدْق قوله تعالى:
{ { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36].
ومن عجائب الخلق في هذه المسألة أنْ ترى نباتاً يحمل خصائص الذكورة وآخر للأنوثة، ويتم التلقيح بينهما عن طريق الهواء أو الفراشات مثلاً، وفي نبات آخر تجد فيه خصائص الذكورة والأنوثة معاً في شجرة واحدة، فشجرة الجميز مثلاً منها ذكر وأنثى والنخل كذلك، أما شجرة المانجو فهي واحدة تُلقَّح نفسها، ومثلها سنبلة القمح وعود الذرة، فهذه كلها تُلقِّح نفسها، لأن فيها عناصرَ للذكورة وأخرى للأنوثة في نفس النبات.
ومعنى { مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [الشورى: 11] يعني: من نفس النوع ومن نفس جنسكم، والطبيعة تجذب كلاً من النوعين الذكر والأنثى إلى الآخر فيحدث تعايش بينهما ينشأ عنه غريزة هي غريزة الجنس، وهذه يصاحبها متعة. ومن التقاء الذكر والأنثى يحدث النسل، فالإنسان أخدها للنسل وللمتعة معاً، أما الحيوان فأخذها للنسل فقط، فترى الذكر منجذباً إلى الأنثى حتى يحدث الحمل، بعدها لا يقربها.
أما الإنسان فغير ذلك، الإنسان أخذها متعة وبعد ذلك يتهم الحيوان ويقول: شهوة بهيمية، هي في الواقع شهوة إنسانية، فَلِمَ نظلم البهائم؟
ومن نعمه تعالى على خَلْقه أنْ جعل الأزواج من جنس واحد ليتم التوافق والانسجام بين النوعين ويحدث التناسل وبقاء النوع؛ لذلك امتنَّ الحق سبحانه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعل لهم رسولاً من أنفسهم يحمل إليهم منهج الله
{ { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128].
نفهم من ذلك حرص الإسلام على الحياة الأسرية، وأن هذه الحياة ينبغي أن يسودها الوُدّ والوفاق والأُنْس، وأن تُبنى على المحبة، لذلك قال سبحانه:
{ { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم: 21].
والأزواج جمع زوج، وزوج لا تعني الاثنين كما يفهم البعض، إنما تعني (فَرْداً) معه مثله، كذلك كلمة توأم.
{ وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً } [الشورى: 11] سبق في سورة الأنعام:
{ { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ .. } [الأنعام: 143-144].
إذن: ما دام قال لنا ثمانية أزواج، ثم عدّد أربعة فكلُّ نوع مكوَّن من زوجين زوج وزوج { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [الشورى: 11] أي: في الجعل ويذرؤكم يعني يكثركم، نلحظ أنه تعالى لم يقُلْ يذرأكم به يعني: يُكثركم بالجعل، إنما { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [الشورى: 11] وفيه تأتي بمعنى بسببه.
كما في الحديث الشريف:
"دخلتْ امرأةٌ النارَ في هِرَّة حبستْها" يعني: بسبب هرة ونقول مثلاً لما واحد فتوة يعمل جريمة نقول (أهو راح فيها) يعني: بسببها.
وقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] له مناسبته هنا، فلما تكلم الحق سبحانه عن الأزواج في كل شيء أراد سبحانه أن يُنزِّه ذاته تعالى عن هذه المسألة، فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] ولنفي المماثلة نقول: ليس مثله شيء، أما هنا فقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11].
إذن: جعل لنفسه مثلاً، لأن العرب تنطق بالمثل وتريد به الإنسان نفسه، فإذا حدث من شخص أمرٌ ما يقولون له: مثلك لا يفعل هذا، يعني: أنت لا يصح أنْ تفعله، لأن مثلك لا يفعله، مثلك لا يجبُنُ عند الحرب، لكن لماذا لا يقولون أنت لا تجبن عند الحرب وأتى بالمثل؟
تأمَّل هنا المرحلية اللغوية، حين تقول: زيد مثل الأسد هذا يعني أنه دون الأسد، فأنت شبَّهته بالأعلى في الصفة. إذن: المثل أقلّ من الأصل، ولو فُرض أن الحق له مثل لا نقول: إن الله له مثل لأن مثله أدنى منه. إذن: لا مثْلَ له، وهذا معنى قول الشاعر:

وَلَمْ أَقُلْ مثْلَكَ أعْنِي به سِوَاكَ يَا فَرْداً بلاَ مُشبهِ

إذن: الأسلوب هنا في نفي المثلية أن يقول ليس مثله شيء، إنما أراد سبحانه أن يؤكد هذه المسألة { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] يعني: لو كان هناك مثل لله لا يكون له شبه، فكيف بالله تعالى؟ وكلمة { شَيْءٌ } [الشورى: 11] تطلق على جنس الأجناس يعني: كل ما يُقال له شيء فكل ما يُطلق عليه شيء ليس كمثله.
{ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11] أتى هنا بصفتين شركة بين الحق سبحانه وبين خَلْقه، فأنت تسمع والله يسمع، وأنت تبصر والله يبصر، لكن ينبغي أن نأخذ هذه الصفات لله تعالى في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فليس السمع كالسمع وليس البصر كالبصر. معنى { ٱلسَّمِيعُ } [الشورى: 11] أي: للأصوات { ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11] للمرئيات.
وفي موضع آخر يقول سبحانه:
{ { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [المائدة: 71] فالسمع نفسه عمل، والقول عمل والبصر عمل، وسبق أن أوضحنا أن العمل قول وفعل، والقوْلُ خاصٌّ باللسان، والفعل يشمل عمل كل الجوارح عدا اللسان، وبذلك يكون اللسانُ وحده قد أخذ شطر العمل، لأن القول به البلاغ، وبه إعلان الإيمان، وبه يُعبِّر المرء عن نفسه.
وهذه الآية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] تُعلِّمنا كيف نُنزِّه الله تعالى عن كل شبيه أو نظير أو مثيل، وتُعلِّمنا أن نأخذ كل وصف مشترك بين الحق وبين الخَلْق في هذا الإطار الإيماني.
ولمَ لا ونحن في صفات البشر نتفاوت، وفي إمكانياتنا نتفاوت، فتجد مثلاً (شيخ الغفر) له بيت و (مصطبة) لاستقبال الضيوف، وشيخ البلد والعمدة كل واحد له بيت وله مصطبة أو حجرة جلوس على قدره، أما المأمور مثلاً فهو أعلى من هؤلاء جميعاً، وعنده ما ليس عندهم، هذا تفاوت بين البشر، فما بالك بالصفات المشتركة بيننا وبين ربنا عز وجل؟