التفاسير

< >
عرض

قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ
٧٧
-المائدة

خواطر محمد متولي الشعراوي

عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله: { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها. والغلو هو أن يتطرف إنسان في حكم ما إيجاباً أو سلباً. وهو إما الإفراط في المنزلة العالية وإما التفريط في المنزلة الدنيا. ولذلك نجد المتناقضات دائماً في الغلو. "ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسيدنا عليّ - كرم الله وجهه -: يا عليّ، يهلك فيك رجلان . . محب غال ومبغض غال ويقول: يا عليّ لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" .
ويقول: "يا علي ستقاتلك الفئة الباغية"
). إن هناك من أحب سيدنا عليًّا إلى درجة أنهم اعتبروه نبياً وقالوا: إن الوحي أخطأ عليًّا وجاء إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أو اعتبروا عليًّا إلهاً!! وكل ذلك غلو، فقد أحبّوه إلى منزلة فيها غلو وإفراط.
أما الخوارج فقد قالوا عن سيدنا علي: إنه كافر. جاء الغلو - إذن - من ناحية المحبين فجعلوه نبياً أو فوق ذلك مما يدخلهم في الشرك، أو من المبغضين القائلين بتكفيره وإخراجه من دائرة الدين، ولذلك يجب ألاّ نغلو في الدين فلا نحب إنساناً ونرفعه فوق مستوى البشر، ولا نبغض إنساناً وننزل به إلى الحضيض. بل يجب أن نعطي كل واحد قدره ومقداره الذي وضعه الله فيه؛ لأن وضع الله له هو تكريمه:
{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة: 77].
وجاء مثل هذا القول في آية أخرى:
{ { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } [النساء: 171].
وحتى نفهم أن مسألة الغلو إنما جاءت في ادعاءات ألوهية البشر؛ قال الحق بعد ذلك:
{ { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171].
فلا داعي للغلو بنسب الألوهية له أو أنه ثالث ثلاثة. فإن كنتم متشككين ووصلتم إلى هذا الشك بسبب عدم عنصر الذكورة في مجيء عيسى، فافهموا أن كل الأشياء جاءت بـ "كن"؛ لأنه وإن وُجدت مقدمات للإنسان، فَرَقَّ هذه المسألة إلى واحد لم يأت من إنسال، وستصل إلى آدم وآدم من تراب؛ إذن كل الكون كلمة. وإن وجدت أسباباً فمما طمره الله في الكلمة الأولى، فحين يجيء إنسان أُنشئ بكلمة فلا تقولن: إن هذا شيء عجيب؛ لأن الكون كله إنما نشأ بكلمة:
{ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82].
وإن كانت الفتنة قد نشأت في ظاهر الأمر من أن المسيح ليس له أب في عالم الإنسال وقانون التناسل، فما كان يجب أن تكون الشبهة في هذا؛ لأنه مخلوق من أم، وآدم مخلوق بلا أب ولا أم. وكان يجب أن تكون الفتنة في آدم أكبر. والكلمة من الله تنشئ حياة. والحياة إدخال روح في مادة لتهبها الحركة والحس ومقومات الحياة. إذن فالكلمة تقال من الله فتأتي الروح لتدخل في المادة:
{ { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171]. { وَرُوحٌ مِّنْهُ } مثلها مثلما قال في آدم: { { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [الحجر: 29].
إذن فآدم كلمة، وآدم روح منه، وكذلك المسيح، فلا شبهة هنا ولا شبهة هناك. ويطلب الحق من المنسوبين إلى السماء:
{ { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } [النساء: 171]. فإذا كنتم منسوبين إلى السماء فلا تذبذبوا أفكار الناس بمثل هذه المسائل، وكان يجب أن تقفوا بعيسى عندما أراد الله له من تكريم؛ لأن التكريم هو أن يكون أسوة حسنة، فلو كان من جنس آخر غير البشر لامتنعت الأسوة فيه؛ لأن الأسوة إنما تكون من جنس من يتبعها، فلو رأه الناس خاشعاً متعبداً لما استطاعوا أن يفعلوا مثله لو كان من مادة أخرى غير مادة البشر.
وقلت مرة: لو أن إنساناً رأى أسداً يفترس في الغابة ويصول ويجول على الحيوانات، أيفكر واحد من الرائين أن يجعل نفسه أسداً؟. لا. لكن لو رأى فارساً مثله شجاعاً في حرب يصول ويجول في الأعداء فهو يقلده ويحاول أن يكون مثله. إذن فالأسوة لا تكون إلا مع وحدة الجنس، فلو أنه لم يكن من جنس البشر لما صلح أن يكون رسولاً.
{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ } لقد جاء الحق هنا بالحديث شاملاً لكل أهل الكتاب؛ لأن كلا منهما جاء بطرفي الأمور.. فاليهود اتهموا سيدتنا البتول المصطفاة مريم بما ليس فيها، وأولئك جاءوا بالمغالاة في الجهة الأخرى؛ لذلك يأمرهما الحق بعدم المغالاة؛ لأن الحق لا يتعاند؛ فهو شيء ثابت لا يتغير أبداً ولا يتعارض. والإنسان إن رأى حدثاً من الأحداث بعينيه ثم طُلب منه أن يحكيه فهو يحكيه الآن ويحكيه غداً ويحكيه بعد عام وتظل روايته واقعاً لأنه شهده وهذا هو الواقع المشهود يفرض نفسه عليه، لكن الكاذب لا يذكر ذلك، وقد يقول قضية ويكون فيها كاذبا فلا بد أن يغير من الحقيقة عندما يحكيها لمرة ثانية. ولذلك يقال "إن كنت كذوباً فكن ذكوراً".
إن الذي يحكم الحق هو واقعة؛ لأن المتكلم به يستقرئ واقعاً. لكن الكاذب لا يستقرئ واقعاً فلا يعلم ماذا كذب في المرة الأولى. ونذكر الكاذب الذي جلس يقول: مرة كنا سائرين وخرجنا من القرية ذاهبين إلى المدينة لنأتي بحاجات عيد الفطر. وكانت الدنيا قمراً كالظهر وقوله: "قمراً كالظهر" هي التي تكشف كذبه، فكيف يكون في ليلة العيد قمرٌ، وأول ليلة في عيد الفطر هي أول ليلة في شوّال، وليس فيها أي قمر، الهلال يكاد يكون مخفياً.
إذن فالذي يستوحي واقعاً لا يتغير كلامه لأنه حق. والذي يستوحي غير الواقع لا يذكر ماذا قال فيخلط. لذلك لا يقولن إنسان غير الحق لأن قوله سيتضارب. وإذا تضارب هذا القول في مسألة الألوهية فإن الناس قد تشك في منهج السماء الذي يتبعونه. وإذا شك الناس في منهج السماء فسيكون عليكم وزر إضلال الناس؛ لأن الذي يتعرض لهذه القضية يجب ألا يجرب الناس عليه أي شيء من المخالفة. ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه السلام:
{ { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الممتحنة: 5].
لماذا قال سيدنا إبراهيم هذا الدعاء؟؛ لأنه إن قال شيئاً ثم عمل بما يناقضه فقد يتصور من يراه أنه - والعياذ بالله - كذاب.
{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } ويا ليتهم ضلوا فقط في ذواتهم بل هم يحاولون إضلال غيرهم. لذلك قال سبحانه:
{ { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [البقرة: 109].
وسبحانه يوضح لهم: لا تفعلوا ذلك حتى لا تضلوا؛ لأن وزرك أن تعمل، وهناك وزر آخر هو أن تُضلِّل غيرك. ولذلك يقول الحق:
{ { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل: 25].
قال الحق ذلك مع أنه قال:
{ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام: 164]. وحتى نفهم الأمر علينا أن نعرف أن الوزر الأول هو وزر الضلال؛ والثاني هو وزر الإضلال.
{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ } أي لا تقلدوا أناساً اتبعوا الهوى. والهوى هو لُطف موقع الشيء وقربه إلى النفس فيصنعه الإنسان على طريقة لا تنبغي. ولذلك كل كلمة "هوى" في القرآن جاءت في مجال الخسران والضلال. وعندما نقرأ قوله الحق:
{ { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ص: 26].
وهو القائل سبحانه:
{ { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ } [طه: 16].
وقد جاء الهوى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"
). أي أن المطلوب أن يطوِّع الإنسان هواه لمطلوب الله. وما دام قدْ طوِّع هواه لمطلوب الله، فهذا يعني أن هواه الشخصي قد امتنع. { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }. إنّ هذا هو النهي عن اتباع الهوى الذي يضل ويكون سبباً في الإضلال عن سواء السبيل.
ويقول الحق بعد ذلك:
{ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ... }.