التفاسير

< >
عرض

وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣٧
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

وهذه حيثية أخرى لوجوب الحمد لله، أنْ يتصف سبحانه بصفة الكبرياء، والكبرياء هو العظمة والجلال والقهر، وأيضا الأسلوب هنا أسلوب قَصْر { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ .. } [الجاثية: 37] يعني: له وحده، وهذه من أعظم نِعَم الله علينا حتى لا نكون عبيداً لغيره.
فالله ما جعلك عبداً له إلا ليكفيك العبودية لغيره، ولولا هذا الكبرياء لله تعالى لكنّا عبيداً لكل ذي قوة ولكل مَنْ نحتاج إليه، حتى الحداد والنجار الذي يقضي لك مصلحة يمكن أنْ يستعبدك.
إذن: معنى { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الجاثية: 37] كأنه يقول لك: اطئمن يا عبدي فلن تكون عبداً لغيري، فالعظمة والجلال والكبرياء لي وحدي وأنا لكم جميعاً، والخلق كلهم عيالي، وأحبُّهم إليَّ أرأفهم بعيالي.
ألسْنا في المثل الشعبي نقول: اللي ملوش كبير يشترى له كبير، كذلك الحق سبحانه مع المؤمنين به، الذين يعبدونه وحده يكون في جانبهم يُيسِّر لهم أمورهم، ويقضي لهم حوائجهم، يستعينون به فُيعينهم ويلجأون إليه فيحميهم ويؤيدهم. إذن: هذه الصفة لله تعالى تُعدُّ من أعظم نِعمَه على عباده.
والحديث القدسي يؤكد هذه الصفة لله تعالى وحده، فقال سبحانه في الحديث القدسي:
"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمَنْ نازعني واحداً منهما قذفتُه في النار" .
لماذا؟ لأنه لم يخلق هذا الخَلْق ولا يُؤتمن عليه، لذلك الإنسان لا يتكبَّر على الخَلْق إلا إذا حُجبت نفسه عن استحضار كبرياء الحق سبحانه: إنما الذي يستحضر في نفسه دائماً كبرياء الله يستحي أنْ يتكبَّر، وأنْ ينازع ربَّه في هذه الصفة.
والكبرياء مادتها كبر تقال بفتح الباء للدلالة على الكبر والزيادة في المادة، وبالضم تدل على العظَم، ومنه قوله تعالى:
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [الكهف: 5] في حادثة الإفك.
والحق سبحانه أخبرنا أن من أسمائه تعالى الكبير ولم يَقُلْ الأكبر، مع أن الأكبر تعطي ميزة على الكبير، لكن جعلها الله تعالى صفة له في شعار الصلاة، فنقول: الله أكبر. لأنها تعني أن الصلاة تخرج من الكبير إلى الأكبر، وكأنه تعالى يريد أنْ يقول لنا: إن أعمال الحياة وحركتها شيء مهم وهو كبير لكن الله أكبر.
ولأهمية العمل والسعي في حركة الحياة ترى أنه في سورة الجمعة أخرجك من العمل لتؤدي الصلاة، ثم بعد الصلاة أمرك بالعودة إلى السعي والعمل:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ .. } [الجمعة: 9].
فأخذنا من قمة العمل وهو البيع ليعطينا الشحنة الإيمانية التي تُعيننا على الاستمرار في مسيرة الحياة، فلما انقضتْ الصلاة قال لنا:
{ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة: 10].
إذن: لا نحقر العمل لأنه عند الله كبير، وبه قوام الحياة واستمرارها، لكن إذا ما قُورن العمل والسعي بالصلاة فالصلاة أكبر وأهمّ وأعظم، فإذا عُدْنا إلى التسمية نجد أن الله اختار لنفسه سبحانه الكبير لا الأكبر، لأن الأكبر ما دونه كبير، أما الكبير فما دونه صغير، فكلُّ شيء دون الله صغير.
وقوله: { وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الجاثية: 37] العزيز هو الغالب الذي لا يُغلب، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، فصفة الكبرياء لله تعالى لا تعني القهر والجبروت والفتونة بلا ضابط، بل هو أيضاً سبحانه حكيم يُصرِّف الأمور وفق حكمة مطلقة.
والمتأمل في سورة الجاثية يجد أنها بدأتْ بقول الله تعالى:
{ حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجاثية: 1-2] وختمتْ أيضاً بقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الجاثية: 37].
وكأن السورة وُضعتْ بين قوسين من العزة والحكمة لله تعالى والكبرياء والحمد لله سبحانه، ومن العجيب أن الأحقاف بعدها بدأتْ أيضاً بقول الله تعالى:
{ حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجاثية: 1-2].
فكأن الله تعالى يؤكد على هذه الصفات ويُرسِّخها في نفوس المؤمنين ليزيدهم اطمئناناً به سبحانه وبمنهجه.
وكأنه سبحانه يقول لهم: اطمئنوا، فالذي أنعم عليكم قديماً بأنْ أوجدكم من عدم وأحيا مادتكم بروح منه، ثم أمدَّكم بمقوِّمات الحياة واستبقائها وهداكم إليه بآياته التي تُحيي قلوبكم وتعطيكم الحياة الباقية يوم القيامة.
فهو سبحانه كما ضمن لكم الماضي يضمن لكم المستقبل، فنِعَمه لا تُسلب، وعطاؤه لا ينفد، لأن له الكبرياء في السماوات والأرض، فلا تُوجد قوة غيره سبحانه تنقض هذا الخير أو تمنعه عنكم.
والحق سبحانه وتعالى حينما يجمع بين صفتي العزة والحكمة إنما ليقول لنا: انتبهوا إذا أصابتكم أحداثٌ تناقض هذه العزة في مشوار الدعوة، فاعلموا أنها ما حدثتْ إلا لحكمة.
فقد يقول قائل مثلاً: إذا كان الله عزيزاً لا يغلب، فلماذا ترك رسوله لأهل الطائف يؤذونه ويسبُّونه ويقذفونه بالحجارة حتى أدموْا قدميه الشريفتين.
نقول: ابحثوا عن الحكمة، فمن الحكمة المرادة لله تعالى حين يعلو الشر أنْ يُمحص أهل الخير، وأنْ يُصفي قاعدة الإسلام بحيث لا يثبت عليه إلا الأشداء في العقيدة الثابتون على الحق، فلا يحيدون عنه، فعلى أكتاف هؤلاء سيُحمل الدين وتنتشر الدعوة، فلا بدَّ من التمحيص وتمييز المؤمنين من المنافقين.
تذكرون قصة الحديبية عندما ردَّ الكفارُ رسول الله والمؤمنين الذين جاءوا معه لزيارة البيت الحرام ومنعوهم من دخول مكة وهم على مَقْربة منها، وقد وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على العودة دون أنْ يدخل مكة، ودون أنْ يعتمروا وعقد معهم صلح الحديبية.
لذلك غضب المسلمون وكادوا أنْ يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة،
"حتى إن عمر بن الخطاب يجادل رسول الله يقول له: يا رسول الله ألسْنا على الحق؟ يقول رسول الله: بلى، يقول: أليسوا على الباطل؟ يقول: بلى. يقول: فلم نعطي الدَّنية في ديننا، فيقول له الصِّديق: الزم غرزك يا عمر، إنه رسول الله" . يعني: الزم حدودك واعرف مركزك.
ذلك لأن المسلمين كانوا على شوق للبيت وتحمَّلوا مشقة السفر إليه حتى كانوا على بُعدْ عشرين كيلوا متراً من مكة، وساقوا معهم هَدْيهم واستعدوا للعمرة فشقَّ عليهم أنْ يُمنعوا منها، لذلك تململوا من قرار الرجوع.
"حتى إن سيدنا رسول الله يقول لزوجته السيدة أم سلمة رضي الله عنها: هلك الناس يا أم سلمة. فتقول: وَلِمَ؟ قال: أمرتُهم فلم يطيعوا، قالت: يا رسول الله اعذرهم فقد جاءوا على شوْق للبيت، لكن اذهب يا رسول الله وافعل ما أمرك الله به، فإذا رأوْك تفعل عرفوا أن الأمر عزيمة وفعلوا مثلك، فطابت نفسُ رسول الله وذهب ففعل" .
فلما رآه القوم فعلوا مثله وهدأتْ نفوسهم إلى قرار رسول الله، وعادوا إلى المدينة دون عُمرة، وقبل أنْ يصلوا إلى المدينة نزل الوحي على سيدنا رسول الله يُبيِّن لهم الحكمة التي غابتْ عنهم ويُعطيهم الدرس في أن العزة مقرونةٌ بالحكمة.
قال تعالى:
{ هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح: 25].
فالحكمة إذن في منعهم من دخول مكة هذا العام، لأن فيها إخواناً لهم آمنوا سِراً وستروا إيمانهم، فلو دخلوا معهم في معركة لالتقى المؤمنون وجهاً لوجه، ولقتلتُم إخوانكم وأصابتكم معرّة بسبب ذلك. يعني: إثم أو سُبَّة وعار.